1

اقسمْتُ على أن لا أفصح بأي معلومات تخص عملي أو طبيعته أو حتى مرجعيته في أول مقابلة وظيفة مع الرئيس الذي أعمل تحت إدارته."

للأسف ليس لك خيار الرفض الأن، أنت في مهمة وطنية ولا يمكنك التولي يوم الزحف".

ثم فرَدَ الرئيس كفه اليمنى على الطاولة بهدوء ووجه ناظريه بحدة نحو عيناي المترددة، أراد بذلك ردة فعل واثقة على قبولي بذلك. ذراعي اليمنى على طاولته بينما كفي متدلدلة  ومقعدي على منتصف الكرسي، ظهري في إنحناءه بسيطة. فهربت بناظريّ لتشتيت الموقف لأني ارتبكت، استدركتُ وأخذتني العزة بالإثم ووجهت له نفس النظرة لجمع شتات ثقتي لأبدو أني كفؤ لهذا.

تهديد مُلطف بإبتسامه بأن تسريب هذا يدخلني في قضية الخيانة العظمى ثم ضحك، وأردف: ستشنق فقط.

لا أعلم لماذا حينها لم أشعر بأي خوف أثناء حديثه، أعتقد بسبب أن الشنق ليس الطريقة اللي ينفذ بها حكم القتل هنا، طرأ فقط في رأسي السؤال الذي لا أعرف إجابته عن ما هي الطريقة الأقل ألماً لتنفيذ حكم القتل؟ ضربة بالسيف على بشاعتها؟ وتنقطع الموصلات العصبية. رمياً بالرصاص؟ أو شنقاً و تسمع فقرات رقبتك تتكسر؟ وقد ينفصل جسدك عن رأسك لطول حبل المشنقة لأن السقوط كان لمسافة أطول! أو سُم تُحقن به في وريدك وتمضى روحك بهدوء.

 مهّد لي بعدها عن الوضع العصيب الذي تمر به البلد منذ بدأت الحرب في منطقتنا من سنتين وأشهر مطلع 2018. أقليمنا يعيش على صفيح يغلي بعد إنهيار إتفاقية السلام التي تحفظ تبادل معلومات الشبكات بدون تجسس أو هجمات وعملك معنا دفاع عن الشعب والضعفاء بل يصل  لضمان دخل المتسولين من تسولهم!


قبل المقابلة بيومين وصلت للعاصمة، كأني ولدت للتو حيث لا أعرف أحد ومتوجس من كل من يحاول الإقتراب مني خشية أن يكون عميل للأعداء، يقول الرئيس بأن الجواسيس سيأكلون معك لا محالة على طاولة واحدة.

واجبك التعامل معهم لا الهروب منهم، الأمر كله مجرد وقت لأن حتى مكاتبنا شبه مخترقة! مرت الأيام وأنا أمارس الهروب للأمام وللخلف ولكل الجهات، ولا أعرف بمن سأصطدم.

2


ولأن هذه الوحدة قاتلة ومتطرفة تطرفت في احتياجي، لرغبة لدس رأسي في حضن فتاة ، كما كنت أفعل في قريتنا الصغيرة عندما يخرج زوجها للعمل.

حملت تطبيق "ماتشر" للتعارف للقاء فتاة تسقي روحي من كأس أنوثتها لعلي أثمل وانسى فقر الأيام الفائتة.

دخلت المقهى بشئ من الإرتباك غير الظاهر على جوارحي وأنا ألتفت لليسار حيث قالت لي أنها تجلس، سحبت الكرسي المقابل لها بدون أن تمسح كفي كفيها وكأنه لقاء مع زميل أراه كل ليلة، نحاول بذلك أن نقلل من فضول الجلساء في الطاولات المجاورة.

"تبدين أجمل من الصور"

" وأنت ملامحك أكبر من رقم السنوات التي قلت بأنك عشتها"

" أخاف أن السنوات ركضت بي مسرعة ونسيت أن أقيدها بدقة" 

تناولت قائمة المشروبات للإختيار منها وفتح حديث حولها لأن الصمت ساد برهة.



3

الناس هنا متشابهون لحد كبير، تصرفاتهم متشابهه وردات فعلهم وأفكارهم، يحبون ذات الأشياء ويملون منها بنفس السرعة. يهجرون أحياءهم للأطراف كل مرة ويتركون الوسط للفقراء والبسطاء والوحيدين. هذا الشتاء أزياءهم باللون الزيتي ويأكلون الشريمب في كل المطاعم ويشربون ذات القهوة المرسوم عليها.

مشروعك التجاري يهبون إليه أول الإفتتاح لتصوير ديكوراته الغريبة ثم يهجرونه للشمال. عليك أن تصرف في التسويق الألوف حتى تزرع في لاوعيهم بأنهم يحتاجون لمنتجاتك كحاجتهم للهواء والماء.

