هذا الفصل بعنوان:

Back in Black 

فتحت إميلي عينيها ببطء و قد كانت تشعر بدوّار شديد ثمّ أدركت أنّ مساعدي دايموند قد كبّلوها مع بقيّة الرّهائن و أخذوا منها قفّازيها.

رفعت نظرها لتجد المساعدين الذين كانت تقاتلهم متفرّقين عند أركان المكان و هم يقومون بتضميد جراحهم محدّقين بها و شرر الحقد يلمع من أعينهم ثمّ أدركت أنّ هناك شخص أمامها، كان رجلا شديد الضخامة اختفت ملامحه في ظلام قلنسوّة عباءته ما عدا لحية بيضاء ، كان واقفا أمامها حاملا بيده هراوة فولاذيّة تحمل أشواكا في قمّتها. ظلّ هناك دون أن يتحرّك أو أن يصدر أيّ صوت ممّا جعل قشعريرة باردة تنبعث من أسفل عمودها الفقري وصولا إلى قفاها جرّاء إحساسها بوجود أعين وحش تحدّق بها من خلال ظلام تلك القلنسوّة. 

"ماذا عليّ أن أفعل ؟، قالت في نفسها، يبدو أنّ هذا الشّخص هو من قام بجعلي أفقد الوعي..إنّه حتما قائدهم."

انحنى الرّجل مقتربا منها ثمّ قال بصوت شديد العمق:

-" من تكونين ؟ أنت لا تبدين أنّك طالبة هنا"

ظلّت صامتة و لم تجبه فاقترب منها أكثر ثمّ قال:

 -"هل هناك آخرون معك ؟"

-"لا"، أجابته محاولة جعل صوتها أكثر صرامة ممّا هو عليه في الواقع ثمّ أضافت قائلة في نفسها: "عليّ أن أتحلّى بالشّجاعة من أجلهم"

-"أوه، قال الرّجل ضاحكا، إذن أنت تمتلكين لسانا و تستطيعين الكلام أيضا"

-"أنا هنا لوحدي"

-"هل أتيت إلى هذا المكان لأنّ لديك أعمالا أم لأنّك سمعت صوت الانفجار فأردت القيام بدور البطل ؟"

أخفضت إميلي عينيها دون أن تجيبه فأطلق ضحكة عملاقة ثمّ قال ملتفتا إلى بقيّة المساعدين:

-" أظنّ أنّ لدينا بطلة هنا"

ضحك الآخرون دون توقّف و لمعت من ظلمة قلنسوّاتهم ابتسامات مخيفة.

التفت إليها مجدّدا ثمّ لمس بيده الضّخمة و الخشنة ذقنها محدّقا بأعينها ذات اللّون الأصفر ثمّ قال:

-"هذه الأعين..هذا اللّون..لا يمكن للعامّة أن يولدوا بمثل هذا اللّون..إنّه خاصّ بالنّبلاء فقط..أيّتها الفتاة هل أنت ابنة أحد النّبلاء ؟ أو ربّما تكونين مجرّد ابنة غير شرعيّة..هيّا تكلّمي فلتخبريني من تكونين و أعدك بأنّني لن أؤذيك."

ظلّت الفتاة صامتة فقط غير قادرة على إخفاء خوفها.

-"هكذا إذا "، قال الرّجل هامّا بالوقوف ثمّ صفعها بقوّة شديدة جعلت خدّها يحمرّ بشدّة ثمّ بدأت شفتها السّفلى تنزف

بدأت عيناها تغرورقان بالدّموع و جسدها يرتجف مثل ورقة وحيدة في فصل الخريف قائلة في نفسها: "أنا..لا أستطيع فعلها" ثمّ لمعت في ذهنها ذكرى حدثت قبل عام...

كان التّدريب على استعمال الأدوات قد بدأ في ذلك الوقت..كانت تقف في ساحة القتال وحيدة بعيدا عن بقيّة زملائها من شعبة العناكب و الدّموع تتساقط من عينيها قائلة في نفسها: "أنا..لا أستطيع فعلها..أنا ضعيفة." بعد أن فشلت في استخدام القفّازات حيث كانت تسقط على الأرض في كلّ مرّة بعد إطلاق الخيوط نتيجة ثقل وزن القفّاز و قوّة اندفاع الخيط منه، ممّا جعل بقيّة الطلاّب يسخرون منها.

أتتها فتاة ذات شعر أحمر ناريّ من مجموعة أخرى في الجهة المقابلة من السّاحة، كانت صديقتها رايلين، أمسكتها من يديها و بدأت تضغط عليهما قائلة:

-"إميلي..استمعي إليّ جيّدا..لا تدعي أيّ واحد من أولئك الحمقى يجعلك تظنّين و لو للحظة واحدة أنّك ضعيفة..أنت أقوى ممّا تتخيّلين..آمني في إميلي التي أؤمن بها..جميعنا بشر في النّهاية..جميعنا ولد بالإرادة نفسها..قفي الآن و أثبتي أنّهم مخطئون !"

توقّفت الفتاة عن الارتجاف، نظرت إلى الرّجل بعينين تشعّان بالقوّة ثمّ بدأت تظهر هالتها قائلة:

-"أنا..لم..أستسلم بعد !"

 فجأة ازدادت هالتها قوّة و كثافة بطريقة لم يسبق لها فعلها من قبل قائلة في نفسها: "أنا..أيضا أؤمن بالفتاة الذي تؤمن بها )راي(..إنّها..في داخلي..حتما..أنا قويّة أيضا !"

-"ما هذا !، صرخ أحد المساعدين، سيّدي إنّ هالتها تزداد قوّة !"

أنشأت إميلي خيوطا رقيقة من هالتها ثمّ قطعت بها وثاقها. وقفت و قطعت وثاق بقيّة الرّهائن قائلة:

-"أهربوا الآن ! "

فأجابها أحد الأساتذة قائلا:

-"ماذا عنك ؟"

-"لا تهتمّ..أهربوا الآن و سألحق بكم بعد أن أنتهي من هؤلاء."

لمحت الفتاة قفّازيها في ركن بعيد من القاعة فأطلقت خيطا من هالتها نحوهما لتلتقطهما ثمّ سحبت الخيط بسرعة و لبستهما.

انطلق الطلّاب و الأساتذة هاربين عبر الباب الخلفيّ لقاعة الطّعام لكنّ الرّجل الضّخم اعترض سبيلهم و أمسك بطالب صغير واضعا هراوته الفولاذيّة أسفل ذقنه ثمّ ابتسم قائلا:

-"ماذا تفعلون ؟ أتريدونني أن أقتلكم جميعا ؟"

"لا يوجد وقت للتّراجع، قالت إميلي في نفسها، سأتجاوز حدودي الآن و في هذه اللّحظة !" ثمّ أطلقت رصاصات من الخيوط نحو ذراع الرّجل الضّخم فأسقط سلاحه على الفور و هو يئنّ من الألم ثمّ صرخت:

-"الآن ! أهربوا !" فانطلق الطّالب الصّغير على الفور لاحقا بالبقيّة لكنّ بقيّة المساعدين اعترضوا طريقهم.

انطلق وابل من رصاص الخيوط المغلّف بهالتها من قفّازيها مصيبا جميع المساعدين في آن واحد ليسقطوا على الأرض مباشرة فهرب جميع الرّهائن أخيرا و بقيت إميلي في مواجهة الرّجل الضّخم الذي استعاد سلاحه صارخا :

-"أنت..ستندمين على هذا !"

اندفع ملوّحا بسلاحه نحوها فصنعت درعا لتصدّ الضّربة لكنّ السّلاح استطاع اختراقه نتيجة تعزيزه بالفيتاي الخاصّة بالرّجل ممّا جعل الفتاة تُقذف عدّة أمتار إلى الوراء و تسقط على الأرض و قد حُطّمت نظّاراتها تماما.

حاولت الوقوف ببطء ثمّ سقطت من جديد و قد سالت بعض الدّماء من أعلى حاجبها الأيمن.

-" توقّفي عن محاولة الوقوف أيّتها الفتاة المسكينة، قال الرّجل متقدّما نحوها و الدّماء تتساقط من ذراعه، لقد فعلت كلّ ما بوسعك..أنا أحترم إصرارك..لكن إن وقفت مجدّدا فأنت ستلقين حذفك حتما."

