Image title

(1)

قيل لعبد الله ابن المُقفّع: ما البلاغة؟ قال: “هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يُحسن مثلها” [الكشكول للعاملي]. وجريا في مضماره أقول: “آية الشعر الجميل هو أن يدفعك للبحث عن قصيدة مُختبئة في إحدى زوايا قلبك.. لتُرغمها على الخروج من عالم المشاعر إلى عالم الإبداع”.

ليس بالضرورة أن يكون الشاعر في (توب 10 الشعراء) لتتفاعل معه. بعض قصائد امرئ القيس تمرّ عليها مرور الكرام (والله أعلم أهو من قالها أم نحلها له الرّواة!) في حين تستوقفك أبيات لشعراء مبتدئين، وآخرين مُبرّزين مغمورين، تثير في نفسك كوامن التفكير وتُحرّك وجدانك ليُخرج خبئا استعصى من قبلُ إخراجه.

اشتُقَّ “الشعر” من نفس مادة “الشعور” و”المشاعر”، لذا كان آية الشعر الحسن أن يركب وسيلة النقل “الشعور” ليصل إلى محطة “المشاعر”. ولَـمَّا قرأت قول الكاتبة الشاعرة رحاب شريف، في مدونتها (رحابيات):

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ      وقتل النفوسِ قُبيلَ الأجلْ

تحرّك وجداني واستحثني على الكتابة. ماذا أكتب! لا أدري.. غير أني أحسست برغبة جامحة لأكتب دونما تفكير.

في الفيلم الشهير “العثور على فورستر” Finding Forrester  الذي جسد فيه الممثل الكبير “شين كونري” دور الكاتب العبقري الذي آثر الخمول فاختفى عن عالم الأضواء والشهرة والحياة مع الناس، قدّم الكاتب الشيخ نصيحة غالية للشاب المراهق “جمال والاس” الذي أدرك ببداهته أنه مشروع كاتب كبير: “لا تُفكّر عندما تكتب.. اكتب المسودة بقلبك ثم راجعها بعقلك”. وهذه النصيحة/ الحكمة تنفع كثيرا في مجال الكتابة الأدبية حيث يكون الوجدان هو المحرك الأول للقلم (نحن نعود إلى القلم مرة أخرى بعد تجربة “غالاكسي نوت” الناجحة! صار يُسمّى”القلم الضوئي”، وهذا الاسم يصلح عنوانا لنص أدبي مُغرٍ!).

الشاعر الكبير محمود درويش (“التوراتي” حسب وصف الشيخ عبد الله الهدلق، ذاك السلفي الممسك بأعنة البلاغة ـ وهو حالة سلفية نادرة [كتابه ميراث الصمت والملكوت لا غنى للمتأدب عن مطالعته وهو أول ما قرأت من الكتب الرقمية على الأيباد]) اقترب من هذا المعنى عندما حاول وصف الحالة الإبداعية التي تتلبّس الكاتب وتُحيط به أثناء الكتابة، حيث قال:

لا دَوْرَ لي في القصيدةِ

غيرُ امتثالي لإيقاعها:

حركاتِ الأحاسيس.. حسّاً يُعدِّل حساً

وحَدْساً يُنَزِّلُ معنًى

وغيبوبة في صدى الكلمات [لاعب النرد]

وأرى هذا الوصف أقرب إلى الدقة من وصف العرب الأوائل الذين اعتبروا الإبداع الشعري وحيا من وحي الجنّ، وقد قال المعري يصف تلك الظاهرة:

وقد كانَ أربابُ الفَصاحَةِ كُلّما       رأوا حَسَناً عَدّوهُ من صَنعةِ الجنِّ

مُشيرا إلى ما تواتر عن الشعراء العرب الذين أغربوا بذكر أسماء الشياطين التي توحي لهم القول، كقول حسّان بن ثابت (رضي الله عنه):

وَلي صاحِبٌ مِن (بَني الشَيصَبانِ)       فَطَوراً أَقولُ وَطَوراً هُوَهْ

هذا، ولأبي العلاء نص إبداعي جميل حول أشعار الجنّ وما نحله الإنس لهم في [رسالة الغفران].

