هذا الفصل بعنوان :

عالم جديد 

انطلق صوت صفارة القطار معلنة وصوله إلى محطّة مدينة (القمر الأزرق) بعد رحلة دامت أربع ساعات كاملة. استيقظ (أحمد) فزعا، مدركا أنّه قد نام بعد كلّ ذلك الحديث مع (صالح) و أنّ هذا الأخير قد رحل فحمل حقيبته و في داخله شعور ضعيف من الاشتياق لصديق رحلته.

وقف الفتى في قلب المحطّة محدّقا في كلّ شيء حوله من ساعة المحطّة الحائطيّة العملاقة وصولا إلى السّقف المزخرف بالنّقوش و بمشهد تميّز بالدّقّة العالية لسماء صيفيّة في قلبها قمر عملاق ذو هالة زرقاء اللّون، تائها وسط بحر بشريّ من المسافرين مع مزيج من الأصوات الغير متجانسة و المثيرة للتّوتّر.

أخذ يفكّر قائلا في نفسه: "حسب الرّسالة المرفقة بالدّعوة فإنّ مضيفي السيّد (لي) هو من سيصطحبني إلى )هوكوشين(" ثمّ أضاف بنبرة متشائمة: " لكن أليس من المفترض أن يأتي هو إلى هنا قبلي كي يستقبلني ؟ هل يعقل أنّه تأخّر؟ "

جلس (أحمد) على أحد كراسي الانتظار واضعا حقيبته على كرسيّ بقربه و ظلّ ينتظر...

***

بدأت الشّمس تنزل من السّماء مختفية وراء الجبال البعيدة في شرقيّ المدينة، مخلّفة في الأفق ضوءا يجمع بين الذّهبي و الورديّ ممزوجا بزرقة السماء التي تزداد ظلاما مع مرور الوقت و لم يحضر المضيف (لي) حتّى الآن...

بدأت الحركة داخل المحطة تختفي شيئا فشيئا. كانت الشّمس قد اختفت تماما و حلّ مكانها القمر المكتمل بضوئه الفضّي في السّماء حالكة السّواد على المدينة.

 بعد انتظار دام لأكثر من ثلاث ساعات قرّر (أحمد) التجوّل في المدينة لعلّه يجد خيطا يدلّه على (هوكوشين) أو عن مضيفه.خرج الفتى من المحطّة و بدأ ينتقل بين الأزقّة الشّبه مظلمة.

" لقد ظننت أنّ القمر سيكون أزرقا في هذه المدينة، قال الفتى في نفسه، و إلاّ لماذا يسمّونها بمدينة القمر الأزرق على أيّ حال ؟"

لاحظ (أحمد) أن الأرض -التي كانت معبّدة بالأحجار الكلسيّة ذات اللّونين الأحمر و الرماديّ- في هذه المدينة منحدرة تمام الانحدار كما لاحظ أنّ الأبنية مختلفة تماما عن الأبنية التي في (بارذ) أو في (الجبل الأخضر) من ناحية التّصميم حيث كانت أغلب البنايات قصيرة بشكل غريب و ذلك راجع إلى كون أكثر من نصف البناء تحت الأرض.

"يا إلهي ما هذه الورطة ؟، قال (أحمد) في نفسه، ما الذي عليّ فعله ؟ إلى أين عليّ الذّهاب ؟" ثم أضاف بعصبيّة لاكما الجدار: "أين هذا المضيف اللّعين ؟ و أين هذه المدرسة اللعينة ؟"، فجأة سمع صوت ضحك غريب قادم من زقاق مظلم لا يضيئه سوه نور القمر.

اقترب ببطء و حذر شديدين فوجد عند نهاية الزّقاق المسدودة رجلين لم يستطع رؤية ملامحهما جيّدا، أحدهما أصلع، ضخم و بدين ، ذو بشرة نحاسية مع كثافة هائلة من الشّعر عند لحيته و صدره و ذراعيه و كان يرتدي ملابس رثّة، ضيّقة على معدته المكوّرة و مليئة بالرّقع أمّا الآخر فكان رجلا نحيلا ذو شعر طويل مع تموّج في خصلاته شبيه بتموّج الطّحالب البحريّة و كانت ملابسه واسعة كأنّه فزّاعة حقل ذرة، ثمّ لاحظ وجود شخص آخر بقربهما، كان ولدا أشقر الشّعر، يبدو في مثل سنّه، متوسّط الطّول ذو جسد نحيل و بشرة بيضاء أبرزت عينيه ذات اللّون الأزرق، و كان يرتدي بذلة فاخرة ذات لون رماديّ. كما لاحظ وجود نظّارات طبيّة مستديرة و حقيبة ملقيّتين على الأرض و سكّينا في يد (رجل الطّحالب).

