أُفَكِّر منذ فترة طويلة بجدوى الكلام و الكتابة ،  و لكِن الموضوع أصبح يُلِحُّ علي كثيراً في الأشهر ، و الأيام القليلة الماضية؛ فعندما تتحدثُ و لا تشعرُ أن أحداً يسمعك ، ينتابك الهمُّ ،  و يغمرك الحزن و الألم ، و تتساءل بمرارة : لماذا أكتب ؟ و لماذا أتكلم؟ .

 إنه لعمري وضعٌ مأساويٌّ خانق ؛ فأن تيأس من التغيير ، بل أن تيأس من إمكانية استماع الآخرين لك ، لهو وضعٌ لا يطاق ، لأنك تشعر ساعتئذٍ أن الأرض كلُّها لن تسعك ... 


و كنت قد لاحظت أنّ القرآن الكريم مليءٌ بالآيات التي تخبرنا أن القرآن لا يهدي إلا المتقين ، و لا ينتفع به إلا المؤمنون ، و أن الكفار لن يؤمنوا به .. و ما شابه ذلك من آيات ، كنت ألاحظ هذا و أتعجب: فلماذا يخاطب الله الكفار و يجادلهم إذن ؟ . و أكثر من ذلك،  القرآن يأمرنا أن نأمر و ننهى ، أن ندعو الى الله ، أن نجادل بالتي هي أحسن... يعني يأمرنا بالكلام ، بعدم السكوت.. فكيف ينسجم هذا مع إلحاح القرآن بأن الكافر لن يستفيد من الدعوة القرآنية شيئاً ؟


هذا الإحباط الذي اعتراني ، و هذا التساؤل حول هذه الآيات ،حملاني على التفكير بجدوى الكلام و جدوى الكتابة ، خاصة في مجتمعنا العربي ، الذي يتميز معظم أبنائه بالإنفعالية ، و الحدة ، و القطعية ، مجتمع لا يعرف إلا الأبيض أو الأسود ، يكره الألوان ، و يغتال الحوار ، و يرفض الحلول الوسطى ، مجتمع لا تزال تحكمه عقلية القرون و الوسطى،  و تتحكم في نظرته و سلوكياته عادات تنتمي الى عصر القبلية ،  بل إن بعض سلوكياتنا مما  تأنف منه نفوس فرسان الجاهلية.


إذن ما جدوى الكلام ؟

ما جدوى الكتابة ؟ 

هذا زمان الذراع و الصراخ و الكآبة  

فما جدوى الكلام،  و ما جدوى الكتابة ؟

كانت عندي سابقاً إجابة ، 

كنت أقول مقتبساً باولو فريري : أن القراءة و الكتابة ضروريتان حتى نكتمل إنسانياً ؛ فأن تقرأ و أن تكتب بوعي ، معناها أنك ستدرك مأساتك ، و مشكلاتك ، و ستعمل على التغيير نحو ما يلائمنا كبشر ، معناها أنك لن تأخذ ما يُقال لك و أنت مُسَلِّم عقلك ، سيبقى لك رايك. لكن ، ها أنذا ، أصاب بالإحباط عندما أدركت أن المشكلة ليست في معرفة الصواب و الخطأ فقط ، ليست في التمييز بين الحق و الباطل،  و الحقيقة و الضلال ، و الواقع من الخيال ؛ إنَّ المشكلة أعقدُ من ذلك بكثير ؛ إنها مشكلة العوائق البنيوية في عالمنا العربي ، المشكلة في الأنظمة السياسية التي تروج للخرافة و تقمع النظرة النقدية ، و في الأنظمة الإقتصادية التي تزرع البلاهة و النزعة الاستهلاكية في المجتمع، و الأدهى و الأمر ، انني أدركتُ أن المجتمع نفسُه ، يقف عقبةً في وجه تطوره،  يقف أمام مصلحته،  لم أكن أعي حجم التخلف و مدى تجذرِه سابقا ، و لكنني الآن أكاد ألمس التخلف بيدي،  و أراه أمام عيني ....  أراه عقبة كأداء عظيمة ، و مُخِيفة ، أمام كل من ينادي بالتغيير ، أو حتى من يريد التغيير على المستوى الشخصي .


من الخارج ، نحن ابناء هذا الزمان ، ملابسنا ، بيوتنا ، وسائل معيشتنا ... الخ كلها تقول أننا عصريون ، و لكن من الداخل ، و ما أدراك ما الداخل ، نحن أبناء القرون الوسطى في الكثير من أفكارنا و قيمنا و معتقداتنا و سلوكياتنا . لا يزال الفرد مُلْكاً للعشيرة ، ذكرا كان أو انثى ، لا يزال مواليا لعشيرته ، منفصلا عن المؤسسات العامة ، كارها لها ، كافرا بقوانينها ، لا يزال الفرد يُقَدِّم لغةَ الذراعِ و السلاح على لغة العقل و الحوار،  لا تزال الأنثى تنتقل كالمتاع من يد الى يد ، هي حرة ظاهريا ، و لكن الحقيقة أنها مقيدة بألف قيد و قيد ، و الويل و الثبور ، إن هي مالت عن الخطة المرسومة ، و آلاف "الصفقات" العشائرية التي أُبْرِمت و دماءُ الضحايا لم تجف ، تشهد أننا مجتمع ذكوري استبدادي تراتبي بامتياز .


لكن ... رغم ذلك ، أشعر أيضا بالحرية و النشوة ، إلى جانب الإحباط و اليأس ، فأنت أيها الإنسان ، إذ تواجه و تناضل في سبيل أحلامك ، تشعر بذاتك ، باستقلالك ، و لعمري إنه لشعور رائع ، مذاق الحرية رائع ، " و من ذاق عرف" ، و من عرف لن يرضى إبدا أن يعود الى القيود ...


اليوم أقول ، ردا على السؤال : ما جدوى الكلام ؟  أقول ، كما قلت سابقاً عن القراءة :

 إنني أتكلم و أكتب ، حتى أحافظ على إنسانيتي ، 

فليس إنسانا حقيقيا من يُسَلِّم عقله و عمره و حياته .... ليس إنسانا من يرضى بالقيود و الكذب و النفاق،  نحن بشر بقدر ما نقاوم ، بقدر ما نرفض الذل و الرضوخ و الاستسلام ...


إذن فالكلام و الكتابة ليسا مُجْدِيَين فقط،  بل هما واجبان ، إننا نتكلم لنبقى بشراً ... لنبقى أحرارا ... و هذا يستحق النضال . هذه ليست دعوة إلى الفردانية المُفْرِطة ، و ليست دعوة الى الإنحلال ، إنها فقط دعوة الى محاربة الظلم و الفساد و النفاق و المعايير المزدوجة،  إنها دعوة لتخليص الفرد من براثن الجماعة إذا طغت الجماعة على الفرد،  و إنها لتطغى عليه كثيرا ...


#خواطري_علاء_هلال