كنتُ صغيراً في السن ، جريئاً بالقول ؛ عندما طرحتُ سؤالاً إلى بخاريِّ هذا العصر الشيخ المُحدث محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى - عن فتح القسطنطينية والثناء النبوي بشأن ذلكم الجيش الذي يفتتحها والأمير الذي يكون عليه ، وسبب هذا السؤال هو ما قد كان يدور في خلدي حينها من تعارض ما !
أظن أنّ بعضكم متشوق لأن يعرف ما قد جاء ودار في لقاء رجلٍ يجيء اسمه بعد حديث سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – مذيلاً هذا الاسم بمقولة " وصححه الألباني " !
حسناً ؛ لا مانع من تطييب خواطر محبي الشيخ بذلك ، ومؤانستهم به قبل الولوج لأس مقالنا ..
قبل وفاة الشيخ بسنة أو سنتين كنتُ قد ذهبتُ مع والدي إلى الأردن ، وحينها كنتُ أسمع وأعرف بعض الشيء عن أهمية الشيخ ومكانته العلمية وجدارته النقدية ، ولكنها معرفة عن شيء ، وليست علماً بـشيء !!
سبب هذا اللقاء – بعد فضل الله تعالى – أنّ سكننا في الأردن قد صار بجوار طلبة سعوديين يدرسون هناك ؛ فعرض هؤلاء الطلبة عليّ أن أصحبهم للقاء كان قد أعد مسبقاً مع الشيخ في رابية من روابي عمّان الخضراء في الصيف . استشرتُ والدي حينها ؛ فوافق – جزاه الله خيراً - أن أصحبهم لما يُريدون وعليه يُزمعون ، ومن ذا الذي يفوت فرصة تاريخية كهذه !!
توجهنا إلى مكان اللقاء ؛ وأظن الوقت حينها كان قبيل العصر ، وأثناء الطريق قال لنا أحد هؤلاء الطلبة بأنّ الشيخ لا يُحبذ أن يُقبِّل أحد رأسه ؛ ويرى هذا اللون من التكريم بدعة خليجية – ولست أدري حتى ساعتي هذه : أكانت مزحة من ذلك الطالب أم أنّه جاد فيما قاله ؛ لأنّ هذا الطالب كان يفعل كثيراً من المقالب بنا - !!
على أية حال ؛ وصلنا هناك ، ووجدنا الشيخ جالساً على كرسي قد أّعدّ له ، ويلبس – رحمه الله تعالى – ثوباً أبيض جيبه العلوي على يمين صدره لا على شمالها ، وتتدلى من هذا الجيب – حسب ظني – سلسلة ساعته التي في مخبأته ، وتحيط برأسه طاقية بيضاء تشبه بياض لحيته .
توجهنا للسلام عليه ؛ فكان صاحبنا الذي قد حذّرنا تقبيلَ الرأس هو أول من قبّل رأس الشيخ ؛ فكان أن تتالينا بعده نقبّل رأس الشيخ الجليل ، وفي صدرنا غيظ شديد من زميلنا صاحب المقالب التي لا تنتهي !!
جلسنا على الأرض ، وكنّا خمسة من السعوديين ومجموعة أخرى من طلبة الشيخ الأردنيين .
أكبرنا ( المجموعة السعودية ) كان رجلاً من مكة ، وأظن بأنه كان يدرس فصلاً صيفياً في عمّان أو لربما كان يُكمل دراسته العليا ( لا أتذكر على وجه التحديد ) وقد كان في هذا الرجل من الأدب وحرص الفائدة وضلع العلم الشيء الكبير والغزير ، يليه في العمر شاب سعودي من إحدى مناطق المملكة ، ولكن هذا الشاب كان مزعجاً جداً وتعوزه اللباقة في كثرة مداخلاته واستدراكاته وأسئلته - وأشياء أخرى تنم عن نقصٍ بالذوق وقلةٍ في الاحتراز مع هيبة العلماء وتوقيرهم ، وقد استحلبت هذه الحركات منه اشمئزاز طلبة الشيخ وامتعاضهم ؛ إذْ أنّ هذا الشاب المتعالم قد أرهق الشيخ بكثرة أسئلته واستدراكاته !
تبقى من السعوديين ثلاثة : الطالبان اللذان يدرسان في الأردن وقد لزما الصمت تماماً ، وغشيهم من الأدب ما غشيهم ( صاحب المقالب بلع العافية صح بحضرة الشيخ الجليل ) ، وأخيراً كان بعد هؤلاء أصغرهم سناً وأقلهم علماً وهو أنا ، وقد اكتفيت بسؤال واحد هو سبب موضوعنا هذا – كما سيأتي - .
