"هل الليل أعمق وأروع من قلب الانسان؟ وهل مواكب النجوم أهيب وأجمل مما يتمشى فى قلب الانسان؟. فى نفسى شئ لا يعرف القناعة ولكنه ليس كالطمع, ولا يدرى ما السعاده غير انه لا يشابه التعاسة, فى أعماقى خفقان دائم وألم مستمر" كان هذا اخر ما قرأه الدكتور فؤاد من رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة فى كتاب "الشعلة الزرقاء" قبيل توجهه الى غرفة نومه. مد يده الى مكانها المعتاد على الطاولة حيث اقراص تريازولام المنومه (هالسيون( بلورية الشكل بيضاوية اللون وبكوب من الماء ابتلع قرصا.. اقراص المنوم التى تجعل شعورة بنفسه كقطرة زيتٍ سقطتْ على سطحِ الماء, تأخذ اشكالاً عديده لأن يأتى الوقت لتستقر على فراغ كالفراغ الذى يستشعره الجنين فور خروجهِ من رحم امه بعدما كان يمتلكُ فضاءَ واسعَا يمتد من الارضِ الى السماواتِ!

حقا كم انه من المؤسف ان تكون طبيبا تنصح مرضاك بضرورة الابتعاد عن المنومات والسعى وراء النوم الصحي حيث مفتاح الصحة الجسدية والنفسية وانت لا تجد من يوجه لك النصيحه, اللعنه على تلك الحبوب لقد اصابت فمى بجفاف أشد من جفاف صحراء أتاكاما!

ظلام حالك، هدوء تام يستمر لفترة، هذا الهدوء اغتصبتة صوت تَمَوُّجاتٌ ناشئةٌ من اهتزاز جسْمٍ مّا - جرس الباب - صوت سمج يدق، فتح فؤاد عينيه البنيتين, يشعر كأن هناك قرابة الخمسمائة شخص يزن الواحد منهم خمسمائة رطل يسكنون مساحه المترين داخله!. وبخطوات ثقيلة كخطوات اخيرة لشخص فى طريقة لتنفيذ حكما بالاعدام استطاع الدكتور فؤاد ان يقطع مسافة كالمسافة الواصله بين قطبى الارض, ثم فتح الباب.

دكتور فؤاد .. دكتور فؤاد .. يادكتور فـــــــؤاد

= عم حسين صباح الخير ياراجل ياعجوز

- صباح النور ياابنى , يبدوا اننى قد ازعجتك, اسف ياولدى

= لا عليك, ادلوا بدلوك ياعزيزى

- امازلت لا تريد استلام ذاك الخطاب "م.ع.ج.خ"؟! هذه هى المرة الثالثة والتى ترفض فيها استلامه, خذها نصيحة من رجل داس عليه قطار الحياة , خذه هذه المرة لن تخسر شيئا يابنى لعل فيه خيرا لك.

- حسنا ياعم حسين ساخذه هذه المره فقط من اجل عينيك, دير بالك على حالك فالشتاء قارص هذا العام!

انصرف عم حسين لمواصلة عملة, واغلق فؤاد الباب على صدرة وتوجه الى المطبخ لاعداد مشروب دافىء كى يزيل اثار العدوان الذى خلفته اقراص (هالسيون) المنومه, بعدما ألقى الجواب فى اقرب سلة قمامه فى طريقه الى المطبخ. شرع فى خلط الشاى مع اللبن ثم وضعه على النار واضاف فصوص القرنقل وشرائح الزنجبيل الطازج ثم بعيداً عن النار اضاف ملعقة صغيرة من العسل الابيض تماما كما كانت تفعل امه - رحمة الله عليها- وظل فؤاد يتمتم...    

