-ما هي أعظم رواية قرأتها ؟ ولماذا ؟
- مئة عام من العزلة ، لقد شعرت وأنا أقرآها أن ماركيز تسامى في قدراته حتى حاز على صفة الربوبية، أرجو أن لا يكفرني أحد. مع فارق التشبيه أتحدث عن الربوبية في جانب الفن والإبداع، فلقد خلق ماركيز أرضاً جديدة وأجيال متتابعين وسنن مختلفة قليلاً وحياة بعرضها وطولها ثم نفخ في الصور وانهى كل شئ.
هذه إجابة على أحد الأسئلة التي وجهت للروائي الكبير في لقاء صحافي، كان اللقاء الوحيد الذي أجراه الكاتب كما هي روايته الوحيدة الذي نشرها قبل حوالي عشرون سنة.
تُرجمت روايته الوحيدة لعدة لغات حول العالم عبر دار نشر أوروبية، ذاع صيتها في الأرجاء وحيكت حوله القصص بأنه سرقها وقَتل كاتبها بالتالي لن يكتب غيرها! وقيل بأنه أصيب في ملكته الكتابية فبدا عاجزاً على إصدار غيرها.
يعيش أعزباً في شقته الصغيرة في حي الملز في الرياض منذ عاد من المهجر، يستيقض ظهراً ويخطو أول خطواته خارج شقته نحو المطعم البخاري القابع على بعد مبنيين سكنيين. يطلب نصف دجاجة مع الأرز البخاري ولبن. يتبعها بخطوات لمحل قهوة أمريكي استُورد بإمتياز تجاري لرجل أعمال شهير، تقريباً ثلث الأمتيازات التجارية الأمريكية حاصل عليها.
منذ دخوله للمقهى يمد العامل يده ليمسك بأحد الأكواب الكرتونية وينظر بعينيه له ليحصل على الموافقة للبدء بسكب القهوة من الإناء الزجاجي، فيومئ الراوي برأسه للأسفل إيماءه صغيرة.
في المساء يتسكع على الأرصفة يبحث بناظريه عن ما يدهشه، شوارع الملز تجمع بين نقيضان ، النور والظلام في نفس الوقت.
لوهلة يرى بأنها مضيئة وبعد خطوتين يطبق عليه الظلام، المارة قلة والسيارات المتوقفة بمحاذات الأرصفة كثيرة للحد الذي تبدو وكأن هذه المدينة هي "باركنج" الأرض. حيث يتوقفون فيها ثم يترجلون لبقية المدن.
يعود لشقته في بداية المساء ليمارس اللاشيئ، ينظر للسقف وهو مستلقي، يقلب القنوات التلفزيونية، يمسك بأحد الكتب ليقرأ صفحتين ثم يركنه.
يرد على الرسائل التي وصلت لهاتفه منذ الصباح من أخته تطمئن عليه، اعتادوا أن يرد عليهم بعد ساعات وتوقفوا عن معاتبته.
يعيش على المبالغ الذي يتقاضاها من دار النشر كلما وزعوا روايته، كل من قرأها حن لقرأتها مرة آخرى لكمية المشاعر التي تفوح رائحتها العذبة من الورق.
سهلة منهمرة السرد ، بسيطة وبالغة العمق في ذات الوقت، وريقاتها تمسك بيدك كما تمسكها عندما تقرأها، كمحبوبه تشد بيدها على يد حبيبها عندما يمسك بها.
لم يُخبِر أحد بأن الكثير من مشاهد الرواية نقلها معه وهو يكتب حتى اصبحت كما لو كانت شبه سيرة ذاتية، نقل الحب الباذخ الذي كان يعيشه في منزل والده ووالدته برفقه أخته جمان. حيث كان الألم والجوع والعمل والإختلافات ممزوجه ومخفوقه بود وحنان مُنزّل من السماء السابعة.
عندما فقد والديه في فترتين متقاربتين جفت عيناه من الدمع وماتت الحياة ويبست الثمار المتشبثة بأغصان الشجر وعجزت الأرض عن إبتلاع الماء واختفت الفراشات.
لم يجابه هذا الفقد إلا بشعور الطفل الذي يمشي بين والديه على طريق موحش وكل واحد منها يمسك بيد ثم تركوا يديه واختفوا هاربين، شيخوختهم لم تكن عذر كافي لفعل ذلك وسنن الكون المنتهية بالموت أنانية في عدم ضمه لهم. والمقابر لن تتملئ بمجرد سكنه في أحد اللحود.
على مكتبته مئات الروايات التي لم ترى النور ويخفيها عن كل المحبين لرشاقة سرده الفريدة، يتبع تكنيك روائي تقليدي، يبدأ بأحداث وشخوص وبطل يمثل الخير وأشرار يمارسون نزعات البقاء الشيطانية ثم ينتقل للعقدة أو الحبكة وعندما تبدأ الأحداث تتجه نحو اشتداد اختناق البطل والتي يفترض أن يبدأ بعدها في الخاتمة وأحداث الفرج المفرحة يتوقف ويترك قلمه!
وهو يبادر بالوقوف وترك مكتبه يصيح بطل القصة ويتوسل له بأن لا يتركه في خضم هذا الموقف العصيب، يستطيع في أسوء الأحوال أن يقتل بطله بشخطه من قلمه.
رواياته المتراكمة على مكتبه لها صوت أبطال كُثر يسمعهم أحياناً يلعنونه على تركه لهم قبل كتابة الخاتمة السعيدة، توسلات الأبطال وحدها هي التي تشعره بنشوة الإنتقام!