"هيّا يا فتى ! ، قال (رجل الطّحالب) بصوت عفريت (نتيجة انسداد أنفه على الأرجح)، أعطنا كلّ ما لديك و سنتركك تذهب قبل أن أقوم أنا أو صديقي بترك أثر على وجهك الجميل يا جميل"

"لقد أخبرتك أنّني لن أعطيك شيئا يا هذا !، ردّ عليه ذلك الولد صارخا في وجهه فثارت ثائرة (رجل الطّحالب) و التفّ حول الولد واضعا السكّين على رقبته ثم أضاف بصوت غاضب: "لقد نفد صبري يا هذا ! لقد اخترت الموت، إنّها فرصتك الأخيرة هيّا قبل أن أحشر السكّين في عنقك."

في تلك الأثناء كان (أحمد) يراقب ما يحدث قائلا في نفسه: "ماذا عليّ أن أفعل ؟، لا يمكنني ترك ذلك الفتى هكذا، حتّى إن جريت نحو مركز الشّرطة فإنّ كلّ شيء سينتهي قبل أن يصلوا" ثمّ تنهّد واضعا يده على وجهه مضيفا: "يا إلهي..ها قد بدأت المشاكل منذ الآن"

وضع (أحمد) حقيبته في ركن في أوّل الزّقاق ثم التقط عدّة حُصيّ من على الأرض ثم صرخ بأعلى صوته: " أووووي !" فالتفت إليه الرّجلان و أضاف قائلا: "يا رأس الطّحالب ! لم لا تواجه من هو في مثل حجمك ؟"

فأطلق الرّجلان ضحكات ساخرة ثمّ أجابه (رجل الطّحالب) : "و هل تظنّ نفسك في مثل حجميّ ؟"

أجابه (أحمد) بحصاة رماها بدقة متناهية لتصيبه في عينه اليمنى فقفز من شدّة الألم واضعا يده على العين المصابة و مسقطا السكّين بينما تقدّم الرّجل الضّخم بخطوات سريعة نحو الفتى.

"هيّا أهرب !" قال (أحمد) مخاطبا ذلك الولد الذي تحرّر من براثن (رجل الطحالب) بينما كان يرمي عدّة حِصيّ نحو الرّجل الضّخم في كلّ من قدميه و صدره لكنّها لم تفلح في إبطاء سرعته المهيبة وانقضّ على رقبة (أحمد) بيد واحدة ثمّ رفعه في الهواء.

هرب الولد الأشقر بسرعة هاربا من يديّ الرّجل النّحيل لكنّ الآخر الضّخم أمسكه من رقبته و رفعه كذلك.

كان كلا الولدان يحاولان المقاومة -رغم اختناقهما- عبر تحريك أقدامهما و ضرب ذراعيه لكن دون أدنى فائدة.كانت ابتسامة ذلك الرّجل الضّخم وسط الظلام هي أكثر ما كان يؤلم (أحمد(.

"تبّا ! لم أستطع فعل أيّ شيء، هل هي النّهاية ؟، قال (أحمد) في نفسه، لا أريد أن أموت في مثل هذا المكان، تبّا أنا أوشك على فقدان وعيي".

بعد أن التقط سكّينه مجدّدا تقدّم (رجل الطّحالب) ماسحا الدّماء عن عينيه متوعّدا (أحمد) بأن يقتلع مقلة عينه. 

انطلق صراخ الرّجل الضّخم كأنّ شيئا لسعه فأفلت كلا الولدين و سقطا على الأرض ممسكين برقبتيهما و هما يسعلان.خلال لحظات لاحظ (أحمد) وجود ورقتي لعب انغرستا على ذراعيه مخلّفتين بركة من الدّماء الحارّة على الأرض.

"ماذا ؟! ورقتا لعب !" قال الولد الأشقر.

انطلق صوت تثاؤب غريب من على سطح المبنى المقابل لهم فالتفت الجميع إلى هناك. كانت هيئة رجل متوسّط الطّول و البنية، ذو شعر أسود طويل مصفّف على شكل ذيل حصان و كان يرتدي رداءا يصل طوله إلى كعبيه مع أكمام طويلة تخفي يديه.

"أيها الأبلهان ، ألا تستطيعان العيش بسلام ؟ أعليّ دائما تأديب أمثالكما ؟"، قال الرّجل ثم قفز و تشقلب في الفضاء و حطّ على الأرض بهدوء.