(2)

أغرتني نفسي بكتابة كلمات على نهج هاتيك الأبيات.. فجاء البيت الأوّل يتهادى:

يُذيب الفؤادَ اختفاءُ الأَملْ *  فدمعُ القريب/ الغريبِ انهمَلْ

ثُمّ وجدتُني أُفكر في البيت الذي يليه.. أغرقتُ في التفكير قليلا.. فكتبتُ البيت الثاني لكنّني سرعان ما حذفتُه وصرفتُ نفسي عن مواصلة استدعاء الشعر.. لأنني وجدتُني أخالف مذهبي في النص الإبداعي (غيبوبةً في صدى الكلمات)، وأنا لا أملك من الغواية ما يؤهلني لأحظى بشيطان يُملي عليّ الشعر، فمن يدري.. ربما يكون للأوائل وجه حق في إشراك الجنّ في العملية الإبداعية، ولو من حيث التسويق للقصائد.

بدلا عن ذلك، أعدت النظر في مطلع الأبيات التي حفزتني على الكتابة:

أَليسَ المَمَاتُ مَمَاتَ الأمَلْ      وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ؟

وبعيدا عن تشابه الإيقاع والقافية (وشيء من المعنى) مع بيت ابن زيدون، شاعر الأندلس، إذ قال:

عَلَيكِ السَلامُ سَلامُ الوَداعِ       وَداعِ هَوىً ماتَ قَبلَ الأَجَلْ

تداعت عليّ الأفكار.. لا أفكار الشعر والأدب والهوى، ولكن أفكار المتكلمين والفقهاء الذين يقيسون الكلمات بالمسطرة ويُحوّلون كلّ عبارة إلى مشروع قضية تُحشر لها الأدلة وعليها، وتُنصب المحاكم لمقاضاتها!!

(3)

بدلا من النّفاذ إلى المعنى البديع الذي حواه الشطر الأول (الممات الحقيقي هو موت الأمل) ولّيتُ وجهي قِبَل الشّطر الثاني.. (=طبعا هناك ما يشفع لي لأن العين عندما تنظر للصفحة تنحاز لأعلى ما في اليسار، ثم أعلى ما في اليمين، ثم تنتقل إلى أسفل اليسار فأسفل اليمين على شكل الحرف اللاتيني (z)، والعهدة على خبراء العيون والدماغ.. على الأقل صدّقهم أرباب النشر الصحفي الذين بنوا تصميم صفحات الجرائد على هذه النظرية=) بدلا من تأمل المعنى الجميل الذي حوته، سحبني الشطر الثاني (وقتلُ النفوسِ قُبيلَ الأجلْ)، ونقلني هذا المعنى إلى الصراع القديم بين جماهير المتكلمين (معتزلة وأشعرية) حول قضية “هل يموت الميت بأجله أم يُمكن أن يموت قبله؟”. فقلتُ: لو وقع هذا الكلام إلى خُبراء التصنيف (ليس تصنيفَ المكتبات أعني بل تصنيف الناس إلى فرق ومذاهب وملل ونحل لا يكون بين بعضها سوى مليمترات قليلة!)، لقالوا: إن صاحب هذا الكلام معتزلي، ولا كرامة! لكنّ العزاء أنه لو وقع بين يدي أبي عثمان الجاحظ، وهو الأديب الأريب، لاحتفى به، وأدرجه ضمن دواوينه، وعدّ قائله من عقلاء الناس إن كان رجلا.. فإن كانت امرأة عدّها من الحكيمات ذوات العقل الكامل! فسبحان من جعل اختلاف العقول بين الناس أكبر من اختلاف ألسنتهم وألوانهم! وسبحان من فرّق بين الفقيه وبين الشعر، حتى لا يكاد يُحسن من قوله شيئا وإن حفظ أوزان الخليل، وميّز بين فصيح اللغة والدّخيل (طبعا لا أقصد تركي الدّخيل ولا خطر على بالي!).

وبعد؟

أكلّ هذا الكلام المتناثر من أجل أبيات قرأتُها؟

نعم.. لأنني قرأتُ فيها نفسي.. أنا الواقف على شفير موت الأمل بداخلي، يتنازعني شابٌّ يافعٌ أديبٌ يهوى الحياة، وشيخٌ فقيهٌ يُمارس دور الرقابة وينهى صاحبه عن التصابي.. أولستُ أنا ذلك (الشيخ بمكة، والعاشق بباريس)، أقّدم رجلا وأؤخر أخرى، وكأني أسمع يزيد بن الوليد يقول لي كما قال لمروان بن محمّد لمّا بلغه تلكّؤه في بيعته: “أمَّا بعدُ؛ فإني أراكَ تُقدِّم رِجْلاً وتؤخِّرُ أُخرى، فاعتمدْ على أيتهما شئت، والسلام” [أدب الكاتب لابن قُتيبة] فعلى أي القدمين سيكون اعتمادي؟