الإرفاق في لام الإلصاق

 

قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ﴾ [الأعراف: 143].

 

ويتصدر معنى الميقات آيتنا محل شرف الكلام حولها، وذلك لأن المِيقَاتَ هو الوقتُ المضروبُ للفِعل[1]، إن كان زمانيًّا، أو إنه الموضعُ الذي جُعِل للشيء يُفعل عنده، إن كان مكانيًّا. وهو على وزن مِفْعال، وأَصله مِوْقاتٌ، فقُلبت الواو ياء لكسرة الميم[2]، ودوران اللفظ على معنيي الزمان والمكان أكسبه قيمة إضافية، بما له من معان تركيبية، منضافة إلى قيمته اللغوية. ومنه أفهم أن الميقات الذي تحدد ربانيًّا كان ميقاتًا زمانيًّا في تمام الأربعين ليلة، كما وأنه كان ميقاتًا مكانيًّا عند جبل الطور. كما عند البغوي رحمه الله تعالى؛ حيث (قال أهل التفسير: إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء[3].

 

وها هو نبي الله موسى عليه السلام إذ جاء لموعد قد وقته له ربه، تلمسه من إضافة الميقات إليه تعالى اختصاصًا، دلك عليه لام الجر المتصلة به، هكذا في تعبير لطيف حان بليغ مؤثر معجز ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، ويكأنه ما جاء إلا اختصاصًا لملاقاته سبحانه، ولأجله وعنده، وكل ذلكم مما يشي به حرف الجر (اللام)!

 

وهذا هو الشأن في أنبياء الله تعالى ورسله عليهم السلام تعظيمًا لربهم الرحمن سبحانه، وهو به إذ لا يتأخر ولو طرفًا من بصر، إيفاء للمواعدة، وتوقيرًا وتعظيمًا وتمجيدًا لله تعالى رب البشر، إذ كان الميقات منه وله وعنده، فمجيئه صلى الله عليه وسلم أجل ميقات ربه تعالى، وذلك لأن الميقات متضمن معنى الملاقاة والمناجاة، أي أنه جاء أجل مناجاته سبحانه.

 

ومن إلفٍ ذلكم الاستعداد في التهيؤ لشرف الملاقاة، حتى قيل إنه تهيأ لذلكم أعظم تهيؤ، وإعدادًا من ذات نفسه، وثيابه تطهيرًا. حيث (قال أهل التفسير: إن موسى عليه السلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه لما أتى طور سيناء)[4].

 

وهو ذلكم الاستعداد الطبعي لحال عبد سوف يأنس بكلام مولاه، لإنزال كتاب التكليف، ولنيل شرف التشريف، وإذ إنك لتلمس لمسات حانية من وراء الجمل المتكاثرة في النص، أن إخبارًا كان يمكن وقوعه لمجيئه عليه السلام، دلك على عدم لزومه معرفته به، وهو إذ ليس تاركًا له، في تمام الأربعين ليلة تمامًا! كما قد تحدد ربانيًا ﴿ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾!.

 

وإنك إذ تلمس أن الله تعالى هو الذي كان تحديد الميقات راجعًا إليه، وموعدًا منه تعالى لا من نبيه موسى عليه السلام، من مقتضى سلطانه ومن لازم قيوميته تعالى، وهو من موجب أن موسى عليه السلام عبد، ووظيفة العبد هي إحسان التلقي عن الله تعالى أمره لإعماله، أو نهيه لاجتنابه. وهذه حيثية قمنة بالتفكر والتذكر أبدًا. وهو لا شك أمر طبيعي، لكن إيراده من باب تقرير المعاني، ولكي تتبقى خالدة في الأذهان، أن التلقي دائمًا لا يكون إلا منه تعالى.

 

ولذا كان من شأنه عليه السلام أن ينال ذكرًا من ربه تشريفًا به، وتنويهًا به، ولأنك وقفت على ذلك من قوله تعالى ﴿ مُوسَىٰ ﴾ في إشارة ذكر وتكريم لذلكم العبد الصالح.

