قصة تدور أحداثها إلى ماقبل قرن من الزمان وربما أكثر، سمعتها من أحد كبار السن قبل أكثر من ثلاثين عاماً حين كنت طفلاً ومازلت أتذكرها وكأنها حكيت لي بالأمس.
يقول ذلك الشيخ رحمه الله وقد تجاوز الثمانين وقتها :
(حين كنت شاباً ذهبت أنا وفلان إلى أحد الأسواق الشعبية في المنطقة ورأينا رجلاً كبيراً في السن ضخم الجثة ولفتت انتباهنا يده المقطوعة أو المعطوبة من مفصل الكف ومع هذا كان يمسك الكيس بيده السليمة ويقوم بتعبئة التمر الجاف بيده الأخرى بسرعة عجيبة ودقة متناهية، فلما رآنا ونحن ننظر إليه نادانا وسألنا من أين أنتم، ثم عزمنا على الغداء. ولما قام بواجب ضيافتنا، قال رأيتكم اليوم وأنتم تضحكون على يدي المبتورة فإياكم والشماتة يا أبنائي فقد كنت مثلكم حين كنت شاباً. فقلنا لا والله ماقصدنا ذلك إلا أننا تعجبنا من إتقانك لعملك بيد واحدة رغم كبر سنك فلا نستطيع أن نعمل كما تعمل. فقال يا أولادي دعوني أحكي لكم قصتي ولماذا يدي مبتورة.
حين كنت شاباً لم أكن أرى الناس في عيني شيئاً فقد كنت معتزاً بقوتي وضخامتي فكان الناس يخشونني ويخافون مني ولم أكن أرحم أحداً ولا أبالي بأحد، أبطش بمن يعترضني وأقهر من يواجهني، ولم أكن أخشى أو أهاب، بل أنني كنت أظن أنه لا يوجد في هذه الدنيا من يجرؤ على التعرض لي أو أن يقف في وجهي.
يقول : كنت أنا وزوجتي نعيش لوحدنا مع أغنامنا في البادية بعيداً عن الناس، وذات ليلة وقد أوشكت الشمس على المغيب رأينا رجلاً يجر خروفاً وراءه وقد أعياهما التعب. فلما وصل أقسم أن هذا الخروف هو عشاءنا فرفضت بحكم أنه ضيفي ويجب علينا إكرامه. وذهبت إلى غنمي لاختار وليمة لضيفي فإذا به قام مسرعاً على خروفه فذبحه باراً بقسمه، وقائلاً هو ميت لا محالة فدعنا نأكله بدل أن يموت من طول الطريق أو تأكله السباع.
يقول وبعد أن تعشينا قلت له ياضيفنا اختر أن تنام داخل الخيمة وأنا سآخذ زوجتي وننام في الخارج أو أن تنام هنا في الخارج. فصدمني برده حين قال : بل أنت من سينام هنا وأنا سأنام مع زوجتك في الداخل.
يقول فما تمالكت نفسي حين قالها حتى قمت إليه لأبطش به فما ظننت يوماً أن أحداً سيجرؤ أن يقول لي هذا، ولكن كما قال المثل (إذا كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً) فتعاركنا لساعات من الليل ثم وعيت وأنا مربوط إلى جذع شجرة مجاورة بحبل غليظ لا أستطيع الفكاك منه، فحاولت أن أجد وسيلة للخلاص من هذا المأزق فاقتربت من نار مجاورة محاولاً أن تأكل النار الحبل المربوط بيدي فأكلت النار يدي مع الحبل كما ترون، ثم دخلت فوجدته يغط في نوم عميق وزوجتي بجواره خائفة مذعورة لم تستطع الخروج من الخيمة خوفاً من بطشه بعد أن فعل بها ما فعل.
يقول فطعنته بسكين حادة حتى مات ثم ساعدتني زوجتي وجررناه بصعوبه خارج البيت وحفرنا له حفرة ودفناه، وأخذت زوجتي ورحلنا، وعافتها نفسي فطلقتها وأوصلتها إلى بيت أهلها. ومن ذلك اليوم وقد انكسرت نفسي وضعفت قوتي وصرت كما ترون. فإياكم أن يغركم شبابكم وقوتكم وتقهروا من هو أضعف منكم ولكم في يدي هذه عبرة).