لا أسوأ من أن تفقد صديقك مرتين : إمّا بفراق حياةٍ أو فراق موت ؛ فكيف لو اجتمعا معا !!

يحصل في علائقَ وثيقة ، وصداقاتٍ متينة ، أن تنتهي إلى خصامٍ بين خليلين - ولكن الذي يندر هو أن يعقبَ الخصومةَ فاجئُ الموت مباشرةً لها أو غير بعيدٍ عنها ؛ ليجتمع من ثَمّ على المُتأخرِ منهما : ضَجَرٌ على ضجر ، وحسرةٌ من حسرة ، وضيقٌ فوق ضيق .

كذلك ؛ فإنّ الغرابة تزدادُ - أكثر وأكثر - حينما يكون صديق الأمس هو نفسه قاتل هذا اليوم !

الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان ، كان بينه وبين مصعب بن الزبير صداقة وأخوةٌ ومحبة ؛ غيرَ أنّ هذا كله لم يدم ، إذْ إنّ عبدالملك قد قام بمحاربة صديقه القديم ؛ ثم أجْهَزَ عليه - أيّانَ كان هذا الصديقُ والياً على العراق لأخيه عبدالله - !

ولمّا أن جاءه – أي عبدالملك - خبر مقتل غريمه وحبيبه ( مصعب بن الزبير ) ، تأثّر لذلك تأثراً شديداً وقال : " لقد كان بيني وبين مصعب صُحبة قديمة ، وكان من أحب الناس إليّ ؛ ولكنّ هذا المُلك عقيم " !!

ثمّ أردفَ قائلاً : متى تلدُ النساءُ مثل مصعب !!

في العهد العباسي ، تُعتبرُ نكبة البرامكة من أشهر القصص التي اختلط فيها الإنسانيُّ بالسياسي : فبعد محبة وأُلفةٍ ينقلبُ الحالُ لقَتلٍ واستئصال شأفة ؛ وبين ضحوة وعشوة ، كان هارون الرشيد قد أبادَ – بالفعل - وأزاحَ كلّ من كانوا في الأمس لا يستأذنون بالدخول على خليفة المسلمين !

يَرِدُ على الخاطر فوراً - من هذا المضمار - ما قد حدث بين جمال عبدالناصر وتوأم روحه المُشير " عبدالحكيم عامر " ؛ إذْ إنه صفّاهُ بعد أن كان صَفِيَّهُ ، وأراحَ منه بعد أنْ كان يرتاحُ إليه !

ومن العجائب الشديدة بأنّ جمالاً قد أسمى ابنه عبدالحكيم ، وأنّ عبدالحكيم قد أسمى ابنه جمال … ولكنّهُ المُلك العقيم ! .

الشيخ المُحدث الفقيه " أحمد محمد شاكر " وقبل موته بثلاث سنين : نزغَ الشيطانُ بينه وبين رفيق دربه وسِلكه ، وأخي عُمرِه و عِلمه ، العالم السلفي الشهير " محمد حامد الفقي " وذلك بعد أخوةٍ وصداقةٍ امتدت لأربعين سنة !

أحدثت هذه الخصومة - التي ساح ذكرها على صفحات الجرائد - دوياً هائلاً بين طلبة العلم في حينه ؛ وأذىً شديداً في نفوس الصادقين منهم .

ولكن … ولأنها ( الخصومة ) بين عالمين فاضلين ، وحَبرين جليلين ؛ فإنّ تحريش الشيطان قد عادَ تخريشاً على وجهه .

ولكم ذرفت عيني الدمع سخيناً ، وأنا أقرأ أخلاق الشيخين في سطورهما ، ومعذرتهما لبعضهما ، وازدادت همْلاً ( دموعي ) وأنأ أقرأ تلكم العبارات الحزينة المؤثرة التي كتبها العالم الجليل " حامد الفقي " - فيما هو يُطمئن القرّاء من خلالها ، بأنّ آصِرَة العلم لا تقطعها مُديّة الشيطان ، وبأنّ أخوة أربعين سنة – لله وفي الله - لن يبترها خُلْفٌ طارئ !

الأديب المصري " مصطفى صادق الرافعي " له طائلة يدٍ في وزارة الدفاع عن الإسلام ، كما وقد كان له عَضُد صِدْقٍ من ذلك – أعني تلميذه " سعيد العريان " ، ومع هذا فقد مات " الرافعي " مُغاضباً لتلميذِه على أمرٍ قد بدا منه .

التلميذُ الوفيُّ لم ينْسَ آلاء أستاذه عليه ؛ فحبّرَ بعد موته كتاباً عنه ، أسماه : " حياة الرافعي " ؛ وفاءً في ذلك له ، ومِنّةً على غيره .

غير بعيدٍ من هذا ؛ فإنّ ثمة صداقات قد أنشأها الموت - بعد أن كانت الحياة تقفُ في وجه ذلك وترفضه ؛ إذْ إنّ الإحَنَ والخصومةَ قد تَرتفِعُ وتُستَلُّ مع هذا الموت الأليم ؛ ليتنزل بدلاً عنها الصفاء والمحبة ، أو – على القليل - الإنصاف والاحترام لذلك الخصم الراحل ، فيكونُ حالها آنئذ – كما يقول أهلُ الأشواق - : " حبٌ من طرف واحد" !

من هذه الصداقاتِ المُتأخرة ، واليدِ الواحدةِ في المصافحة : كانت تلك اليد الممدودة ، والصفاءُ الفائت ، الذي جاء من لدن الشاعر الأموي " جريرٍ " تجاه خصمه اللدود " الفرزدق " ، وذلك بعد موت هذا الخصم ، ومفارقته هذه الدنيا !

ليقوم " جرير " فيما بعدُ برثائه ، وذكر محاسنه وآلائه ، في قصيدة جميلة ، قالَ منها :

لعمري لقد أشجى تميمـاً وهدها = على نكبات الدهر موت الفرزدق

عشية راحوا للفراق بنعشه = إلى جدثٍ في هوة الأرض معمق

لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي = إلى كل نجم في السماء محلق

ثوى حامل الأثقال عن كل مغرم = ودامغ شيطان الغشوم السملق

عماد تميم كلها ولسانها = وناطقها البذّاخ في كل منطق

أيضاً ؛ ففي هذا الزمن : قد كانت البغضاءُ في الصدر ، والاستطالةُ باللسان ، هما ديدن حياة الأديبين الكبيرين الرافعي والعقّاد تجاه بعضهما البعض . هذا مع ما يسوقانه من استخفافٍ كبير ، واحتقارٍ ظالم – سواءً في النقد أو التعليق - لكل ما يؤلفه أحدهما أو يبتدعه الآخر من نثرٍ أو شعر .

مات الرافعي ؛ وتنفّسَ العُمرُ بالعقّاد ؛ ليقول بعد ثلاث سنين من وفاته : " إني كتبت عن الرافعي مرات ، أن له أسلوبًا جزلاً ، وأن له من بلاغة الإنشاء ما يسلكه في الطبقة الأولى من كتّاب العربية المنشئين " .

هو ذا ما قد رأيتم : خِصامٌ بعد الوئام ، ولَدَدٌ قبل اللَحد ، وفِراقٌ على الفِراق !

وبعد هذا ؛ فيقول الله تعالى : " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطانَ ينزغ بينهم " .

آيدن .