 

بيد أنه ومن إلفٍ ذلكم الإعجاز البياني الذي حفلت به هذه الآية التي بين أيدينا. ودلك عليه ذلكم الإعجاز البالغ في اختيار حرف الجر اللام دون حرف الجر (إلى)، في قوله تعالى: ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾.

 

ولئن قيل: وكيف؟

قيل: إن اللام (حرف كثير المعاني والأقسام)[5]، و(التحقيق أن معنى اللام، في الأصل، هو الاختصاص. وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معان أخر. وإذا تؤملت سائر المعاني المذكورة وجدت راجعة إلى الاختصاص. وأنواع الاختصاص متعددة؛ ألا ترى أن من معانيها المشهورة التعليل، قال بعضهم: وهو راجع إلى معنى الاختصاص، لأنك إذا قلت: جئتك للإكرام، دلت اللام على أن مجيئك مختص بالإكرام. إذ كان الإكرام سببه، دون غيره. فتأمل ذلك. والله أعلم)[6].

 

وإنه (ولمَّا كان للام هذه الفخامة والقوة، انتُخِبَت في القرآن لتكون فاصلةً لسورة الفيل في كل آياتها؛ ليمنح صوتُها الدلالةَ قوةً تناسب مقام الموضوع)[7].

 

وقلت: ومن فخامتها وأُبَّهَتها، ورِفْعَتها كان سر انتخابها وانتقائها واصطفائها متصلة بقوله تعالى ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، ومن قوتها بأن أمر التصاقها أبدًا بمعمولها، فلست تراها أبدًا منفصلة عنه أو منقطعة منه. وذلك من اجتماعها من قاسم أنها حرف، سواء كانت فاصلة لسورة كسورة الفيل، أو اتصلت باسم كما شأنها في ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، أو اتصلت بفعل كما في(ليقضيَ)، أو اتصلت بحرف كما في قوله تعالى: ﴿ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا (لِي) ﴾ [فصلت:50].

 

كما أن حرف الجر (اللام) دال بوضعه على ما حفلت به الآية من تمام معاني التعليل والاختصاص الذي يناسب مجيئه تعليلا أنه لملاقاة ربنا الرحمن سبحانه، واختصاصا أن لم يجيء إلا لذلكم سبب وهدف وعلة وغاية.

 

وحرف (اللام) له (صوت جانبي ذو ذبذبة عذبة لطيفة)[8]، نتج عنه ما تميز به من وضوحه السمعي، وجمال موسيقاه، وبما يحدثه من نغمات ثرّة رقيقة، تضفي على النص هالة من التأثر الإيجابي، دفعا إلى التفاعل به ومعه.

 

وهو يوحي بالثَّبات والتَّماسك؛ بسبب تحفّز أعضاء النطق حال إحداثها، ومن سبب ذلك كثرة أجزاء مخارجه، فكان موجبًا من موجبات تميزه، وتعدد ميزاته ووفرة خصائصه وتفرده، بل إنه يمكن القول إن حرف (اللام) لتتناغم أجزاء الفم كلها في إخراجه، مما لم يشاركه في ذلكم غيره من حروف الهجاء، ومنه فقد كانت له تلك الميزات، وعليه فكان اجتباؤه في ذلكم موضع من الآيات البينات، و﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾ [الفرقان: 1]. على ذلكم وضع معجز بليغ يأسر القلوب إليه أسرًا.

 

ودلك على اشتغال أجزاء الفم في إخراج حرف اللام أنه يخرج (من أدنى حافة اللسان إلى منتهى طرفه بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى، فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية)[9]، و(ينحرف الّلسان إلى أحد جانبي الفم، ويتّصل طرفه بأصول الثنايا العليا؛ وبذلك يُحال بين الهواء ومروره من وسط الفم؛ فيتسرب من جانبيه)[10].