رغم جروحهما انطلق الرّجلان بسرعة هائلة حيث حاول الضّخم تسديد لكمة في وجه ذلك الرّجل لكنّ هذا الأخير أمال رأسه متفاديا إياها بسرعة و انسياب مبتسما ثمّ سدّد لكمة صاروخية في بطن ذلك الضّخم و قفز في الفضاء من جديد و ركله على قفاه فانغرس في الأرض (محدثا حفرة كبيرة) فاقدا وعيه تماما ثمّ تقدّم النّحيل ملوّحا بسكّينه في عدّة اتّجاهات لكنّ محاولاته باءت بالفشل حيث تفادها ذلك الرّجل بسهولة و سدّد ضربة نحو اليد الحاملة للسكيّن فأسقطها و أخرى نحو حنجرته جعلته يختنق على الفور و أخيرا ضربة عند قفاه جعلته يسقط على الأرض مغمى عليه.

لم يستسلم (رجل الطّحالب) و وقف بعد أن بصق بعض الدّماء من فمه و أمسك بقضيب حديديّ من الأرض و صرخ مهاجما ذلك الرّجل فانطلقت من فتحات تلك الأكمام أوراق لعب بسرعة هائلة مصيبة إيّاه في كلّ من ذراعيه و رجليه فسقط على الأرض من شدّة الألم.

تقدّم ذلك الرّجل إلى آخر الزّقاق و التقط نظّارات الولد الأشقر من على الأرض و عاد إلى الولدين الذين كانا مندهشين من كلّ ما حدث.

"ما الذي يحدث ؟! من هو هذا الرجل ؟" ، تساءل أحمد في نفسه بينما قدّم ذلك الرّجل النظاّرات إلى الأشقر فشكره هذا الأخير ثم وقف كلا الولدان محدقين بكلّ من الرّجلين الممدّدين على الأرض و الرّجل الذي أنقذهما.

تثاءب منقذهما بصوت شبيه بعواء ذئب واضعا يده على فمه ثم قال : " أظنّنا لم نتعارف بعد، أنا أدعى (شن لي) و يمكنكما مناداتي (لي)، أنا مضيفكما الذي من المفترض أن تنتظراه في المحطّة و أنا أعتذر بشدّة عن تأخّري" و التفت إلى (أحمد) قائلا: " أنت (أحمد ماجِيَرْ) صحيح ؟" فأجابه (أحمد): "نعم إنه أنا". ثمّ التفت إلى الفتى الآخر : "إذن أنت (دانيال آينجل(" فأجابه هو الآخر :"نعم".

"هيّا اتبعاني " قال (لي) هامّا بالذّهاب فحمل كلا الولدان حقيبتيهما بحماس و لحقا به. كانت أغلب الأزقّة مظلمة لا ينيرها سوى ضوء القمر و بضع فوانيس زيتيّة و كان (لي) يمشي باتّزان و سرعة جعلت كلا من الولدين يهرولان للّحاق به.

"نسيت أن أشكرك على محاولاتك لإنقاذي" ، قال (دانيال) ملتفتا إلى (أحمد(.

"لا شكر على واجب، هل أنت بخير ؟" أجابه الفتى مبتسما.

"أنا بخير، شكرا"، ردّ (دانيال).

"لقد أعجبني تصويبك يا فتى، قال (لي) ملتفتا إلى(أحمد)، لقد كان حقّا دقيقا، إنّها موهبة جميلة برأيي."

"ما كانت تلك الأوراق ؟" سأله الفتى.

"نعم، لقد كانت سريعة و انسيابيّة و صلبة ، لا يمكن لأوراق اللّعب أن تكون بمثل هذه المواصفات."، أضاف (دانيال).

"إنّها تدعى بأوراق (الفاي) و هي تمتلك تلك المواصفات التي تحدّثت عنها يا (دانيال) بل و أكثر"،أجاب (لي).

"لكن ما الذي جعلها بتلك السّرعة ؟ هل تمتلك أداة ما تساعدك على إطلاقها ؟"قال (أحمد).

"إنّها سرعة تفوق قدرة البشر على الرمي، كأنها أطلقت من مسدّس" أضاف (دانيال).

"(الفيتاي) هي ما جعلتني أطلقها بتلك السّرعة" أجابهما (لي) ثم أضاف مبتسما : "و لا تسألاني ما هي (الفيتاي) أيّها الفضوليّان، ستعرفان كلّ شيء في وقته".

ابتسم الولدان و ضلّا شبه صامتين حتى توقّف (لي) أمام متجر صغير عليه لافتة كتب عليها "سيدوس".