-" ليس..بعد"، أجابته إميلي و وجهها لا يزال ملتصقا على الأرض ثمّ عادت للوقوف ببطء و رفعت رأسها قائلة في نفسها : "نظّاراتي..لقد..كسرت..لكن..سأواصل القاتل."

-"هكذا إذن"، قال الرّجل ثمّ اندفع نحوها صارخا:

-" أنت ستموتين !"

اندفعت هي بدورها مطلقة العشرات من الخيوط نحوه حيث بدأ يصدّها بكلّ ما أوتي من قوّة و رغم أنّ بعضها قد أصابه إلاّ أنّه لم يتوقّف عن الصدّ حتّى أصبح قريبا من الفتاة بعدّة خطوات.

عندها بدأ شيء يحدث في عينيّ إميلي حيث غرقت مقلتاها في لون أزرق داكن ثمّ ظهرت شبكة عنكبوت بيضاء في كلّ عين.

"ما هذا ؟ ما الذي يحدث لي ؟، قالت الفتاة في نفسها، قِصَرُ نظري..لقد اختفى..أنا أرى بوضوح..ما هذا ؟ أنا أرى المكان من عدّة زوايا مختلفة في آن واحد..أنا أشعر بكلّ شيء."

في اللّحظة التي اقترب السّلاح من وجهها تحرّك رأس الفتاة و جسدها بسرعة ودقّة هائلتين فتجنّبت الضّربة ثمّ غلّفت قبضة يدها بالخيوط و سدّدت لكمة خارقة السّرعة و القوّة نحو ذقن الرّجل ليقذف في الهواء عاليا و يسقط على الأرض فاقدا الوعي تماما و قد نُزعت القلنسوّة عن رأسه و ظهر وجهه ذو الشّعر الطّويل الأبيض و العينين ذات اللّون الأحمر القرمزيّ.

انتهى القتال أخيرا بين إميلي روبينز و مساعد دايموند فسقطت على الأرض لاهثة و قد عادت عيناها إلى وضعهما الطّبيعي.

***

في المطبخ...

بدأ شيء ما بالتّحرّك أسفل الرّكام ثمّ ظهرت ذراع من تحت كتل الأحجار و بدأت تبعد الأحجار ببطء حتّى ظهر رأس )مادوكا( بشعره الأسود و المدبّب و بدأ يقف بصعوبة من تحت الأنقاض قائلا:

-" أوه ! كانت هذه التّجربة مخيّبة للآمال قليلا." ثمّ لمس رأسه مضيفا:

-"و الآن أين قبّعتي ؟"

فجأة لاحظ نظرات إزرا رئيس الطّهاة السّمين الموجّهة إليه، أصبح وجهه شاحبا و أكثر إخافة من أيّ وقت مضى.

-"ماذا ؟ ألا يمكن للمرء البحث عن قبّعته ؟"، قال مادوكا ثمّ أضاف قائلا في نفسه:" بعد أن فشلت في كسر قدرة التّنويم الخاصّة بالعدو ازدادت حالة إزرا سوءا..التّنويم لمدّة طويلة غيّر من كيمياء جسده..وعيه محبوس في أعماق عقله لكنّه لا يزال يقاوم من أجل إعادة السّيطرة من جديد..هذه المقاومة قد تودي بحياته..تنويمي لا ينفع لذا عليّ أن أسرع و أجعله يفقد الوعي قبل أن يقتل نفسه..لكن كيف لي أن أفعل هذا ؟ أنا منوّم و التّنويم لا ينفع في هذا الموقف..هل عليّ أن أقاتل بيديّ العاريتين ؟ أم عليّ أن..." ثمّ ظهر له مشهد من ذكرى قديمة حيث يقوم رجل طويل القامة، يرتدي بذلة رماديّة و شعر أسود طويل صُفّف على شكل ذيل حصان بوضع قبّعة سوداء مزيّنة بشريط قرمزيّ فوق رأس ولد صغير ذو شعر مدبّب.

"لا !  لقد وعدته بأن لا أستعمل تلك اللّعنة إلاّ على أولائك ال..، قال الفتى في نفسه، عليّ أن أجد طريقة أخرى."

انطلق وابل من الصّحون نحو مادوكا الذي أخفض رأسه بسرعة فاصطدمت بالحائط و انكسرت. -"هاهي ذي !، صرخ الفتى فرحا بعد أن وجد قبّعته مدفونة تحت الرّكام بقربه ،إنّها متّسخة بعض الشّيء لكن لا بأس" ثمّ نفض عنها الغبار و نهض مرتديا إيّاها قائلا:

-"حسنا أيّها الرّجل الكبير ! هيّا لنرقص."

اندفع مادوكا إلى الأمام رافعا غطاء القدر كالدّرع بينما طارت كلّ الأواني في آن واحد و انطلقت نحوه مهاجمة إيّاه من كلّ جهة فرمى نفسه متزحلقا على الأرض ليجد نفسه أسفل الطّاهي السّمين الطاّفي في الهواء و نهض متسلّقا إحدى الطّاولات خلف إزرا و قفز نحوه هامّا بضربه على قفاه لكن في الثّانية التي كاد يقترب منه اندفع وابل من السّكاكين و الأشواك نحو الفتى قاذفا إيّاه إلى خارج المطبخ مصطدما بجدار الممرّ.

-" أنا..لن..أدع أيّ أحد يلمس طعامي مجدّدا"، قال إزرا بينما ابتعد سيل السّكاكين و الأشواك عن مادوكا الذي لم يستطع حقل الطّاقة الدّفاعي الذي في ملابسه حمايته هذه المرّة تاركا الدّماء تسيل من جرح سطحيّ  في جانب وجهه الأيسر و أخر عميق بعض الشّيء في جانب معدته.

-" أنا..لن..أشعر بمثل ذلك الجوع مجدّدا، أضاف الطّاهي، أنا..لن..أترك..أيّ أحد..يأخذ طعامي."

سعل الفتى بعض الدّماء قائلا :

-"ماذا..تقصد ؟..هل أخذ أحد ما طعامك من قبل ؟"

-" لقد..ضربوا..أمّي..و..سرقوا طعامنا..كلّه..لقد..تركونا..جائعين..ثمّ..ماتت..أمّي من الجوع."

-" لكن..أنا لن "، ثمّ سعل بشدّة و أضاف:

-" أنا لن أسرق طعامك"

-" أنت..لن..تسرق طعامي ؟"، قال إزرا بصوت طفل ضعيف حاطّا على الأرض.

بدأ يقترب من مادوكا و فجأة بدأت العروق السّوداء التي حول عينيه تزداد قوّة فركع و هو يصرخ ثمّ توقّف و طاف في الفضاء مجدّدا مطلقا العنان لضحكة تقشعرّ لها الأبدان.

"ماذا عليّ أن أفعل الآن ؟، قال الفتى في نفسه و الارتباك مرتسم على وجهه، هذه ستكون نهايتي."

طارت كلّ أدوات المطبخ في الهواء منطلقة نحو الطّاهي السّمين مشكّلة حوله درعا ضخمة.

تحوّل إزرا إلى وحش عملاق من أدوات المطبخ ثمّ اندفع مسدّدا لكمة نحو الفتى مسبّبا رجّة في المكان و اختفى مادوكا تحت تلك القبضة.

ظلّ المكان صامتا بعد تلك الرّجّة لعدّة ثوان، ثوان كادت تتحوّل إلى ساعات جرّاء ذلك الصّمت.

فجأة بدأ الطّاهي السّمين بسماع صراخ آت من قبضته، كان صراخ مادوكا ثمّ انفجرت القبضة مفرّقة الأواني في كلّ اتجاه و ظهر الفتى و قد غلّف جسده بهالة ذهبيّة كثيفة قائلا في نفسه: " أنا آسف..عليّ استعمال تلك اللّعنة..أنا آسف لأنّني سأكسر الوهم الأبدي الذي صنعته من أجلي."

بدأ جسد الفتى بالتحوّل إلى شيء آخر تماما، بدأ فراء رماديّ بالظّهور على جلده و ازداد شعره الذي زاد تدبّبا كالأشواك طولا حتّى وصل إلى نهاية قدميه و أصبحت نهايات الأشواك بيضاء، تحوّلت أظافر يديه إلى مخالب و أصبح وجهه شبيها بوجه ذئب بعينين ذات لون أزرق لامع و ازداد جسده ضخامة حتّى كاد رأسه أن يلامس السّقف. لقد تحوّل مادوكا إلى وحش بوجه ذئب و ظهر قنفذ.