 

وإن هكذا كثرة مخارجه أخرجته في تصور ضاف بديع، وفي معانٍ وَافِرة غَزِيرة بعضها إثر بعض (بمزيج من الليونة والمرونة والتماسك والالتصاق)[11]، وفي التّماسك والالتصاق قوة، تشي بعلو شأو المواعيد، وعظم مكانة المواقيت. وفي الليونة والمرونة اكتساء للنص بكساء اللطف والطراوة والانسياب والسهولة واليسر، وإنها لتحاكي تصويرًا لطيفًا أضفى على النص هالة أخرى من الخشعان والخضعان، لرب كريم، أنزل القرآن العظيم، على هكذا نحو كريم أيضا، ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 64].

 

وإن صوت هذا الحرف أيضا ليوحي بنفس المزيج من الليونة والمرونة والتماسك والالتصاق، وكأنما قد تشكل أمامك، وهو إذ يؤدي معان، وإذ إنك لتلحظ أداءه بهذا المعنى حين تتلو ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ ﴾ [البقرة: 259]، دلالة على التماسك والالتصاق، لأن اللبث في الشيء هو التصاقه به، ألا ترى أنك إذا لبثت في مكان، فإنما كنت ملتصقا به إلى حين خلوك عنه؟ وهو ما يتوافق مع واقعة التصاق اللسان بأول سقف الحنك قريبًا من اللثة العليا. ومن مناسبته لقوله تعالى: ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، دلالته على لبث وإلصاق، يناسب جوا ظليلا للآية من ملاقاة عبد مع ربه الرحمن سبحانه، ولبث قد دل عليه السياق، كما دل على مكث، تظاهر عليه الخطاب، وهو إذ به شوقه، وهو إذ يملؤه وجده وولهه، مما لا يناسبه مرور عابر، فتأمل. وكل ذلكم كان من سببه حرف (اللام).

 

ومجيء اللام والتصاقها بالميقات، قد ضاعف الإحساس بالمعنى قوة له، ودلالة عليه، وهو حرف قوي له رصيد كبير من دلالته على معانيه العديدة، أنبأك عنها بلوغها إحدى وثلاثين لاما عند من قال: (فاللامات إحدى وثلاثون لامًا)[12]، وفي قول: إنها بلغت أربعين معنى، فإنه (وقد أفرد لها بعضهم تصنيفًا، وذكر لها نحوًا من أربعين معنى)[13]، وهو بهذه المثابة لا يدانيه سواه من حروف العربية المجيدة، وليس ينِدُّ ذلك عن أريب، وإنه ليس بخاف على فطن لبيب.

 

ولما كان حرف اللام بهذه المثابة، فقد تولد عن ذلك أحوال له لغوية، ولما لم تتولد لغيره، خاصة وأن معظم قوافي أشعار العرب قديمًا كانت تنحصر حروفها في ستة منها مجموعة في كلمتي (بلد مرن)، ومنها اللام كما هو بين ملحوظ.

 

وأصوات الحروف مادة للإبداع والتشكل والتفنن، لينشأ منها ذلكم الجرس المؤثر، فيتولد منها ذلكم الإيقاع الفَعَّال أيضا. وليس ينبو عن ذلكم حرف اللام، خاصة وأنه ليتميز بما لم يتميز به غيره من صفات سبق بيانها.

 

وانسجامه في موضعه بلاغة، وتآلفه في مكان وضعه مع ما ألصق به بيان وإبداع، لأن (البلاغة شاملة للألفاظ والمعاني، وهي أخص من الفصاحة)[14]، ودلك على صحة قولي أني أقول لك: احذف حرف اللام من كلمة ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، واقرأ الآية خالية عنه، وانظر خللا محققا، واستبدله بغيره ليبدو لك معنى آخر مباين لمعناه أولا! وذلك لأنه تعالى قال ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ... ﴾ [الأعراف: 52].