تقدّم (لي) و فتح الباب ثم دخل فتبعه الولدان إلى هناك. كان المكان منارا بعدّة فوانيس زيتيّة صغيرة صفراء معلّقة في السّقف كأنّها نجوم، و كان مليئا بالعديد من الألعاب السّحريّة الموضوعة على العديد من الرفوف.

"إنه متجر أدوات السّحر" قال (أحمد) ثم التفت إلى (دانيال) مضيفا :"لقد كنت أذهب إلى متجر مثل هذا".

كانت توجد امرأة عجوز خلف المكتب تقرأ كتابا، ألقت نظرة سريعة على (لي) و من معه ثم عادت إلى كتابها دون مبالاة.

"سيّد (لي)، أليس من المفترض أن نذهب إلى (هوكوشين) ؟، قال (دانيال) ملتفتا إلى (لي)، لماذا نحن هنا ؟"

أجابه (لي) مبتسما: "من قال أنّنا لسنا ذاهبين" ثم تقدّم إلى المكتب و قال محيّيا تلك العجوز: "عمتِ مساء، سيّدتي." لكنّها لم تعره أيّ اهتمام ثم توجّه إلى خلف المكتب حيث وجد باب فأمسك مقبضه و أداره ثمّ فتحه ليظهر درج يؤدي إلى الأسفل حيث كان هناك شعاع أخضر. قالت العجوز دون أن تلتفت إليه :" عليك أن تسرع أيها الكسول، (سولو) غاضب جدّا."

أجابها نازلا الدّرج: "أعلم..أعلم." ثم التفت إلى الولدين قائلا :"ألن تأتيا ؟" فتقدّم الولدان و نزلا متّبعين (لي) حتّى وصلوا إلى مكان فسيح لا تضيئه سوى بضع مصابيح خضراء صغيرة  معلقة في السّقف المرتفع.

"ما هذا المكان ؟، قال (أحمد)، ما تلك الأشياء التي تضيء ؟" ثمّ أضاف قائلا في نفسه: "إنّها ليست فوانيس زيتيّة و ليست شمعا..ما الذي تكونه ؟"

" هذه..هذه مصابيح كهربائيّة، أجابه (دانيال)، إنّها أشياء تعمل بواسطة طاقة تسمّى بالكهرباء..لكن كيف وصلت مثل هذه الأشياء إلى هنا ؟ إنّها لا تزال مجرّد نماذج أوّليّة في المعامل و المختبرات ؟"

فجأة أضاءت المزيد من المصابيح بلون أصفر باهر فعمّ النّور المكان بأكمله."يا إلهي !،صرخ (دانيال) دون أن يشعر، إنّها محطّة قطارات تحت الأرض"

ابتسم (لي) و تقدّم نحو مقاعد الانتظار قائلا: "أنتما لم تريا شيئا بعد" ثم أضاف: "توفّر لنا منظّمة السّحرة شبكة قطارات خاصة بالسّحرة وحدهم و لهذا فهي مخفيّة تحت الأرض"

"هل قال منظّمة السّحرة للتّو ؟" قال (أحمد) في نفسه.

بعد لحظات ظهر ضوء قطار قادم من آخر أحد الأنفاق مطلقا صفارة الوصول و كان أسرع من أيّ قطار شاهده الفتى في حياته.

"أنظر يا (أحمد)، قال (دانيال)، هذا غريب ! إنه لا يصدر دخّانا"

توقّف القطار ثم فُتحت الأبواب و كان فارغا تماما.

"يبدو أننا سنكون آخر الواصلين" قال (لي) بنبرة مازحة ثم أضاف بحماس :"هيّا لنركب !"

ركب الجميع القطار فأُغلقت الأبواب و بدأ القطار بالتّحرّك و التّسارع شيئا فشيئا بعد أن أطلق صفارة الانطلاق.جلس الولدان بجانب بعضهما واضعين حقيبتيهما بجانبهما بينما جلس (لي) قبالتهما.

اتّضحت أمام (أحمد) ملامح كلّ من (دانيال) و (لي) تحت أضواء القطار الدّاخلية فهو لم يستطع التمعّن فيها جيّدا بسبب الأحداث السابقة و الضّوء الضعيف.

كان وجه (دانيال) مستديرا بعض الشّيء (رغم كونه نحيلا)، كما كان يمتلك بعض النّمش على خدّيه و أنفه الصغير و كانت ملابسه الفخمة تبدو غاية في الأناقة  بينما كان وجه (لي) شبه أصفر و نحيلا بعض الشّيء و كانت عيناه مائلتين و ضيقتين لدرجة أنّك لن تستطيع سوى رؤية أهداب كثيفة منغلقة على بعضها لكنّه كان وسيما بطريقة ما، ثم انتبه (أحمد) إلى لباس (لي) الفريد ذو اللّون الأزرق المائل للسّواد ذو الأزرار الخشبيّة الشّبيهة بأنياب وحش ما و كان مفتوحا على كلا الجانبين عند مستوى خصره كما طُرّز على صدره من جهة اليمين شعار (هوكوشين) بخيوط بيضاء.