زمجر الفتى-الوحش ثمّ اندفع نحو وحش المطبخ و أمسكت كلّ قبضة واحد منهما قبضة الآخر و بدآ يتدافعان بقوّة شديدة ثمّ سحب مادوكا قبضته و لكم إزرا في معدته و بدأت تتالى اللّكمات من كلا الوحشين و معهما بدأت الأدوات و الأواني المشكّلة لوحش المطبخ بالسّقوط و التّداعي إلى أن بقي الطّاهي السّمين أعزلا بدون درع أمام الوحش مادوكا الذي كان يلهث بشدّة حيث كاد صدره الواسع أن يُقتلع من مكانه ثمّ تحوّلت عيناه إلى عينين غير آدميّتين، عينين لا تعرفان معنى الرّحمة حيث أصبح شكل حدقتيه شبيها بشكل حدقة عين أفعى و بدأ يزمجر بكلّ ما لديه من قوّة ثمّ همّ بتسديد لكمة نحو إزرا إلّا أنّه توقّف في آخر لحظة حيث عاد شكل عينيه إلى طبيعتهما بعد أن أدرك أنّ الطاّهي السّمين قد فقد وعيه قبل لحظات.

وقف الفتى-الوحش محدّقا بكلّ الدّمار الذي أحدثه بالمكان جرّاء قتاله مع وحش المطبخ قائلا في نفسه:" أنا آسف يا سيّدي لاستعمالي لهذه اللّعنة..أنظر إليّ..لقد كدت أقتل هذا الرّجل المسكين لو لم أستطع إمساك غريزتي في اللّحظة الأخيرة..كدت أفقد إنسانيّتي..كدت أفقد آخر خيط يربطني بهويّتي كإنسان." ثمّ سقط على الأرض فاقدا الوعي و بدأ جسده يعود إلى طبيعته تاركا نهايات خصلات شعره الأسود بيضاء.

***

" بقيت لديّ دقيقة واحدة فقط، قال دانيال في نفسه ناقلا نظره بين ساعته و زوربا الوحش البشريّ الذي كان يسدّد لكمة تلو الأخرى لكلّ نسخ الفتى التي كانت ترتمي نحوه ضاحكة، حسب ما شاهدته حتّى الآن فإنّ زوربا لم يفقد غباءه المعتاد فهو لا يزال يقوم بضرب كلّ النّسخ دون أن يفكّر و لو للحظة...لذا فانّ التّحدّي الحقيقيّ هو بين قدرتي على صنع الوهم لإرباكه و غريزته الحيوانيّة التي تجعله عديم التّردّد..هذا ما يجعل الأمر سهلا و خطيرا..غلطة صغيرة منّي و سأجد نفسي أُقذف بعيدا."

انتهت الدّقيقة و اختفت كلّ النّسخ في آن واحد و وجد دانيال نفسه واقفا وحيدا في الجانب الآخر من القاعة بينما كان زوربا على الجانب الآخر ينظر إليه بوجه وحش غاضب لا يمكن معرفة أيّ شيء حول ما تحمله عيناه سوى الغضب الحيوانيّ عديم الرّحمة.

اندفع الوحش البشريّ بسرعة هائلة نحو الفتى محطّما كلّ ما تلمسه قدماه بينما أخرج دانيال كرات زجاجيّة ذات لون أخضر و أخرى ترابيّ و رماها نحو زوربا مباشرة فانفجرت و عمّ المكان دخّان يمزج بين اللّونين.

خلال ثوان معدودة توقّف الوحش عن الاندفاع و ظلّ يحدّق بالمكان الذي تغيّر تماما ليصبح غابة استوائية حيث اختفى الفتى عن ناظريه وسط كلّ تلك الأشجار و لم يعد هنالك وجود للباب الخارجيّ أو معدّات الرّياضة أو أيّ شيء كان موجودا في قاعة الرّياضة السّابقة حتّى أنّ الأرضيّة الخشبيّة أصبحت مجرّد أرض يملؤها التّراب و الحصى.

كان الفتى واقفا في قاعة الرّياضة - و هالته متركّزة على يديه- بعيدا عن فقّاعة عملاقة خضراء كان يقف داخلها زوربا و هو في حالة ارتباك تامّ.

"حسنا هذا جيّد، قال دانيال في نفسه، زوربا عالق في وهم الغابة..حسب لغة جسده يمكنني أن أعرف أنّه يصدّق تماما كلّ ما يراه..حقّا إنّ الوهم أداة مذهلة..خداع الحواس لجعل العقل يغرق في فخّ لا وجود له من الأساس..حيث تصبح مخيّلة الضّحيّة أداة خائنة تساعد صانع الوهم على هندسة الفخّ بإتقان..حقّا إنّها أداة شيطانيّة..حتّى لو كان وحشا لا يعرف سوى استعمال غريزته فانّه لن يستطيع الإفلات من هذا الوهم..و الآن عليّ أن أربكه حتّى يفقد وعيه و إلّا فإنّ عليّ أن أدخل إلى هذا الوهم بنفسي و أجعله يفقد الوعي عبر ضربه لكن في ذلك خطر في أن أفقد السّيطرة و أغرق أنا أيضا داخل )وهم الغابة(..هه سيكون ذلك سخيفا..صانع وهم يعلق داخل وهم من صنعه."

وهم الغابة: خدعة ذات مستوى متقدّم يتمّ صنعها بواسطة مزيج من كريستالات هودين و هالة المستعمل ، هذا الوهم يمكّن من جعل ضحاياه يرون أنفسهم داخل غابة بينما تقوم أكثر الحيوانات البريّة إخافة بالنّسبة لهم بالهجوم عليهم، مدّة وجود و استقرار هذا الوهم يعتمد على مستوى طاقة المستعمل.

بينما لا يزال غارقا في ارتباكه انقض على ذراع زوربا ثعبان كوبرا ممّا جعله يصرخ على الفور و بدأ يضرب الثّعبان بقوّة ثمّ راح يلوّح بذراعه في الهواء محاولا نزع الزّاحف المخيف منها لكن دون جدوى.

ابتسم دانيال قائلا في نفسه: "أكره أن أفعل هذا به..رغم كونه أستاذا مريعا إلّا أنّه كان يحبّنا جميعا حتّى أنا..الفتى الذي لا يستطيع عمل عشر تمرينات ضغط متتالية دون أن يفقد وعيه..لم يفقد الأمل فيّ و لو للحظة واحدة..هذا يؤلمني فعلا..آمل أن يفقد وعيه قريبا..هذا النّوع من الوهم يستهلك طاقتي بسرعة"

فجأة توقّف زوربا عن مقاومة الثّعابين التي كانت تعضّه من كلّ جزء في جسده و سقط فوق وجهه على الأرض.

" ماذا ؟، قال الفتى في نفسه، هل انتهى كلّ شيء بهذه السّرعة ؟"

بعد عدّة ثوان صامتة انفجرت هالة كثيفة مغلّفة جسد زوربا ثمّ نهض ببطء مغمضا عينيه، واضعا أكفّ يديه على الأرض.

-"ماذا ؟ ما الذي يحدث ؟، صرخ دانيال، هل هو يمتلك قدرة ما ؟"

كان الوحش البشري يرى الظّلام فحسب ثمّ بدأت تظهر له عدّة أشكال ذات ألون مختلفة، أشكال ذات لون رماديّ للمعدّات الرّياضيّة المحيطة به في المكان و شكل آخر ذو لون أحمر لشخص ما قبالته، لقد كان شكل الفتى دون شكّ.

"مستحيل ! أنا أشعر بأنّه يستطيع رؤيتي، قال )دانيال( في نفسه و العرق يتصبّب من جبينه، ما هذه القدرة ؟ أنا لم أكن أعلم أنّه يمتلك قدرة مثل هذه..هل يستطيع أن يعلم مكاني دون أن يراني ؟" 

أخرج زوربا منديلا أسود من جيبه و ربطه فوق عينيه و وقف متقدّما نحو الفتى ببطء. كانت كلّ خطوة تزيد الرّعب في قلب الفتى الذي راح يرتجف دون توقّف.

" م-ماذا عليّ فعله ؟، قال دانيال في نفسه، هذه القدرة تجعل غريزته أقوى من أيّ وقت مضى..ماذا عليّ أن أفعل ؟ لا فائدة لوهمي الآن.."