 

واللام (حرف مجهور متوسط الشدة. شكله في السريانية يشبه اللجام)[15]، يشي بالانطباع بالشيء بعد تكلفة. ولذا فإنك لتتلمس معناه من سياقه، وإنك لتقف على حقيقته من مقتضى وروده لصيقا بـ﴿ لِمِيقَاتِنَا ﴾، وكأنه قد انطبع لديك شعور بأنك تعيش اللحظة، أو كأنك تروح أمامها وتغدو، إذ وكأني بك كنت لها مصاحبا!

 

وهو صوت: مذلق، مستفل، ومنفتح، ومنحرف، يلحقه التفخيم والترقيق، والإظهار الشفوي، والإدغام بغير غنّة (الإدغام الكامل/ التام). وكلها معان تشي بخروجه سهلا يسيرا، ومنه فكان المجيء للميقات أمرا سهلا يسيرا، دلالة على استقبال أوامر الله تعالى على معناها من التيسير، وذلك أن أحكام الملة بنيت على السهولة ورفع الحرج.

 

وحرف اللام ذو دلالة على النسبة والتملك، وذلك ناشئ من كونه متمتعا بخاصية الالتصاق، وذلك كما في قولنا: (هذا الكتاب لي، أو له، أو لها...)، ومنه كان تفرد القرآن العظيم في مجيئه عليه السلام ملصقا بالميقات دلالة على أن الله تعالى ﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [التغابن: 1]. وأن كل شيء تحت تصرفه تعالى، ولأن كل شيء خاضع لسلطانه، من معنى أنه مالكه، ومن أصالة أنه خالقه، وكان الميقات بعضا منه.

 

وقد دخل حرف اللام في مقطع (الـ) التعريف، وذلك تعبيرا عن ارتباط الأسماء التي تدخل عليها بمعرفة سابقة عنها. لتخرج تلك الأسماء بذلك من عالم النكرة إلى عالم المعرفة، وهو ملحظ لطيف دلك على فضاء واسع تفرد به، أداء لوظائف تعريفية أنبأك عنها كثرتها، وهي إذ لا تقبل حصرا!

 

وإن قيل: وأين ذلك في مسألة الميقات؟

قلت: قد أدى أداءها الضمير (نا الفاعلين) البارز المتصل تعريفا، فأغنى عن الإعادة والتكرار. بل إنه أحسن مجيئا! ودلك عليه أن الضمير (نا الفاعلين) قد أدى وظيفتين رئيستين في آن واحد، ذلك لأنه أدى وظيفة التعريف فتساوى مع (اللام)، وأدى وظيفة التعظيم للخالق البارئ العظيم، فافترق عنه، وذلكم من إحكام النظم وضبطه، وقد عز على غيره تعالى إحكام كهذا أو قريبا منه، كما استحال على غيره سبحانه ضبط كهذا أو قريبا منه أيضا!



[1] لسان العرب، ابن منظور: مادة وقت.

[2] المرجع السابق: مادة وقت.

[3] معالم التنزيل، البغوي: (3 /275).

[4] المرجع السابق: (3 /275).

[5] الجني الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم/المرادي: 95.

[6] الجني الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم/المرادي: 109.

[7] الصوت اللغوي ودلالته: مرثيات حسان (رضي الله عنه) للنبي (صلى الله عليه وسلم) نموذجا (1): مريم غمضان علي جلي- مقال-.

[8] التحليل الصوتي للنص (بعض قصار سور القرآن الكريم أنموذجا)، مهدي عناد أحمد قبها :90.

[9] شرح ألفية ابن معطي، ابن الخباز، ص: 534.

[10] الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس: 64.

[11] خصائص الحروف العربية ومعانيها، حسن عباس: 79.

[12] كتاب اللامات، أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي.

[13] الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن قاسم / المرادي: 95.

[14] المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر، ابن الأثير :ج1/ 94.

[15] أبجديات: اللغة وعلم الأصوات واللسانيات، أنور عبد الحميد الموسى: 144.







رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/143269/#ixzz6ekCyiON3