فجأة سمعوا صوتا غاضبا :" لييييييييي ! "، كان صوتا قادما من بوق وُضِع في ركن قرب السّقف و كان خشنا بطريقة مبالغ فيها كأنّ صاحبه قد تمّ خنقه آلاف المرّات.

ابتسم (لي) -بعد أن تثاءب- مجيبا :"ماذا يا (سولو) ؟".

عاد الصّوت من جديد قائلا :"ماذا أريد هاااا؟! سيوبّخنا المدير بسبب كسلك أيها ال..".

ضحك (لي) قائلا: "لا تقلق..لا تقلق..سنصل في الوقت المناسب أنت دائم الغضب "

ازداد الصّوت غضبا قائلا :" أنت دائم الكسل و الهدوء..هل تتعاطى المخدّرات يا هذا ؟"

عندها ابتسم (أحمد) بينما أفلتت من (دانيال) قهقهة خفيفة فضحك (لي) هو الآخر ثمّ  قال :"أرأيت يا (سولو) لقد جعلتهما يضحكان علينا".

سعل (سولو) مرّتين ثم قال بصوت هادئ :"أنا أعتذر بشدّة أيها الولدان" ثم أضاف بنبرة فيها بعض من المرح :"أهلا بكما في (هوكوشين( !"

سأل (دانيال) ملتفتا إلى البوق:

- " سيّدي أيمكنني أن أسألك سؤالا ؟"

- " نعم، تفضّل."

- " لقد لاحظت أنّ هذا القطار لا يخرج دخّانا، ألا يعمل على الفحم ؟"

- " سؤال جيّد ، قطاراتنا ليست مثل قطارات السّطح، إنها تعمل على إنبعاثات غاز يطلقه حجر يسمى ب(حجر السرعة).

- " هذا مذهل"

- " لذلك فقطاراتنا أسرع من القطارات الأخرى مرّتين على الأقلّ كما أنّها لا تحتاج إلى أن نملأ الخزّان في كل مرة ، حجر واحد يكفينا مدّة طويلة تتجاوز الستّة أشهر."

- " هذا أقرب ما يكون إلى الطّاقة المتجدّدة"

- " إنّه كذلك..هاع هاع هاع"

ظلّ الجميع يتحدّث بينما كان (أحمد) يحدّق -أثناء المحادثة- من حين لآخر بنوافذ القطار التي لا يظهر من خلالها أيّ شيء سوى الظلام.

بعد أكثر من نصف ساعة قال (سولو) :"عشر دقائق أخرى و سنصل، جهّزوا أنفسكم" و عندها ظهر نور فضّي من نهاية النفق ثم سطع بقوّة شديدة جعلت (أحمد) يغمض عينيه و فور انخفاض السّطوع فتح عينيه و كانت المفاجأة، لمح الفتى البحر من النوافذ فتقدّم ليجد أن القطار يسير -حرفيّا- فوق الماء.

"هذا مستحيل" قال (أحمد) في نفسه.

"هذا لا يصدق ! نحن نمشي فوق الماء" صرخ (دانيال) و قد التصق أنفه بزجاج النافذة.

كان البحر أزرق داكنا يعكس نور القمر الفضّي ممتدّا على مرمى البصر و لاشيء آخر سواه بينما كانت السّماء سوداء صافية تتلألأ فيها النجوم و ينيرها القمر المكتمل ثم انبعثت نسماته المنعشة إلى داخل القطار. فتح (أحمد) النّافذة و أطلّ برأسه تاركا الرّياح تلامس وجهه، محدّقا بذلك المشهد الذي لا ينسى بينما ظلّ القطار يتقدّم مخلّفا زُبَدا شبيها برغوة الحليب.

"ها نحن ذا !" قال (سولو) "لقد وصلنا".

"ما الذي يتحدث عنه ؟، قال (أحمد) ملتفتا إلى (لي)، أنا لا أرى شيئا سوى البحر".

خلال لحظات ظهرت جزيرة من العدم.

كانت الجزيرة مهيبة تحت الضّوء الفضّي و كانت مليئة بعشرات الأضواء الصّفراء العابرة من النّوافذ و مئات الفوانيس المحيطة بشاطئ الجزيرة.

