التبيان في حقيقة كلام الرحمن
قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].
ملخص القول: إن كلام الله تعالى وصف لم يزل قائما به تعالى، وهو حق وحقيقة لا مجاز.
وإنما جُعل تكليمُ الله تعالى لنبيه موسى عليه السلام عند مجيئه واقعا غير منقوص إخبارا عنه، وليس يعوزه إنباء به، ذلك لأن مواعدة مضروبة آنفا كان من ضرورتها تضمنها ملاقاة تتضمن كلاما ، وهو في جانب ملاقاة نبي الله موسى عليه السلام مع ربه الرحمن سبحانه أولى تضمنا لما سبق، ولما كانت ملاقاة الله تعالى بمعناها المتبادر غير ممكنة، ولذلك جاء النظم حاميا لغير مسلك يروح بمعناه إلى حيث لم يرتبه النص ولا يفيده، أويذهب به إلى معنى لم يسعفه قول به ولاترديده أو تفنيده، وذلك بقوله تعالى(لميقاتنا)، ولم يقل (للقائنا)، ومنه فكان مجيئه عليه السلام لميقات ربه سبحانه أمرا محتوما، وذلك لصدق الإيفاء والإِخْلاص والاسْتِقامَة، ولموجب الأَمَانَة والبر والطاعة.
ومن بين تعبيرات آيتنا محل البيان وألطافها وبيانها ذلكم أخذها بالقلوب أخذا، وذلك حين تظاهر مجيء لفظ الربوبية الحانية ثلاث مرات في حيز قصير كههنا! لتملأك من لطفها، كما أنها لتغمرك من جوها الرقيق الهني الرضي الدفيء. وهو تأكيد ضاف لمعاني الربوبية الخالدة، ومدى تأثيرها في النفوس لتعلو إلى هناك! وما أدراك ما هناك! حيث إلى سمو المراتب، ورفعة الدرجات، في معارج القبول، وسلم الوصول، إلى سبيل الله تعالى العلي الأعلى سبحانه!
وتكليمه تعالى لنبيه إنما هو وحيه تعالى، ومنه أمره بكل حلال طيب، ومنه نهيه عن كل حرام خبيث ، لكنه ههنا ذلكم الوحي وذلكم التكليم من غير واسطة ملك مقرب أيضا، دلالة على القدرة النافذة لله تعالى من جانب، وبرهانا آخر على عظم شأن مهمة الرسل، كما أنها برهان ضاف على أهمية الأمر والنهي الربانيين، ثم إنها دلالة أخرى على تنويه بقيمة نبي الله تعالى موسى عليه السلام، إذ لما كان الله تعالى من قضائه أن يكلم رسولا من رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام ، فإنما هو كلام يسمعه، وإنما هي مناجاة يفقهها، ولما يحصل له التكليم من الله تعالى تشريفا له!
وكلامه تعالى له عليه السلام إنما كان وجها من أوجهه الثلاثة التي كلم الله سبحانه بها أنبياءه، كما قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾[ الشورى:51].
وكلامه تعالى بكيفية يعلمها، وعلى هيئة لنبيه يفهمها، وحسبنا الوقوف عند ذلك بلا زيادة شرح، قد تخرجنا عما لا فائدة فيه، وقد تدخلنا في دائرة محظور قد أغنينا عنه بعدم التكلف، وقد نهينا عنه لداعي الانقياد والتسليم، وهو ما أغنانا عنه النص ابتداءً.
وكلام الله تعالى صفة مغايرة لكلامنا، كما وأنه مخالف لأصواتنا، وهذا هو الموافق لقول الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]، وهو الموافق لقول أهل السنة والجماعة
وذلك لأن الله تعالى" لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به، وهو متكلم بصوت يسمع، وإن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا، وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة"[1].[مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية: ج1/455].
وكما أنه تعالى قد أفرده بملاقاته، فإن ظاهر الآية يدل على أنه سبحانه قد خصه عليه السلام بتشريفه بكلامه معه، وذلك دون تكليمه تعالى لأولئك السبعين الذين كانوا معه عليه السلام، وذلك لأن قوله تعالى ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر ، كما أنه يدل على نفيه عمن سواه، وذلك لأن نظم الآية هو الذي يتبادر منه ذلكم الاستنتاج الأولي، وذلك بدلالة ضمير الغيبة في ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ﴾، لكنه ولأن الكلام ليس معهم وليس لهم. فليس يمنع من ذلكم سماعهم.
ولست أقول مثل قول من قال " فتعين أن يكون إسناد التكليم إلى الله مجازا مستعملا في الدلالة على مراد الله تعالى بألفاظ من لغة المخاطب به، بكيفية يوقن المخاطب به أن ذلك الكلام من أثر قدرة الله على وفق الإرادة ووفق العلم، وهو تعلق تنجيزي بطريق غير معتاد، فيجوز أن يخلق الله الكلام في شيء حادث سمعه موسى، كما رُوِيَ أن الله خلق الكلام في الشجرة التي كان موسى حذوها، وذلك أول كلام كلمه الله موسى في أرض مدين في جبل " حوريب "، ويجوز أن يخلق الله الكلام من خلال السحاب، وذلك الكلام الواقع في طور سينا، وهو المراد هنا . وهو المذكور في الإصحاح 19 من سفر الخروج"[2]!
وأيضا؛ لست أقول قول من قال "وتكليمه: أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطاً في اللوح"[3].
ولئن قيل : ولم؟!