أما عن غير السعوديين ؛ فقد كان الحضور يضم – كما أسلفت - عدداً من طلبة الشيخ الأردنيين ؛ وقد رأيتُ من توقيرهم له ، وحفاوتهم به ، وتلطفهم معه : ما إنّه ينتزع الإعجاب من النفس حقاً ، ويجتذب التقدير من الخاطر صدقاً ؛ فجزاهم الله خير الجزاء .
طلبة الشيخ أتذكر منهم رجلاً بديناً كثير المزاح ، محتشم النكتة ، خفيف المؤانسة ، وأحسبُ الشيخ آنئذ يستلطفه ويهضم طرائفه ودعاباته ، ولكن للأمانة والتاريخ ؛ فإنّ مزاح ذاك الرجل قد كان بمنتهى الأدب ، والذوق ، والبراءة ، وأظنه كان يفتعل كل هذه الملاطفات من أجل مؤانسة الشيخ ، وإدخال السرور على صدره ، وانتزاع البسمة من محياه .
من بابةٍ أخرى ؛ فإنّ ثمة طالب آخر كان كثَّ اللحية ( أردني ) ، صبوح الوجه ، جذّاب الحركات ، ويبدو لي – إن لم تخني الذاكرة – بأنّه من أخص طلاّبه وأقربهم إليه ، وكذلك أحسب أنه موضع الثقة العلمية والزكانة المعرفية عند الشيخ الألباني ؛ ومع هذا ؛ فإنّ هذا الطالب المقرّب قد أخطأ في نسبة حديث كان قد تسبب عندي – كما أسلفت - في إشكالية تاريخية حيال فتح القسطنطينية ؛ فلما سألتُ الشيخ عنه لم يستحضر سنده جيداً بعد أن أطرق وتردّد ؛ فأسعف الشيخَ حينها هذا الطالبُ بقوله أنّ هذا الحديث موجود في صحيح الجامع ، ولكن الصواب بعد كل هذه السنين الطويلة من ذلكم اللقاء التاريخي : هو أنّ الشيخ قد ضعّفه ولم يصححه .
ربما بعضكم الآن يعجب من نسيان الشيخ – رحمه الله تعالى – لحديثٍ قد خرّجه هو بنفسه ، وتلقيه التذكير من أحد طلاّبه ؛ والجواب بأنّ الشيخ الألباني رحمه الله تعالى كان يستحضر من كتبه أكثر من حفظه ، ومع كل هذا ؛ فإنّ الشيخ قد تحفّظ الإجابة حينها ؛ مما يدل على عدم ارتياحه التام لاجتهاد تلميذه ومساعفته الخاطئة ، والتي كانت حتماً غير مقصودة .
عوداً إلى بدء ؛ فقد انتظمنا جلوساً على الأرض بعد سلامنا ، والشيخ كما هو على حاله التي قد جئناه عليها من جلوسه على كرسيه ، فيما كانت تقاسيم وجهه تميل إلى الهدوء والهيبة أكثر منها في ذلك إلى الانبساط أو التراخي أو الابتهاج . وأزعم بأني قد رأيتُ في وجه الشيخ حزناً عميقاً ، وفي عينيه دوام تفكير لا ينقطع ، وقد شعرتُ بأنّ الشيخ قد وقذه الزهد في الحياة وقذاً شديداً ، وبأنّه يترقب الموت ، وينتظر معه وبمجيئه الراحة من هذه الدنيا التي قد ذاق فيها حلاوة العلم ، ومرارة السجون ، وآلام النفي والاغتراب !!
أظن بأنّ الشيخ بعد سلامنا وجلوسنا قد ألقى علينا كلمة موجزة ومختصرة .
وبعدها بدأت الأسئلة تترى من كل جهة ولسان : هذا يسأل عن حديث ، وذاك يسأل عن منهج ، وثالث عن كتاب أو مخطوط ، فيما أن المسجلات الصغيرة قريبة جداً من الشيخ : تُسجل وتلتقط كل معلومة يلفظها ، أو معنى يُلقيه ، أو فكرة يسردها ، والأعين آنئذ ترقب سكونه وتحركه ، وانقباضه وتبسمه ، وانغلاقه وتوسعه ... فإن تبسّم انتعش طلاّبه وخُفف عنهم ، وإن هو انقبض سكن الجميع هيبة وتحرزاً .. ولا ألومهم على ذلك والله ؛ فلقد كان الشيخ نسيجاً وحده – عليه من الله شآبيب الرحمة والمغفرة - .