ضحك (لي) ثم أجاب (أحمد) قائلا: "و الآن ؟"

"ما الذي يحدث ؟، صرخ (دانيال) و قد اتّسعت عيناه، لا يمكنني تصديق هذا، لقد استطاعوا إخفاء جزيرة بأكملها"

"ما الذي كنت تتوقّعه من السّحرة ؟، قال (لي)، نحن أفضل من يستطيع إخفاء الأشياء".

إثر سماعه لتلك الكلمات أحسّ (أحمد) بالأمان و الانتماء الحقيقيّ إلى مجتمع السّحرة، كان شعورا جميلا ذكّره بمحبّة سكّان قريته.

بدأ القطار بإبطاء سرعته شيئا فشيئا بعد دخوله إلى ميناء الجزيرة الحجريّ حتى توقّف مطلقا صفارة الوصول ثمّ فُتحت الأبواب.

"حان وقت الخروج أيها الولدان" قال (لي) ملتفتا إلى الولدين.

خرج الجميع من القطار واقفين على الأرض الخراسانيّة التي أضيئت بفوانيس وضعت على الأرض فتقدّم (لي) إلى الأمام بينما تبعه الولدان حاملين لحقيبتيهما بينما أكمل القطار طريقه غاطسا تحت الماء نحو أسفل الجزيرة.

وصل الجميع إلى سور حجريّ يتجاوز طوله المائة متر، به بوّابة حديديّة عملاقة بمصراعين نقش عليها شعار المدرسة و خلال لحظات فُتحت البوّابة قليلا ثمّ دخلوا.

"مهلا هل نحن داخل قلعة ؟"قال (أحمد) في نفسه.

كانت توجد ساحة واسعة (أرضيتها من المرمر) تتوسّطها قطعة أرض خضراء بها شجرة عملاقة عُلّقت عدة فوانيس في أكبر أغصانها و تحتها عدّة كراس شبيهة بالتي في الحدائق العمومية.يحيط بتلك السّاحة سبعة ممرّات تفضي إلى العديد من القاعات إضافة إلى عدّة أبراج  كان أطولها  يحمل في قمّته جرسا عملاقا.

فجأة سمع (أحمد) ضجيجا صادرا من إحدى الممرات.

توجّه (لي) إلى الممرّ قائلا :"لقد بدأ عشاء الاستقبال ! هيّا لنسرع بالدّخول" ثمّ تقدّم نحو قاعة ذات باب خشبيّ أسود كبير و دخل و قد تبعه الولدان.

كانت قاعة فسيحة تتميز بطولها الذي يبلغ خمسة أضعاف عرضها و الارتفاع المهيب حيث عُلّق في سقفها (الذي كان على شكل نصف اسطوانة) ثريّة عملاقة بها المئات من المصابيح الكهربائيّة الصّفراء.

وُضعت في تلك القاعة ثلاث طاولات شديدة الطّول بشكل عموديّ بجانب بعضها البعض حيث يجلس عند التي في اليمين العشرات من الأولاد الذين في مثل سنّ (أحمد) و (دانيال) بينما عند الأخريين يجلس آخرون يبدون أكبر سنّا كما لاحظ الفتى أنّهم يلبسون ملابس شبه موحّدة مع شعارات مختلفة.

يحصل طلّاب هوكوشين على لباس موحّد و هو عبارة على بذلة رماديّة  بسيطة  بالنّسبة إلى الذّكور و بذلة رماديّة  نسائيّة مع تنانير بالنّسبة للفتيات أمّا ربطة العنق المخطّطة فهي اختياريّة.

يحمل اللّباس الموحّد الخاص بالسّنة الأولى شعار المدرسة فقط أمّا في السّنتين القادمتين فيضاف إليه شعار الشّعبة التي سيختصّ فيها الطّالب. 

أمام كلّ تلك الطّاولات كانت هناك منصّة عليها طاولة مميّزة بنقوش ذهبيّة، يجلس عندها قرابة العشرين شخصا بالغا.

عند دخول كلّ من (لي) و الولدين التفت الجميع نحوهم للحظات ثم عادوا إلى الحديث مجدّدا."حسنا أظنّنا قد فعلناها ،قال (لي) مبتسما، لقد وصلنا في الوقت المناسب"، ثم التفت إلى الولدين قائلا : "هيّا اجلسا بجانب زملائكم".

جلس (أحمد) و (دانيال) عند إحدى الطاولات بعد أن وضعا حقائبهما عند الزاوية بينما ذهب (لي) للجلوس عند طاولة البالغين.

كان المكان مليئا بالهمهمة كأنّه خليّة نحل.