خرج زوربا من فقّاعة الوهم و تقدّم إلى الفتى الذي لم يقوى على الحراك ممسكا إيّاه من رقبته ثمّ رفعه في الهواء. بدأ دانيال يختنق ببطء بينما ارتسمت ابتسامة مخيفة على وجه الوحش البشري.

"إنّها النّهاية،  قال في نفسه بينما راح النّور الذي في عينيه يختفي، لا يوجد أيّ مخرج منطقيّ من هذا..أنا سأ.." و قبل أن يدرك ذلك وجد الفتى نفسه يُضرب على الجدار الذي خلفه مرّة تلو الأخرى و بدأت الدّماء تسيل من أعلى رأسه ببطء...

-" ماذا تفعل ؟، صرخ شخص ما وسط الظّلام ذو نبرة صوت تمزج بين الهدوء و الحزم، هل ستستسلم الآن ؟ هل وصلت إلى حدودك؟ هيّا أخبرني ! هيّا تكلّم حالا !"

وجد دانيال  نفسه في معمل واسع حيث وجدت على كلّ جدرانه رفوف امتلأت بالكتب و المجلّدات القديمة و تناثرت الأوراق و الرّسوم البيانيّة على عدّة طاولات إضافة إلى تلسكوب عملاق في ركن قرب نافذة بحجم نصف الجدار.

"ها ؟ أين أنا ؟"، قال الفتى ثمّ لمح ولدا صغيرا واقفا قرب إحدى الطّاولات و هو يخفض رأسه باكيا قبالة رجل أشقر طويل القامة، يرتدي نظّارات ذات إطار فضيّ رقيق و بذلة سوداء أنيقة.

اقترب منهما ليدرك على الفور أنّ ذلك الولد هو نفسه قبل عدة سنوات و الرّجل الذي يقوم بتأنيبه هو والده و الذي كان صاحب الصّوت الذي سمعه قبل قليل.

-"أخبرني الآن، قال والد الفتى في حزم، هل تعتبر نفسك فردا من عائلة آينجل ؟"

لم يستطع الولد الصّغير رفع رأسه لكنّه أجابه محاولا قول كلمة نعم وسط شهيق بكاءه المتتالي.

-"تذكّر هذا جيّدا يا دانيال..آل آينجل لا يعرفون معنى الاستسلام، قال الوالد بنبرة أكثر حزما، إن استسلم أحد أجدادك لمرّة واحدة لم يكن ليعرف اسم هذه العائلة النّور..كنّا لنختفي و نصبح مجرّد تاريخ منسيّ..لكنّنا لا نستسلم و لن نفعل ذلك على الإطلاق..ارفع رأسك و أخبرني الآن أنّك لم تستسلم بعد و ستحمل إرثنا إلى المستقبل..المعرفة التي جمعتها هذه العائلة ستبقى و ستزدهر حتّى ينتهي هذا العالم..أفهمتني ؟"

-"لكن..لكن هذا مؤلم"

-"هذا جيّد..إنّه دليل على أنّك لا تزال حيّا..الألم هو مجرّد إشارات عصبيّة داخل عقلك..هيّا ارفع رأسك حالا و واجه العالم كفرد من آل آينجل !"

مسح الولد الصّغير دموعه ثمّ رفع رأسه صارخا وعيناه تلمعان بالعزيمة:

-"أنا لن أستسلم !"

أفاق دانيال فجأة و قد وجد نفسه يُضرب مرّة تلو الأخر على الجدار فصرخ قائلا:

-"أنا لم أستسلم بعد !"

صفع الفتى أُذني زوربا في آن واحد فصرخ الوحش بقوّة و أفلت رقبة دانيال الذي قال في نفسه: " ضرب الرّأس بهذه الطّريقة يحدث رجّة في الدّماغ و بالتّالي يفقد الخصم القدرة على السّيطرة على نظامه العصبي لعدّة ثوان..عدّة ثوان هي كلّ ما أحتاجه"

سقط الوحش البشريّ على الأرض و هو  يئنّ من الألم قائلا:

-" أنا..لست..قبيحا..أنا..لست..وحشا"

-"لا يا زوربا..أنت لست كذلك، أجابه الفتى الذي توجّه إلى برميل مياه حديديّ في أحد الأركان، أنت أجمل روح عرفتها في حياتي" ثمّ قام بضرب جانب البرميل بواسطة أحد الأثقال لينتج صوت اهتزاز جعل زوربا يصرخ عاليا و يفقد وعيه على الفور.

"تماما مثلما توقّعت، قال دانيال في نفسه بعد أن سقط على الأرض فاقدا الوعي و الدّماء تُغلّف جبهته بالكامل، قدرته التي تزيد من قوّة حواسّه الأخرى جعلته ضعيفا أمام الأصوات ذات التردّد المنخفض تماما مثل بعض الحيوانات البريّة..أكرهك يا أبي عندما تكون على حقّ..لكن مازلت أحبّك"

***

في المكتبة...حُطّمت العديد من رفوف الكتب و تناثرت العديد من المجلّدات القديمة على الأرض الإسمنتيّة السّوداء و الباردة. كان الصّمت مخيّما على المكان بأكمله حيث كان نايثان ملقيّا داخل حفرة في الجدار بينما كان )أحمد( واقفا بعيدا عنه بعدّة أمتار.

"نايثان  سيغارد، قال الفتى في نفسه، ابن واحد من الثّمانية، زميلي في شعبة الورق و عدوّي طوال الثّلاث سنوات الماضية. لم أعرف أبدا سبب كرهه لي..أنا لم أكن أفضل فرد في شعبتنا..لم أكن ابن واحد من الثّمانية حتّى..ما سبب كرهه لي بهذا الشّكل من البداية ؟"

فجأة انطلقت أربع بطاقات لعب نحو أحمد بسرعة هائلة فأخرج الجناح الفضّي و أطلق نحوها لكنّها حطّمت بطاقاته بسهولة و أكملت طريقها إليه حيث لم يجد أيّ طريقة سوى الابتعاد عنها لتُغرس في الأرض قربه.

"ما هذا ؟، قال الفتى في نفسه، بطاقات اللّعب هذه..."

اقترب من البطاقات ليجدها مصنوعة من المعدن.

-"هذا المعدن..التّنقستن ؟، صرخ أحمد لاشعوريّا ثمّ أضاف قائلا في نفسه: "إنّه أقوى معدن في كلّ المملكة ! إنّه غال و نادر جدّا..لا يمكن لبطاقات الفاي خاصّتي الصّمود أمامه"

-"نعم، إنّه كذلك، أجابه نايثان الذي نهض من الحفرة التي في الجدار مبتسما، إنّها هديّة التخرّج من والدي، هل أعجبتك ؟" ثمّ ظهرت هالة رماديّة حول البطاقات المغروسة على الأرض و انطلقت عائدة إليه و هو يضيف قائلا:

-" هذا المعدن نادر كما تعلم لذا كلّ واحدة من هذه ثمينة و لا يمكن الاستغناء عنها"

"ما الذي يحدث ؟ لقد عادت إليه، قال أحمد و الغضب مرتسم على وجهه، هالته ؟ هل استطاع إيقاظ  قواه ؟ لقد سمعت في إحدى المرّات دانيال يقول أنّ عائلة سيغارد مشهورة بقدرة أفرادها على التحكّم في المعادن."

-"ماذا يا ماجير ؟ هل أنت خائف ؟"،  قال نايثان بنبرة ساخرة ثمّ أطلق العنان لضحكة مخيفة مضيفا:

-" يجدر بك أن تخاف من بطاقات التّنقستن خاصّتي..لعبتك الفضيّة الصّغيرة لن تنفع معي !"

أظهر نايثان هالة كثيفة حول جسده ثمّ جعل عشر بطاقات لعب معدنيّة تطير حوله قائلا بينما شرر الغضب يلمع من عينيه:

-" سأخلّص العالم منك يا ماجير !" و أطلق البطاقات المعدنيّة في آن واحد نحو أحمد الذي راح يطلق من الجناح الفضّي العشرات من بطاقات الفاي المعزّزة بهالته لكنّها كانت تتحطّم فور التقائها بالأخرى المعدنيّة.