زميلك الذي قابلته قبل أسبوع بدل أفكاره، ليس لأنه حل مكانها ما هو أكثر إقناعاً بل بدلها لأنها قديمة فقط!


4

طرقت باب منزل جدي عندما كنت طفلا أبحث عن والدي فاستقبلتني جدتي على الباب، فتحت لي  الباب وقالت : "من أنت ؟ " استغربت السؤال وحاولت المرور تحت يدها التي كانت تسندها على عارض الباب لكنها أنزلتها وامسكت بي.

" ألم يعلمك والديك أن لا تدخل إلا بعد الإستئذان؟ " ودفعتني للخارج وأغلقت الباب. عندما حكيت ذلك لوالدي قال لي عرف بنفسك كل مرة تقابلها. لقد تمكن منها الزهايمر يا ولدي.

قلت "ماذا يعني زهايمر ؟"

لقد بُليت عائلتها بلعنة إمرأة تُشفي المرضى ، قالت لأم جدتك عليكِ دفع ثمن الدعوات التي أرسلتها للسماء لأجلكِ، فردت أم جدتك بأنها إن كانت طلبت منها ذلك فقد نسيت! فردت العجوز: سأدعوا أن تنسين حتى أبناءك.

فبدأ بعد حين عليها الأعراض حتى نسيت نفسها، الأن جدتك ونحن كذلك ما لم تنفك عنها هذه اللعنة.


5

تقدّمتُ بإجازة لرئيسي وكانت طويلة المدة ، استدعاني لمكتبه لترتيب اسناد مهامي لزملائي.

- سألني إلى أين الوجهة ؟

- في الحقيقة لم أحدد معالمها مع خطيبتي.

- ‏مفاجأة ، إذن ستكون شهر عسل ؟

- ‏يسمونها كذلك ولم أجربها حتى أوصف لكم مذاقها !

- ‏استمتع بإجازتك وسأتولى أمور إسناد مهامك.

انتشر خبر زواجي كالنار في الهشيم، وبدأت تُطلق التوصيات والضحكات من خلف المكاتب وأرُد بإبتسامة باردة لتمضية هذه السخافات المتوقعة.

 طلب الإجازة في ذلك الوقت من المحرمات ما لم تكن لزواج أو موت، المهام على روتينيتها لكن لا تقبل التأجيل وتستلزم الإنصهار فيها حتى ساعات النوم .


6

أيقضني ثلاثة رجال ملثمين من نومي. كنت منهكاً قبلها من السير في الأسواق لتجهيز مستلزمات الزواج والسفر. يبدو بأنه كابوس الإجهاد وكل محاولاتي حينها أن أنهي هذا الحلم والعودة لنومي العميق، بيد أن المحاولات فشلت والحلم اصبح حقيقة ويداي اصبحتا خلف ظهري مقيدة بالحديد والصمت كان ردة الفعل الوحيدة، وشريط الذكريات بدأ يمر  على أحداث الماضي للبحث عن أي ذنب اقترفته، شريط الذكريات كان يمر للخلف ثانية بثانية. للمرة الأولى أدرك ما يقولونه عن لحظات سكرة الموت، أحداث عمرك كلها تمر أمام عينيك بكل سرعة وبطئ بنفس اللحظة!

استقبلني مديري ورجل آخر عريض المنكبين طويل وكث الشارب، يبدو بأنه ذا منصب رفيع، و بابتسامة شريرة بدء التحقيق معي في جنحتي كما يقولون. بصق في وجهي ونعتني بالخائن. دهشتي لم تسعني للقلق أو الخوف والسؤال عن ما اقترفت لكن كانت الإجابة واضحة عندما بصق.

بيده اليسرى جهاز تحكم، استخدمه لأمر الشاشة التي أمامنا بالعمل.

فتيات غريبات يجالسنني في المقهى وكل مرة فتاة  لأول مرة أراها. كل الذي أذكره بأن من كنت التقي بها هي خطيبتي التي أحب.

تذكرت حينها بأن طلب خطيبتي بإعادة قصصي وتذمراتي من البداية في كل لقاء  ليس لحبها أن تسمع حديثي  كما كانت تقول ، كانت رغبة مختلقة لأنهن فتيات كثر وكل واحدة احكي لها القصص من جديد. صدّقتُ مستشار العلاقة الزوجية الذي نصح عبر التلفاز بأن نتغير ونقدم تضحيات كيفما أراد الشريك  .

ايقنت حينها بأنهن فتيات يعملون لصالح الأعداء ويتناوبون لأخذ مشاريع وظيفتي والعمل ضدها.

التحقيق استمر لساعات وإجاباتي كانت نعم أو تحريك رأسي للأسفل،  بينما خلف مسرح التحقيق داخل رأسي تفكير حول طريقة تنفيذ القتل بأقل ألم ممكن !