بعد عدّة دقائق انطلق صوت ضرب ملعقة بكأس زجاجيّ فعمّ الصّمت المكان حيث وقف رجل من طاولة البالغين، كان طويلا ذو بشرة شديدة السمرة و وجه يحمل تعابير بسيطة و هادئة : عينان كبيرتان سوداوان و جاحظتان، أنف و فم صغيران و فكّ ضخم، و كان يرتدي بذلة زرقاء اللّون (دون ربطة عنق) و قبّعة مستديرة من نفس القماش تغطّي رأسه الأصلع إضافة إلى خاتم ذو حجر كريم أسود حول خنصر يده اليسرى.

"أنظر ! إنّه المدير (سميث) "، همس أحد الأولاد بجانب (أحمد).

"إذا هذا هو السيّد (إسحاق سميث) "،  قال (أحمد) في نفسه.

وسط كلّ الهمسات قال المدير مخاطبا كلّ الحاضرين:

"أبنائي الكرام،

أهلا بكم في (هوكوشين) مدرسة السّحر الوحيدة في كلّ المملكة.

لطالما كانت ألعاب الخفّة أحد أجمل الفنون منذ فجر التاريخ، فلقد جمعت بين المتعة و الترفيه، و التحفيز على التفكير كذلك.

منذ مائة عام ، قرّر أعظم ثمانية سحرة حول العالم عمل منظمة السّحرة لضمان تمرير إرث مجتمع السّحرة إلى الأجيال القادمة، و بمرور السنوات انضمّ مئات السّحرة المشهورين إلى تلك المنظّمة متبرّعين بجزء من ثرواتهم و وقتهم من أجل وحدة مجتمع السّحرة و جعل حياة كلّ فرد منه أفضل من أيّ وقت مضى.

لم يعد الجيل الجديد من السّحرة محصورا في تلك الصّورة النّمطيّة القديمة فالعروض في السّيرك أو المسارح و حتّى المجازفات أصبحت مجرّد جزء بسيط و كلاسيكيّ من هويّتنا كسحرة حيث أنشئت العديد من المجالات الأخرى متعدّدة التوجّهات.

ربّما قد ظلّ بعض من ألمع سحرة هذا العقد طريقهم أمثال (القطّة السّوداء)، (كيد) و (لوبان) الذين يقومون باستعمال المعرفة و المهارات التي تعلّموها هنا في أعمال السّرقة و الشّغب إلّا أنّ لدينا من جهة أخرى فرقة سحر من أعلى مستوى تعمل مع وزارة الدّفاع للتّصدّي لأمثالهم أو لأيّ مواقف تصعب على حرّاس الأمن العاديّين.

لدى منظمة السّحرة قسم خاصّ للتطوير كذلك ، هذا بالإضافة إلى الكثير و الكثير من المجالات الأخرى...

حسنا، دعونا نعد إلى الأهمّ.

برنامجكم الدّراسي سيكون على مدار ثلاث سنوات حيث ستبدؤون في سنتكم الأولى بتعلّم فنون السّحر و كلّ شيء عنه من تاريخ مجتمع السّحرة و العلوم التي وراء خدعنا من الصفر حتّى مستوى معيّن من الاحتراف. في سنتكم الثّانية ستوزّعون على عدّة شُعب تختصّ كلّ منها في نوع محدّد من السّحر ثمّ في مرحلة معيّنة ستحصلون على رخصكم ال..."

"سيّدي، أظنّ أنّ هذا يكفي فلتدعهم يكتشفون كلّ شيء في وقته"، قاطعه صوت نسائيّ ذو نبرة حازمة لسيّدة تبدو في منتصف الثلاثينات، ذات بشرة شديدة البيضاء و شعر أسود قصير مع عيون بنيّة تحجبها نظّارات طبيّة مستطيلة الشكل وُضعت على أنفها الدّقيق،  و كانت ترتدي ثوبا أسود جميلا نُقش عليه شعار المدرسة.

ابتسم السيّد (سميث) فجلس قائلا : "أظنّ السيّدة (ريد) على حق لذا فلنتوقّف عن الحديث و دعونا نتناول العشاء قبل أن يبرد.

أهلا بكم في هوكوشين يا سحرة المستقبل ! "

عندها دخل العشرات من الخدم حاملين بين أيديهم ما لذّ و طاب من أطباق شهيّة الرّأئحة.

***

بعد العشاء تمّ مرافقة كلّ من الأولاد و البنات الجدد بواسطة ممثّلي الطّلبة الأكبر سنّا إلى المكان الذي سيبيتون فيه و هو عبارة عن مبنيين منفصلين عن المدرسة يقعان وراءها بعدّة أمتار. في تلك اللّيلة لم يستطع أيّ أحد من "الجدد" النّوم...

***

حلّ الصّباح...