"عليّ أن أجد طريقة لإيقافه، قال الفتى في نفسه بينما كان ينتقل آنيّا من منطقة إلى أخرى محاولا تفادي بطاقات خصمه التي كانت تنطلق بسرعة باحثة عنه، إن استعملت نيراني قد أتسبّب في إيذائه بشدّة كما أنّني قد أحرق المكان بأكمله..نايثان يعدّ أحد أقوى مستعملي الفيتاي الذين عرفتهم في هوكوشين و الآن و قد أيقظ قواه  أصبح أقوى من أيّ وقت مضى..لقد كان عنيدا و صعب المراس سابقا لكنّه لم يؤذي أيّ أحد و الآن بعد تعرّضه للتّنويم فليس هناك أيّ رادع له..عليّ أن أقترب منه و أجعله يفقد الوعي قبل فوات الأوان"

متفاديا هجوم كلّ البطاقات أصبح أحمد قريبا من نايثان بعدّة سنتيمترات و خلال ثوان عزّز قبضته و همّ بتسديد لكمة إلى جانب جسد خصمه لكنّ تلك اللّكمة لم تصل إلى هدفها في اللّحظة الأخير حيث اصطدمت بحاجز صنع من بطاقات التّنقستن المتراصّة بجانب بعضها.

-"الأمر ليس سهلا كما يبدو"، قال نايثان مبتسما بخبث ثمّ قامت أحد البطاقات بالانصهار و تغليف يده ليلكم الفتى في وجهه بسرعة و قوّة هائلتين و قبل أن يدرك ذلك وجد أحمد نفسه يُقذف إلى السّقف ثمّ يسقط على الأرض بينما الألم يسري في كلّ جزء من جسده ثمّ بدأ الظّلام يحلّ في عينيه بينما كان يقول في نفسه : "عليّ..أن..أوقفه..لا يجب أن..."

وجد أحمد نفسه يسبح في ظلام دامس ثمّ وجد نفسه في قاعة الاستقبال بمنزل آل ماجير في تيقاسلا. صرخ الفتى قائلا: "ماذا ؟ أين أنا ؟ هل هذا.."

قاطعه ضوء باهر ثمّ صوت الرّعد و تلاه صوت الأمطار الغزيرة المنهمرة على النّافذة المقابلة.

"أنا..أتذكّر.. ذلك اليوم جيّدا..، قال في نفسه متمشّيا في المكان، إنّه..اليوم المشؤوم."

لاحظ وجود ولد ذو شعر أسود ناعم يلعب على الأرض، اقترب منه ببطء ثمّ لمس كتفه فاستدار الصّغير على الفور و فوجئ الفتى بملامح ذلك الولد. قفز أحمد إلى الوراء قائلا في نفسه : "إنّه..أنا..عندما كنت صغيرا. ما الذي يحدث ؟ ".

 فجأة سمع صوت عربة أحصنة قادمة في الخارج ثمّ توقّفت و بدأ الباب يطرق بقوّة. خرجت ماديسون من أحد الغرف و فتحت الباب ليظهر أمامها رجل متوسّط الطّول و ضعيف البنية، يرتدي معطفا أسود باليا و هو مبتلّ بالكامل ثمّ بدأ يتحدّث لاهثا. اقترب الفتى ببطء محاولا رؤية ملامحه و سماع ما دار بينهما من حديث لكنّ الخادمة أغلقت الباب قبل أن يصل إليهما و استدارت إليه و قد احمرّت عيناها بينما سيل من الدّموع الحارّة يخرج منهما واضعة يدها على فمها بينما تكاد شهقاتها المتتالية أن تقتلع قلبها من مكانه ثمّ جرت نحو أحمد و اخترقته مثل الشّبح لتحتضن الولد الصّغير الذي لم يكن يدري ما حلّ بعائلته في ذلك اليوم.

" لقد قالوا أنّهما ماتا إثر انزلاق سيّارتهما داخل جُرف ما بسبب الأمطار"، قال الفتى في نفسه.

تغيّر المكان و وجد الفتى نفسه في نفس المكان لكنّ المطر قد توقّف عن الهطول ثمّ وجد الولد الصّغير نائما على إحدى الكنبات و قد غطّي بلحاف أزرق. طُرق الباب مجدّدا فقدمت ماديسون و فتحت الباب ليظهر العمّ بلال بملامح أصغر سنّا و بذلة سوداء بالكامل.

اقترب من الولد الصّغير و لمسه بحنان ففتح عينيه ببطء ثمّ احتضنه و هو يجهش بالبكاء و ظلّا يتحدّثان.

"عندما كنت صغيرا..، قال أحمد في نفسه مراقبا إيّاهما بعينين غارقتين في الدّموع، لم يزرنا عمّي بلال كثيرا..لذا لم أكن أعرفه جيّدا رغم كونه عمّي الوحيد أو بالأحرى قريبي الوحيد فأمّي لم تمتلك إخوة و أبي لم يكن له سوى ذلك الأخ..ابتسامته في ذلك اليوم جعلتني أشعر بسعادة غامرة..بعد ما حدث في ذلك اليوم..اليوم الذي فقدت فيه والداي.."

  تغيّر المكان مجدّدا و وجد أحمد نفسه داخل سيّارة عمّه البخّاريّة.

-"أحمد، قال العمّ مثبّتا يديه على المقود دون أن يلتفت إلى الفتى، أتعلم لماذا نسقط ؟"

 لكنّ الفتى ظلّ صامتا دون أن يجيبه، عندها التفت إليه بلال مبتسما:

-" ربّما لن تستطيع فهم هذا السؤال في الوقت الحاليّ لكن حاول أن تتذكّر هذا جيّدا..نحن نسقط لا لنظلّ ممدّدين على الأرض لبقيّة حياتنا فنحن لم نمت بعد..نحن نسقط لنتعلّم أن ننهض مجدّدا."

فتح أحمد عينيه ببطء ليجد نايثان يقترب منه قائلا:

-"لطالما كرهتك يا ماجير..كرهت اجتهادك السّخيف رغم ضعفك..كرهت أصدقاءك و ابتساماتكم الغبيّة تلك !"

انصهرت البطاقات العشر معا ثمّ غُلّفت ذراع نايثان اليمنى بالكامل مبرزة عدّة أشواك في قبضته و اندفع نحو الفتى بسرعة هائلة هامّا بلكمه صارخا:

-"سأحطّمك !"

 قبل لحظات من أن تلامس القبضة المعدنيّة رأس الفتى فرقع أحمد إصبعيه و انفجرت نيران حوله مشكّلة إعصارا من ألسنة اللّهب يصل إلى السّقف ممّا جعل نايثان يقفز إلى الخلف لعدّة أمتار.

اختفت النّيران و ظهر الفتى واقفا و الغضب مرتسم على وجهه بعينين قد لمعتا باللّون الأصفر، حمل الجناح الفضّي من على الأرض و فور إمساكه به تحوّل لونه إلى الأسود بلمح البصر و بدأت كتابات لغة القدماء تنقش عليه بأحرف ناريّة.

اندفع أحمد إلى الأمام بسرعة هائلة مطلقا من أداته بطاقات الفاي المغلّفة بالنّار فقام نايثان بصدّ بعضها بواسطة بطاقات التّنقستن خاصّته المتحرّكة في الهواء بينما أفلتت منه البقيّة و جرحت كاحليه ثمّ اندفع نحو الفتى جاعلا البطاقات تنصهر على ذراعه مشكّلا ما يشبه السّيف الملتحم بقبضة يده و تصادم السلاحان مصدرين شرر احتكاكهما و صوتا مدوّيا في كلّ أرجاء المكان بينما كان الولدان ينظران إلى بعضهما بملامح شديدة الغضب في صمت ثمّ اندفعا إلى الوراء في آن واحد.

أطلق الفتى وابلا من البطاقات المشتعلة و بدأت تدور حول نايثان صانعة إعصارا من ألسنة اللّهب ثمّ رفع أحمد يده اليمنى مفرقا إصبعيه قائلا:

-"لقد انتهى أمرك !"

انفجرت البطاقات في آن واحد صانعة انفجارا مدوّيا حول نايثان الذي صرخ بأعلى صوته.