بعد هذا الصيال المتدفق من العلم والمعرفة ، مالبثنا إلا وقد جيء بالغداء – أظننا بعد العصر حينها – وقد كان الغداء من الأرز واللحم المطبوخ على الطريقة الأردنية ؛ فتغدينا سوياً ، ولست أذكر على وجه الدقة : هل الشيخ تناول الغداء معنا أم لا ( الأقرب أنّه لم يأكل ، وإنما قُدم له صحن صغير وهو على كرسيه ) .
بعد تناول الغداء عدنا إلى حلبة العلم ؛ واستمرت الأسئلة تتوالد على الشيخ من كل جهة ، وهو يردُّ عليها بعلم وثقة واطمئنان مع سكينة عجيبة وهدوء نفسي .
مما لا أنساه أنّ الشيخ قد تعرّض أثناء حديثه لذكر ساحة المرجة بدمشق – أظن ذلك ؛ واعذروني على كثرة كلمة " أظن " فاللقاء قديم وأنا حينها غر صغير – ثم قال بعدها كلمة حزينة وشجية ؛ إذْ قال – بما معناه - : " وذاك حسب علمي بها ؛ ولا أدري الآن ما فعل الله بها " !!
كلمةٌ أخرى تفيض بالحزن قد انطلقت من فم الشيخ رحمه الله تعالى ؛ وهي قوله : " وأنا الآن انطويتُ على نفسي " !!
بعد هذه الكلمة ارتفعت عندي درجة الحدس بأنّ هذا الرجل يودع الدنيا ، ويزدرد الذكريات ، وينتظر الراحة من عصرٍ كان شره أكثر من خيره !!
نعود الآن إلى صاحبنا المُتعالم الذي حدثتكم عنه ، وهو من طينةٍ تُبتلى بمثلها بعض مجالس العلماء ؛ فتنغص حلاوة الجلسة ، وتنتزع سكينتها ، وتقتل لذتها !!
كانت أسئلة هذا الشاب المتخرج حديثاً من الجامعة جريئة وفجة ، ويتخللها ما يُشبه الاعتراض ، ويقوم بعضها على المدارسة ( وكأنه ندٌ للشيخ : يُدراسه ويعترض حديثه ، وربما خالفه ) !!
الحق بأنّ بعضنا قد شعر بالخجل الشديد من طريقة ابن بلدنا هذه ؛ ولكنها العقول ولله في خلقه شئون !
ومع هذا الكم غير المحدود من ثقة البلادة والبلاهة - إلاّ أنّ الشيخ قد لاطفه بعد ذلك ؛ فسأله هامساً ومُبتسماً : " لم لا تلبس مثل إخوانك " ! ( كان صاحبنا الفلتة يلبس اللباس الإفرنجي ، ونحن جميعنا نلبس اللباس السعودي ) !!
أجاب الطالب العلاّمة الذي يُدارس الشيخ الألباني قائلاً : " نواجه بعض المضايقات في الأردن بسبب لباسنا الخليجي " !! ( طبعاً هو استحلى التميز باللباس كما أراد الحُلي في المُدارسة مع الشيخ ... فما أصبر الأرض على حمل الثقلاء ) !!
لا غيبةَ لمجهول ؛ ولكني أجزم بأنّ هذا الشاب يعض أصابع الندم الآن على ما قد بدر منه من صفاقة وجه وتطفل معرفة ؛ وذلك بعدما تقدّم به العمر ، واستدارت به الحياة ، وعرف أنّ التصدر يكون قبراً في مجالس العلماء الكبار !!
حضرت صلاة المغرب بعد جلسة ماتعة مع بخاري هذا العصر ؛ وظننتُ الشيخ سيؤمنا لها ، ولكن تقدّم أحد طلبته فصلّى بنا المغرب ، وأظن ذلك يرجع إلى صحّة الشيخ ومقدرته الصوتية ( ربما ) !
هذه هي مقتطفات سريعة من ذلكم اللقاء الخالد الذي تجاوز بضع ساعات مع مجدد علم الحديث في هذا العصر ؛ ومن أراد الاستزادة عنه فليسألني ؛ ثم ليتحمل مني كلمة " أظن " ، " وأظن " ، " وأظن " !
أما سؤال فتح القسطنطينية ، وجواب الشيخ عنه ، ووهم تلميذه به ، فإنه سيجيء في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى .
يتبع فيما بعد إن شاء الله ..
آيــدن .