أفاق كلّ من في المبنى على صوت قرع جرس عملاق ثمّ سمعوا صوت خطوات عملاق يقترب و خلال لحظات اقتحم المكان رجل أصلع، أسمر البشرة بتعابير وجه خشنة : عينان قد انغرستا داخل محجري جمجمته ممّا جعلهما يبدوان مثل ظلّين لحفرتين عميقتين، فكّ مربّع كبير أشبه بجرّافة عملاقة و أنف ذو منخرين واسعين، و كان يرتدي قميصا أسود يكاد يتمزّق في أيّ لحظة نتيجة بنية جسده الوحشيّة،  سروالا أخضر داكن و جزمة سوداء

وقف منتصب القامة في صمت ثمّ صرخ قائلا :

"هيّا أيّها الأميرات ! ألا تزلن نائمات حتّى الآن ؟"

"لكنّها السّادسة صباحا سيّدي "، أجابه ولد ضعيف البنية مرتديا نظّاراته.

اقترب الرّجل العملاق منه و صرخ في وجهه :"هذا ما سيكون عليه الأمر كلّ يوم إبتداءا من هذا اليوم أيّتها الحشرات الصّغيرة و حتّى تنتهوا من الدّراسة في هذا المكان لذا فلتصطفّوا أمامي الآن !"

بلمح البصر اصطفّ الجميع أمامه ثمّ قال:"أهلا بكم في حصّة الرّياضة الصّباحيّة. أنا أدعى (ألزيكس زوربا) و أنا أستاذ الرّياضة الخاصّ بكم طوال الثّلاث سنوات القادمة والآن فلتجهّزوا أنفسكم بسرعة، ستجدون ملابس الرّياضة الخاصّة بكم في خزائنكم ثمّ سنبدأ بالرّكض حول هذه الجزيرة. هل هذا مفهوم ؟"

و بحركة شبه تلقائيّة أجابه الجميع : "حاضر !"

"حاضر ماذا ؟" ، صرخ (زوربا)

"سيّدي حاضر سيّدي !"، أجابه الجميع مجدّدا.

"أراكم على الشاطئ بعد نصف ساعة "، ردّ الوحش البشريّ ملتفتا إلى الباب و فور رحيله انطلق الجميع بسرعة لتجهيز أنفسهم.

كان (زوربا) بانتظارهم رفقة الفتيات من المبيت الآخر على الشّاطئ حافي القدمين واضعا فردتي جزمته اللّتين ربط خيوطهما ببعضهما البعض حول رقبته.

وصل الجميع مصطفّين أمامه فأمرهم بأن ينزعوا جزماتهم و يعلّقوها حول رقابهم ثمّ قال :" إسمعوني جيّدا لأنّني سأقول هذا مرّة واحدة فقط. مثلما تحتاج عقولكم إلى المعرفة و التّفكير فإنّ أجسادكم تحتاج إلى التّدريب يوميّا، إنّها المعبد الخاصّ بكم.

كلّ ما عليكم أن تعلموه الآن هو إن لم تتدرّبوا جيّدا فإنّ أجسادكم لن تقوى على تحمّل ما هو قادم و الآن دعونا نتوقّف عن الثّرثرة و ليبدأ التّدريب! "

ثمّ انطلق الوحش البشري يركض غارسا أصابعه برمال الشاطئ بينما تبعه الجميع صارخين بصوت واحد: "سيّدي حاضر سيّدي !" و كان (أحمد) و (دانيال) وسط ذلك الحشد يجريان حذو بعضهما.

-"يا إلهي أنا لا أستطيع أن أفعل هذا...سأموت"، قال (دانيال) لاهثا.

-" لقد بدأنا للتّو و أنت تلهث و تتعرّق ؟"، أجابه (أحمد) ضاحكا.

-" و هل أبدو لك كأنّني شخص رياضيّ ؟"

-"ههه..هيّا هيّا يمكننا فعلها"

-"أنظر إلى ذلك ال(زوربا)..إنّه ليس بشريّا ! ألا يتعب أبدا ؟"

-"هيّا يا (دانيال) و إلاّ فإنّني سوف أتركك خلفي"

-"لا لا أرجوك لا تتركني"

هكذا ابتدأ أوّل يوم ل(أحمد) في مدرسة (هوكوشين) متحمّسا لبدأ أوّل خطوات له في عالم السّحر.

جميع الحقوق محفوظة

لا يجوز نشر أي جزء من هذه الرّواية أو تخزينها او نقلها على أي نحو أو بأي طريقة او خلاف ذلك الا بموافقة خطية من المؤلف مقدّماً.


الفصل السّابق

الفصل التّالي