" نلك البطاقات..،قال أحمد في نفسه، لقد قمت برسم رمز عنصري عليها"

وسط الصّمت الذي تلا الصّراخ و الانفجار بدأ الفتى يقترب من الدّخان الأسود المنبعث من مكان نايثان. فجأة أحسّ بزلزال خفيف في المكان ثمّ بدأت الرّفوف و الطّاولات بالاهتزاز بقوّة و بلمح البصر أُقتلعت المسامير و البراغيّ و كلّ شيء آخر صُنع من الحديد من الأرفف و الطّاولات ثمّ انطلقوا جميعها نحو مكان نايثان لينهض شخص من وراء الدّخان الأسود، شخص غُلّف جسده كاملا بالحديد و لم يعد يظهر شيء من ملامحه سوى عينين تشعّان باللّون الأحمر.

وجّه نايثان الحديديّ ذراعيه نحو أحمد ثمّ امتدّ من كلّ يد عمود حديديّ بسرعة هائلة عابرين للدّخان فضغط الفتى على زناد الجناح الفضّي لكنّ الأداة لم تطلق أيّ بطاقات فأدرك على الفور أنّ المخزن قد أصبح فارغا ففرقع إصبعيه مغلّفا يديه بالنّار بعد أن رمى الجناح الفضّي على الأرض ممسكا بالعمودين الحديديّين ثمّ دفعهما بعيدا عنه لتعودا إلى ذراعيّ نايثان و اندفع نحو الكيان الحديديّ.

 بدأ كلّ واحد منهما بلكم الآخر بقبضات من الحديد و النّار ثمّ غلّف أحمد قدمه اليمنى بالنّار و سدّد ركلة إلى وجه نايثان لكنّ هذا الأخير تصدّى لها في اللّحظة الأخيرة بذراعه الحديديّة ثمّ أطلق عمودا من اليد الأخرى نحو بطن الفتى ليُقذف بعيدا في الهواء و أطلق ذراعا تمتدّ من يده حتّى وصلت إلى رقبة الفتى و أمسكته بقوّة ممّا جعله يختنق على الفور.

-"لقد كرهتك كثيرا، قال صوت صادر من نايثان الحديديّ، لأنّني كنت أحسدك على حياتك..لم يفرض عليك أيّ أحد أن تكون شخصا آخر..لقد عشتَ و قاومتَ رغم كونك ضعيفا وقتها..كنت أحسدك على أصدقائك و حبّهم لك..لقد حسدتك على الحبّ و الاحترام الذي يكنّه الأستاذ لي لك..ربّما لم أكن أكرهك أصلا..ربّما كنت أكره نفسي فقط..لطالما كرهت الحياة التي لديّ..ربّما..أردت أن أكون مكانك فحسب"

ظلّ أحمد ينظر إلى ذلك الكيان الحديديّ مستمعا إلى حديثه ثمّ قال بصوت ضعيف:

-"أنا..لم..أكرهك..أبدا..منذ البداية"

تحوّلت عيناه إلى الأصفر و ثمّ أخرج بطاقة )الفاي( من جيبه مغلّفة بألسنة لهب حمراء قرمزيّة و قطع بواسطتها الذّراع الحديديّة التي تخنقه في لمح البصر فسقط على الأرض غير متوقّف عن السّعال.

اندفعت ذراع نايثان الحديديّ الأخرى نحو الفتى الذي أطلق في اللّحظة ذاتها صرخة تصمّ الآذان ممّا جعل المكان يهتزّ بأكمله، مشكّلة  دوائر حمراء نحو نايثان فبدأ الحديد الذي يغلّف جسده بالتحطّم و السقوط على الأرض.

سقط أحمد مغميّا عليه بينما ركع نايثان فاقدا لقدرته على التحكّم في المعادن ثمّ سقط فاقدا لوعيه أيضا.

***

"عليّ إيقافها، قالت رايلين في نفسها و هي تنظر في حذر إلى الطّبيبة كاثرين التي كانت تحاول التحرّر من الكتلة الهلاميّة الضّخمة الملتصقة بها، إن هاجمتها ببطاقات النّيتروجين السّائل فقد تتسبّب برودته في قطع أحد أطرافها..أو..ربّما..في قتلها..لكن المادّة الهلاميّة لن تستطيع إيقافها لمدّة أطول..ماذا عليّ أن أفعل ؟"

ابتسمت كاثرين محدّقة في عينيّ الفتاة الغاضبتين قائلة:

-"أتعلمين أنّ هناك خيطا رفيعا بين الألم و السّعادة ؟..بعد تحرّري من هذا الشّيء المقزّز سأجعلك تشعرين بالألم في كلّ خليّة في جسدك حتّى ينقطع ذلك الخيط و يصبح الشّعور بالألم و السّعادة يعنيان الشّيء ذاته..سأ.."

-"اخرسي !، صرخت الفتاة مطلقة عدّة بطاقات نحو فم الآنسة فانفجرت المادّة الهلاميّة مغطّية الجزء السّفليّ من وجهها، هذا سيجعلك تصمتين لفترة..ألعابك النّفسيّة السّخيفة لن تنفع معي..أتفهمين ؟" فأجابتها كاثرين بهمهمة ساخرة بينما انطلقت رايلين إلى الخزانة باحثة بين زجاجات الأدوية قائلة في نفسها: "لا بدّ من وجود مادّة مخدّرة في هذا المكان." ثمّ عثرت على زجاجة صغيرة زرقاء فتقدّمت إلى الآنسة و فتحتها قرب أنفها.

حاولت الطّبيبة أن تقاوم الرّائحة القويّة لكنّها فشلت و نامت على الفور و قبل أن تبعد الفتاة الزّجاجة أحسّت بألم في جانب معدتها، ألقت نظرها إلى الأسفل لتجد مشرطا - معزّزا بهالة كاثرين - قد اخترق المادّة الهلاميّة المقيّدة لجسد الطّبيبة و انغرس في جسدها مخلّفا جرحا عميقا قد سالت منه الدّماء بكثرة فاندفعت إلى الخلف واضعة يدها على الجرح محاولة إيقاف الدّماء بينما قطعت الطّبيبة بلمح البصر المادّة التي حولها ثمّ نزعت التي على فمها مطلقة ضحكة مخيفة ثمّ قالت و هي تقترب من رايلين التي بدأ جرحها يتعافى بسرعة :

-"هل ظننت أنّ تلك المادّة المقزّزة ستنجح في إيقافي ؟..حتّى أنّك ظننت أنّ ذلك السّائل المخدّر سيستطيع حقّا تخديري ؟..أيّتها الصّغيرة السّاذجة..لقد كنت أعبث معك من البداية..و الآن سأجعلك تشعرين بالمعنى الحقيقيّ للألم..أعلم أنّ كلّ الجروح التي سأفعلها في جسدك ستشفى لكن الجرح الذي سأحفره في روحك و عقلك لن يفعل ذلك.."

-"كلام سخيف !"، صرخت رايلين مطلقة العشرات من البطاقات المعزّزة بهالتها نحو الآنسة كاثرين التي صدّتها جميعا بحركة واحدة من مشرطها.

-" ماذا قلت يا فتاة ؟ ، ردّت الطّبيبة بنبرة هادئة و أعين تفيض غضبا، كلامي..سخيف ؟..ماذا تعرفين عن الألم أيّتها المدلّلة..الألم ليس مجرّد شعور يمرّ بك ثمّ ينتهي..إنّه يبقى معك طوال حياتك..يعيش داخل كلّ قطرة في دمك و كلّ جزء من روحك..بعضنا يكبته داخله..و آخرون يخرجونه عبر صنع المزيد منه لأشخاص آخرين..لكنّه يبقى في النّهاية هناك..عندما أنظر إليك..أنت تذكّرينني بنفسي..كنت فتاة جميلة مثلك لكنّني لم أولد في المكان المناسب أو في العائلة المناسبة..ولدت في عائلة فقيرة..احتاج والدي المال بينما اشتهاني الكثير من أولائك الخنازير الأغنياء..لم يتردّد والدي و لو للحظة واحدة و باعني إلى واحد منهم..إنّ الشّهوة شيء غريب حقّا..شعور يريد كلّ البشر امتلاكه مهما كلّفهم ذلك من ثروة لكن فور إمساكهم به فإنّه يختفي خلال لحظات مثل هروب الرّمال من بين الأصابع..لكنّهم لا ييأسون من البحث..الشّهوة تجعلهم مثل الحيوانات..أخبريني ماذا تعرفين عن الألم أيّتها ال.." ثمّ اندفعت نحو رايلين بسرعة هائلة فتصدّت لها الفتاة رامية بطاقات على الأرض فانفجرت متحوّلة إلى حائط مخضرّ صلب فصل بينهما في اللّحظة الأخيرة.

