يقرأ ما تكتبه بعيني المحقق الباحث عن تفاصيل جريمة ما.. عن بقايا أدلة تشي بخيانتها.. تفضح مشاعرها وتعلن في عالم الإبداع ما حرصت على إخفائه في عالم الواقع.
يستنطق كل حرف، يُسائل المعنى، يُقلّب الكلمات لعله يلمح تحتها شيئا من بقايا غيره.. عطره أو سيجارته.. يسترق السمع إلى أنين حرفها لعله يلتقط ذبذبات حضوره.. تذوب الكلمات أمام ناظرَيه فلا يرى غير الضمائر.. ضمائر ذلك الغائب الحاضر في كل تفاصيلها.. “هو” و”الهاء” التي كانت تشي به..
من تُراه يكون هذا الذي جعلها تُفجّر أنوثتها التي افتقدها منذُ زمن في كلمات كهذه الكلمات؟ ذاك الذي تهتم لسؤاله.. تخاطبه وكأنه معها حاضر لا يغيب.. تستنطقه.. تُراوده.. تعلن عن مشاعرها تجاهه.. تهتم لأمره.. كلمة منه أو ملاحظة عابرة تدفعها إلى كتابات لا تنتهي: تُناقشه فكرته، تستوضح قصدَه.. تطلب مشورته.. تتجمل أمامه بالكلمات.
كل كلماتها ـ في نظره ـ تشي بحضور هذا الطرف الثالث المجهول.. كان يُحس بوجوده، ولكنه لم يعثر على دليل يؤكد صدق حدسه.. وخيانتها.
لطالما سألها: من هذا الذي كتبت عنه؟ من تُراه يكون؟ كيف تسمحين لنفسك بالحديث مع الغرباء عن مشاعر كهذه؟
حاولت جاهدة إخباره بأن مشاعر المُبدع تتجاوز ذاته.. هو يُترجم عن الوجود ما يحدث فيه: أنة متألم، وزفرة مُشتاق، ودموع ثكلى.. كلها مشاريع مشاعر يلتقطها الأديب فيسجلها في دفتر الحياة. لكنه كان يصر في كل مرة: “أن تكوني مبدعة يعني أنك خائنة”.
كانت لتسأله: هل كان يعرف كم عدد النسوة اللائي هام بهن المتنبي وذكرهنّ في قصائده؟ وهل استطاع أن يُحصي خيانات عمر بن أبي ربيعة في مكة.. حيث يتفرس في وجوه الحسان ويُنشد لأجلهن شعرا تتغنى به عذارى المدينة؟ لكنّها أدركت أنها لن تصل معه إلى شيء.. هو يصر أن يقرأها بعيني فقيه.. وهي تصر أن تكتب بقلب شاعر.
قليلاتٌ هنّ من اخترن أن ينزفن إبداعا.. ولكنّ كثيراتٍ مثلها.. يخترن الموت صمتا حتى لا تلصق بهن تهمة الغواية أو الخيانة.. في عالمنا العربي البائس: أن تكوني امرأةً فهذه تهمةٌ في حد ذاتها.. وأن تكوني مُبدعة فهذا يعني أنك تعيشين على ركام مكدس من الخيانة.. تسجلين غواياتك وأخطاءك وتقدمينها تحت غطاء الأدب والإبداع..