قلت : لأن شيخ الإسلام رحمه الله سئل في رجل قال : إن الله لم يكلم موسى تكليما وإنما خلق الكلام والصوت في الشجرة وموسى عليه السلام سمع من الشجرة لا من الله وأن الله عز وجل لم يكلم جبريل بالقرآن وإنما أخذه من اللوح المحفوظ . فهل هو على الصواب أم لا ؟
فأجاب : "الحمد لله ليس هذا على الصواب ؛ بل هذا ضال مفتر كاذب باتفاق سلف الأمة وأئمتها ؛ بل هو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإذا قال : لا أكذب بلفظ القرآن - وهو قوله : { وكلم الله موسى تكليما } - بل أقر بأن هذا اللفظ حق لكن أنفي معناه وحقيقته ؛ فإن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة"[4].[ مجموع فتاوى ابن تيمية (3/128)].
وقلت أيضا: لأنه استنطاق للنص بما لم يبدُ من ظاهره، ولأنه تكلف لم نؤمر به، ولأنه ليس يضيرنا جهله، كما لم ينفعنا علمه، خصوصا عند انعدام دليل فصل في المسألة. بل إن عدم وجود مثل ذلكم دليل فصل فيها، ليفي بحد ذاته أننا لا نرنوا من ورائه مالم يرنُ نظم قرآني ببيانه، أو نص نبوي صحيح بإعلانه. وعبارات التضعيف، لا مجال لها هنا، وفي مثل أمر هام كهذا من مسائل العقيدة في الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه.
وأسماء الله تعالى وصفاته على الحقيقة. ومنه فتأويلها مجازا ليس صوابا. وذلك لأنه سوف يؤول إلى الخروج بها عن الحقيقة التي هي معنى لصيق بها، هذه الحقيقة التي تعد حارسة من ضمان ألا يلج إلى أسماء الله الحسنى وصفاته العلا ما يذهب زخمها، ويقلل من هيبتها في النفوس، وذلك أيضا لأننا عند عدم ورود بيان تفصيلي لهذه المعاني من نص قرآني محكم أو حديث نبوي صحيح، فلسنا مكلفين من وراء ذلك بحثا، وفيما ورد غنية والحمد لله تعالى.
ولعل القائلين بالمجاز في مثل ذلكم قد أوقعوا أنفسهم في مفاسد عقلية نحت بهم إلى عدم تحديده بضابط صحيح، أو قانون مستقيم، وكما قد انزلقوا إلى مفاسد أدت بهم إلى تغيير للأوضاع اللغوية التي اصطلح عليها الشرع الحكيم واللغة العربية المجيدة، وتغييرٌ ذلكم شأنه ليعد تمهيدا لتحريف المعاني الشرعية من أساس، وذلك لأنه يؤول إلى تحريف لكلام الله تعالى، والتشكيك فيه بأنه كلام غير حقيقي، بل كلام مجازي.
وإن القول بالمجاز لهو اتهام للشارع بالعجز عن التعبير بالحقيقة. وإنه على قولٍ به لا يصار إليه إلا عند تعذر هذه الحقيقة، وأسماء الله تعالى وصفاته ليست من باب ما يمكن قوله إنه يتعذر معرفتها، ذلك لأنه لدينا تنزيل قد حسم الأمر بقوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11]. وإنه وعلى قولٍ به أيضا فحقيقته بلاغية أكثر منها لغوية. ذلك لأنه لم يكن معروفا عند الأولين، وخاصة هذا الركب الكريم الذين نزل فيهم السبع المثاني والقرآن العظيم.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى "والمشهور أن الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ وبكل حال فهذا التقسيم هو اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أحد من الأئمة المشهورين في العلم كمالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي بل ولا تكلم به أئمة اللغة والنحو كالخليل وسيبويه وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم "[5].
وقال رحمه الله تعالى أيضا " وأول من عرف أنه تكلم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه . ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة. وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية، ولهذا قال من قال من الأصوليين كأبي الحسين البصري وأمثاله إنما تعرف الحقيقة من المجاز بطرق منها: نص أهل اللغة على ذلك بأن يقولوا: هذا حقيقة وهذا مجاز, فقد تكلم بلا علم, فإنه ظن أن أهل اللغة قالوا: هذا ولم يقل ذلك أحد من أهل اللغة ولا من سلف الأمة وعلمائها. وإنما هذا اصطلاح حادث والغالب أنه كان من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين فإنه لم يوجد هذا في كلام أحد من أهل الفقه والأصول والتفسير والحديث ونحوهم من السلف. وهذا الشافعي هو أول من جرد الكلام في (أصول الفقه) لم يقسم هذا التقسيم ولا تكلم بلفظ الحقيقة والمجاز]"[6].
بيد أن عذرا ملتمسا لأصحاب ذلكم التأويل، أن أخذتهم هالة الألوهية أن يؤولوا كلاما للرب يكون من نتيجته تشبيه بكلامنا، بيد أننا لما نتصرف جمعا بين الأدلة لستروح الفؤاد، ولطمأن اللباب. بمعنى أنه تعالى قد تكلم ، وأنه سبحانه قد تجلى، ولكنه على وفق قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى:11].
[1][مجموعة الرسائل والمسائل، ابن تيمية: ج1/455].
[2][التحرير والتنوير: الطاهر بن عاشور، المكتبة الشاملة:(1/1631)].
[3][تفسير الكشاف ، الزمخشري: ج2/146].
[4][ مجموع الفتاوى، ابن تيمية: (3/128)].
[5][مجموع الفتاوى، ابن تيمية: ج4/60].
[6][المرجع السابق:ص60].