-" أنا لم أكن مدلّلة، قالت الفتاة بينما كاثرين تحاول قطع الحائط بكلّ ما لديها، أنا لم أولد في عائلة فقيرة..كنّا سعداء..لكنّ والدي اختفى في أحد الأيّام دون أن يقول أيّ شيء و بدأت أحوالنا تتدهور ثمّ ماتت أمّي.. بعدها، ظللت أنا و أختي وحيدتين في هذا العالم..ثمّ اختفت هي أيضا و ظللت وحيدة..ربّما لم أعاني ما عانيته لكنّني أعلم جيّدا ما يعنيه الألم..."

فجأة سمعت الفتاة صوت صراخ كاثرين. بعد ثوان من الصّمت قُطع الحائط إلى عدّة أجزاء بلمح البصر ثمّ اندفع شيء ما بعد قطع الحائط مباشرة كأنّه مخلب وحش عملاق مخلّفا عدّة جروح في عدة أجزاء من جسد الفتاة التي لم تستطع أن تحمي نفسها من ذلك الهجوم و سقطت على الأرض و أغلب جسدها مغطّى بالدّماء.

رفعت رايلين رأسها ببطء لترى الطّبيبة كاثرين واقفة أمامها و قد أصبحت أظافر يديها طويلة جدّا ثمّ قالت :

-" بما أنّ قدرتي تستطيع شفائي قمت بصبّ بعض الحمض على أظافري فعادت أقوى بأضعاف ممّا كانت عليه" ثمّ أضافت بنبرة ساخرة:

-"ماذا ؟ هل تمكّن منك الألم بهذه السّهولة ؟..لقد قلت أنّك عانيت مثلي..قفي و أريني ما تستطيعين فعله"

لمع مشهد في عينيّ رايلين، كانت فتاة في مثل سنّها و كانت تشبهها كثيرا لكنّ شعرها كان أسود قصيرا مع بعض الحمرة في نهاياته و بشرة بيضاء..كانت عيناها غارقتين في الدّموع ثمّ قالت بصوت هادئ و حنون:" راي..أنت أقوى فتاة عرفتها في حياتي."

"أختي..سأجدك مهما كلّفني الأمر، قالت الفتاة في نفسها محاولة النّهوض ببطء، أعلم..أنّك حيّة." ثمّ صرخت بأعين غاضبة في وجه كاثرين :

-" أنا لم أنتهي منك..بعد."

ضحكت الطّبيبة و قد ظهرت عروق سوداء حول عينيها قائلة:

-" هذا مؤسف" ثمّ همّت بتقطيعها صارخة:

-"لأنّني أنا من سأنتهي منك !"

في اللّحظة التي كادت الأظافر الحادّة أن تلمس وجه رايلين انطلق برق أبيض من يديّ الفتاة الملامستين للأرض و حلّ زلزال بالمكان ثمّ اندفعت حيطان من الأرض و التوت محكمة القبض على جسد كاثرين بالكامل وصولا رقبتها.

صارت الطّبيبة تصرخ بجنون قائلة :

-"سأريك..أيّتها الفتاة المتعجرفة..سوف أتحرّر من هذا..و سأقطّعك إربا إربا ! أتسمعينني ؟!"

وقفت الفتاة بعد أن تعافت أغلب جروحها و صفعتها بقوّة ففقدت كاثرين وعيها على الفور و ركعت رايلين من التّعب متنهّدة:

-"الألم ليس سوى جزء من نسيج الحياة يا آنستي..كان عليك أن تتأقلمي معه ليجعلك تنضجين."

بعدها تمدّدت على الأرض مغمضة عينيها.

***

إنّه منتصف اللّيل إلّا ربع...

وصل دايموند إلى قمّة البرج الحامل لجرس ذهبيّ عملاق و أمامه  أحد معاونيه ذوي العباءات السّوداء ثمّ أتى خلفه كلّ من السيّدة ريد و السيّد لي في صمت.

-"سيّدي..إنّه هنا..إنّ إشارته عالية، قال المعاون مخفضا رأسه مشيرا إلى أسفل الجرس، نحن آسفون يا سيّدي..لم نستطع نزعه من مكانه"

-" هذا متوقّع من حثالة أمثالكم"، أجابه دايموند ثمّ التفت إلى لي قائلا:

-"أنت ! فلتقطع هذا الشّيء و لتستخرج الحجر الذي في داخله."

تقدّم لي إلى الأمام في صمت ثمّ أظهر هالة رماديّة و أخرج بطاقة لعب و عزّزها بهالته ثمّ حرّك يده في لمح البصر فقُطع الجرس إلى نصفين متساويين. تقدّم إلى النّصف الأيمن ثمّ سحب من أعلاه حجرا صغيرا ذا لون أزرق سماويّ قد نُقش عليه رمز الرّوح و قدّمه إلى دايموند عائدا إلى مكانه قرب السيّدة ريد فابتسم الرّجل محدّقا بالحجر ثمّ قال ملتفتا للمساعد:

-"أنت..فلتتّصل ب تينيبريس..أخبره بأن يأتي..لقد وجدنا الهدف."

عاد ينظر إلى الحجر و قد ارتسمت على وجهه ابتسامة عملاقة و مخيفة.

***

في تلك الأثناء..نهض أحمد إثر إحساسه باهتزاز في جيب معطفه فسحب منه جهاز الهايلو ليجد أنّه كتب فيه التّالي :

" السّحرة المسمّون ب دانيال آينجل، رايلين البايض، إميلي روبينز و مادوكا يتّصلون بك حاليّا "

أمر الفتى الجهاز بأن يجيب ثمّ قرّبه من أذنه فسمع أصواتهم تتحدّث مجتمعة في آن واحد لكنّه لم يستطع فهم كلمة واحدة فصرخ هو كذلك:

-" فلتصمتوا جميعا الآن ! "

توقّفت الأصوات في آن واحد ثمّ أضاف بصوت هادئ:

-" لن يمكننا فهم أيّ شيء إن ظللنا نتحدّث في آن واحد..أفهم من أصواتكم أنّ الجميع بخير..هذا جيّد..و الآن ماذا حدث عندكم يا جماعة ؟..هل وجد أيّ منكم الرّهائن ؟"

فأجابه صوت مادوكا قائلا:

-" حسنا..لقد وجدت الطبّاخ إزرا و قد قمنا بدردشة خفيفة."

ثمّ ردّت إميلي :

-" أنا..عذرا..لقد وجدت الرّهائن لكنّني واجهت أحد الأعداء لكنّني استطعت تحرير الرّهائن و هم في حالة جيّدة..أظنّهم قد خرجوا من المدرسة و اختبئوا داخل القطار."

-"هذا جيّد..هل نائبة المدير هناك ؟، قالت رايلين، أين المدير على أيّة حال ؟"

-"لا..أنا لم أرى أيّا منهما هناك"، أجابتها إميلي.

-"إذن..فقد تمّ احتجازهما في مكان آخر"، ردّ أحمد.

-"في مبنى الإدارة على الأرجح..علينا الذّهاب إلى هناك"، قالت رايلين.

-"دان ! أمازلت حيّا ؟"، قال مادوكا

أجابه دانيال مهمهما ثمّ أضاف :

-"ألا يمكننا أن نرتاح لخمس دقائق أخرى..كلّ عظمة في جسدي تؤلمني بشدّة..لقد كاد زوربا أن يستخرج دماغي من جمجمتي."

-"أنت لم ترى نايثان سيغارد..لقد صرت أعرف مذاق معدن التّنقستن في فمي."، قال أحمد فضحك كلّ من دانيال و مادوكا ثمّ أضاف هذا الأخير قائلا :

-"يا رجل..ذلك الفتى لديه مشاكل حقيقيّة معك..ربّما عليكما أن تقوما باستشارة الطّبيبة كات..أظنّه يكنّ لك بعض المشاعر."

-"أرجوك..لا أريد سماع المزيد عن الآنسة كاثرين،ردّت رايلين، كفانا حديثا الآن و دعونا نذهب إلى مبنى الإدارة."

وقف أحمد ثمّ انحنى كي يلتقط الجناح الفضّي من على الأرض و قد عاد إلى لونه الفضّي لكن مع عدّة خدوش ثمّ وضعه في الحامل و انطلق إلى الخارج.

***

بعد عدّة دقائق التقى السّحرة الخمسة أمام مبنى الإدارة الواقع خلف الممرّات السّبع قبالة برج الجرس العملاق. احتضنوا بعضهم البعض في صمت لفترة و قد امتلأت وجوههم بالخدوش و الجروح و اتّسخت ملابسهم بالغبار و الدّماء.

-"ماد ؟ ما الذي حلّ بشعرك ؟، قال دانيال ملامسا نهايات شعر مادوكا البيضاء، لقد قرأت في إحدى المرّات أنّ بعض الأشخاص قد يبيضّ شعرهم إثر تعرّضهم لصدمة ما..هل أخافك إزرا لهذا الحدّ ؟ "

ابتسم مادوكا قائلا:

-" لا تقلق مادوكا العظيم لا يشعر أبدا بالخوف..ربّما قد استطعت إيقاظ قدرتي أو شيء كهذا." ثمّ أضاف قائلا في نفسه : " يبدو أنّ الوهم الأبديّ أبديّ بالفعل..ربّما يمكنني أن أستعمل قدراتي مستقبلا دون أن أكسر ذلك الوهم."

فجأة سمعوا ضحكا قادما من أعلى البرج فالتفتوا جميعا إلى هناك ليجدوا دايموند يبتسم بخبث حاملا حجر الرّوح قائل:

-"أرى أنّكم قد استطعتم هزيمة حاملي الخطايا"

-"أظنّ أنّ هذا المهرّج هو قائد الهجوم"، همس دانيال.

-" أنا متأكّد من أنّ هذا الشّخص هو صاحب قدرة تنويم الخطايا السّبع"، أضاف مادوكا.

-" ما ذاك الشّيء الذي في يده ؟ "، سألت رايلين ثمّ التفتت إلى أحمد الذي لم يستطع إخفاء تفاجئه لدى رؤيته للرّمز المنقوش على ذلك الحجر قائلا في نفسه: " هذا مستحيل ! ذلك الرّمز..إنّه رمز الرّوح..ذلك الحجر قد يحمل قوّة ما قد تتسبّب في كارثة في هذا المكان..علينا أن نوقف هذا الشّخص."

فجأة ظهر العشرات من المساعدين مطوّقين كلّ المكان ثمّ انطلقوا مهاجمين السّحرة الخمسة.

-" لقد أخبرتكم أنّه يوم سيّء"، قال دانيال متنهّدا ثمّ أضافت رايلين :

-"حسنا، نحن معا الآن..إن عملنا معا سنستطيع هزيمتهم..."

-" انتظري !، قاطعها مادوكا، ربّما أستطيع تنويمهم جميعا دون أن نضطرّ إلى قتالهم." ثمّ تقدّم إلى الأمام مظهرا هالته و أطلق موجات من يديه نحوهم فتوقّفوا على الفور غير قادرين على الحراك. عندها فرقع إصبعيه قائلا بصوت هادئ:

-"استمعوا إلى صوتي..ليس هناك أيّ صوت آخر سوى صوتي..عندما أفرقع إصبعيّ ثانية ستصبحون غير قادرين على الحركة..أنتم الآن تماثيل حجريّة." ثمّ فرقع إصبعيه فاتّخذ كلّ واحد من المساعدين وضعيّة و أصبحوا مثل التّماثيل.

ضحك دايموند قائلا :

-" محاولة جيّدة أيّها المنوّم الشّاب"

أظهر دايموند هالته السّوداء و صفّق بيديه مرّة واحدة مطلقا موجات سوداء عملاقة فتحرّك المساعدون مجدّدا و انطلقوا نحو السّحرة الخمسة .

-" أوه..أظنّ أنّ قدراتي لن تنفع هنا، قال )مادوكا(، علينا أن نقاتل على الأسلوب التّقليديّ."

-" حسنا..فلنفعل ذلك إذا "، أضافت رايلين.

 وقف السّحرة الخمسة رافعين أدواتهم و مستعديّن للمواجهة الأخيرة.

 قال )أحمد( في نفسه و قد بدأت شرارات بالظّهور في كفّي يديه:" الجناح الفضّي لم يعد يعمل جيّدا..جسدي لا يزال يؤلم من قتالي مع نايثان..عليّ أن أستعمل نيراني..لكن علينا أن ننهي الأمر بسرعة فطاقتي ستنفذ قريبا كما أنّ حرارة جسدي في ازدياد دائم مع مرور الوقت..أظنّ أنّ هذا هو أحد عيوب هذه القدرة."

 فور اقتراب جيش العباءات السّوداء منهم غطّت السّماء سحب رماديّة بلمح البصر مطلقة صوت الرّعد الشّبيه بصوت ضرب طبل عملاق ثمّ انطلق برق أسود عملاق من السّماء ضاربا مساحة الأرض الفاصلة  بين السّحرة الخمسة و جيش دايموند فعمّت سحابة غبار عملاقة المكان بأكمله.

عمّ الصّمت الأجواء ثمّ بدأ الغبار ينقشع ببطء و ظهر مكان ضربة البرق ثلاثة رجال و كان في الوسط رجل شديد السّمرة يرتدي قميصا و سروالا قصيرا واسعين رُسم عليهما العديد من شجر النّخيل إضافة إلى حذاء بنيّ اللّون و عكّاز خشبيّ أسود ارتكز عليه بكلتا يديه.

اختفى الغبار تماما و ظهر الرّجلان الآخران حيث كان أحدهما هو جيلال صديق العمّ بلال و أخ آغنيس ببذلة ذات لون أزرق سماويّ و ربطة عنق زرقاء نُقشت عليها أحرف لغة القدماء مع معطف أسود طويل و قد تحوّل أغلب شعره الأسود إلى الرّماديّ أمّا الآخر فكان أشبه بنسخة أكبر سنّا من نايثان سيغارد بشعره الفضّي الطّويل حتّى الكتفين و عينيه ذات اللّون الأزرق الزّمرّدي المختبئتين وراء نظّارات مستديرة ذات إطار معدنيّ رقيق و لامع و كان يرتدي بذلة بنيّة مع معطف مخمليّ أسود يبرزان قامته الطّويلة و بنيته السّليمة مع خمس خواتم معدنيّة بسيطة التّصميم حول أصابع يده اليسرى.

-"أنظروا !، صرخ دانيال، إنّه..إنّه المدير سميث !"

 -"من اللّذان معه ؟، قال مادوكا.

-"هذا..هذا جيلال، همس أحمد دون أن يشعر فأجابه دانيال :

-"نعم إنّه هو جيلال بلاين"

-"أتقول بلاين ؟ "، صرخ الفتى ثمّ أضاف قائلا في نفسه :" بلاين هو اسم عائلة واحد من الثّمانية..كيف يعقل هذا ؟ صديق عمّي هو فرد من الثّمانية ؟"

-" نعم إنّه هو، ردّت رايلين، و الآخر هو جوناثان سيغارد فرد من الثّمانية، مالك العديد من نقابات السّحر ذات المستوى العالي حول المملكة..و والد ذلك المتعجرف نايثان."

الثّمانية: مجلس أُسّس على يد أقوى ثمانية سحرة منذ مائة عام و هو يمثّل أعلى سلطة في منظّمة السّحر، يتمّ اختيار أفراده كلّ خمس سنوات بواسطة رئيس المنظّمة. 

-"إنّهما من المستوى S إذن"، قال مادوكا ثمّ ابتسم محدّقا في المدير سميث قائلا:

-" أظنّ أنّ أحدهم قد نسي ملابسه الرّسميّة  في مكان ما..مدير مدرستنا كان في إجازة على الأرجح."

قال المدير سميث بصوته العميق و الهادئ:

-" أنا لم أذهب في إجازة منذ عشر سنوات و في الأسبوع الذي أخذت فيه إجازة يأتي أبله ما ليهاجم مؤسّستي و من يكون ؟ ماكس دينامو الطّالب الذي طرده مجلس الإدارة منذ سنوات." ثمّ رفع رأسه ناظرا بعينين مخيفتين إلى دايموند مضيفا :

-"حسنا أنا عدت من إجازتي لكنّني سأقوم بتلقينك درسا لن تنساه..ما دمت أدير هذه المدرسة لا أحد يؤذي المكان أو أيّ فرد ينتمي إليه !"

إنّه منتصف اللّيل إلّا خمس دقائق..المعركة النّهائيّة تبدأ الآن.


جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل السّابق

الفصل التّالي