أياشتاء العام كن بنا رحيمـــــــــــــــــــــا

كفى بنا ما فقدنا من أهالينــــــــــــــــــــا

طويل الليل جَزُوع الصبــــــــــــــــــــــــــــر

قوى الوخز حتى مطلع الفجــــــــــــــر

تهابك نجوم السماء التـــــــــــــــــــــــــــــــى

كفنتها فى سحابك الســــــــــــــــــــــوداء

وبدر الشهر العربى الـــــــــــــــــــــــــذى

تخافت نورة فى سماءك القحلاء

آياشتاء العام كف عنا هزيمــــــــــــك

وبَرْد عجوزك ورياحك الهوجــــــــاء


بعدما انتهى من اعداد مشروبه السحرى, توجه حيث طاولته المستديرة خلف النافذة يتابع يوم من ايام الشتاء. مُعطياته بدأت فى الظهور , سماء مكتظه بالغيوم , وتغير فى حركة الرياح . لقد كان فى انتظارة كانتظار طفل صغير لأمه, فأصواته تشده للحنين اليها, وتُذكره بأصوات قلوب اشتاق كثيرا اليها, ولكن كيف له أن يشتاق لقلبٍ يسكن فؤاده ؟. قطراته بدأت فى التساقط فتداعب شخصا اخر بداخله كما تُغازل غصون وأوراق الشجر, سمفونية ابدعها الخالق عزوجل, تهبط بألحانها فتغسل آهات الورق وتضيف دفئا آخر لأحضان السهر. قطرات المطر تتساقط فتكتب أنغاما وأناشيد على أوراق الشجر, وهو يكتب ايضا.

يتناغم مع هذا الهدوء صوت تَمَوُّجاتٌ ناشئةٌ من اهتزاز جسْمٍ مّا لكنها هذه المره تتناغم معا فى مقطوعة موسيقية كسمفونيه فى اوركسترا القدر.

- صباح الخير يافؤاد, سبق وطلبت ان تترك مفتاح شقتك اسفل الدواسه.

= صباح النور يا س ا ر ة, يوما ما سأفعل اكيد!

- وددت الاطمئنان عليك نلتقى فى المساء بعد عودتك من المستشفى, الى اللقاء!

= الى اللقاء!

يوما ما كنت تائها فى احدى رحلاتى وبعدما اختبأتْ نفسى بركنٍ ضيقٍ بعيدا فى آخر جسدى مرتعشةَ بدأ بصيص من النور فى الظهور وقابلتنى روحا من الجنة, انها روح سارة! ففى احلامى اتقن عزف الكثير من المقطوعات والألحان الموسيقية التى يُصفق لها جميع الحضور, ولكنها حينما تُعزف فى عالم اليقظه لم يفهمها أحد- سوى- سارة!

ارتدى الدكتور فؤاد ثوب المغادرة وهيأ نفسه للذهاب الى عمله بمستشفى الشفاء بأحد اقدم ضواحى القاهرة. وبعد يوم عمل شاق عاد الدكتور فؤاد الى مسكنة فى العاشرة مساءا محملا بالكثير من الأوجاع له و لمرضاه!

- ألو سارة اعتذر عن اللقاء الليله فأنا متعب جدا واحتاج الى النوم, وموعدنا مساء غد باذن الله, لعلك بحير ولعل يومك كان موفقا.

= انا بخير لا تقلق على يافؤاد, حسنا اراك غدا على خير, الى لقاءّ!

كلما سارت الشمس نحو المغيب، واسدلت عباءة الليل على السماء ، سلم الدكتور فؤاد نفسه رهينة للإستكانة وهيأ نفسه لخلوة تليق بحالة زهد تعبدية كراهب معتكف على إحدى قمم الهيمالايا.

وفى النهايه عندما قررت الغوص بين امواج احلامى حسبتُ انها البدايه التى طالما اجتهدت للبحث عنها, فمررت بوادٍ من الألحان , ألحان الحب , العدل , الحريه , الرحمه , فصممتُ ان اُتقن اياها لدرجة ان اصبح بارعا ولكننى عندما تداركتها امسيت عابراً ليس بارعاً!. ومضيت فى حُلمى, اذ بجبالٍ من النور- نور ليس كالنور -  ليس كالنور الذى تدركه الاعيُن , تلك اللحظه التى تحطمت امامها كل نظريات ابن الهيثم , ليس نتيجةً لسقوط اشعة الضوء على الجبل لينعكس لتراه العين, وانما نور داخلى يتلألأ , نور انعكس بريقه على قمم اربع جبال حولتهم الى اربع حروف كبيرة حرف "م", "ع", "ج", "خ"! امتلكنى شغف الصعود, وعند الوصول الى القمه وجدت نفسى فى قاعٍ تُرفرف عليه نسمات الجمال!

تليفون المنزل يرن ويوقظ الدكتور فؤاد, حيث طوارئ المستشفى تستدعية لحاله حرجه كما تستدعى الجيوش فى حالات الحرب, ادارة المستشفى تماما كالحياة تظننا كبذرة منتمية الى عائلة صنوبرية لا تنبت الا حد الاحتراق!

- ألو فؤاد كيف حالك؟ اين انت الان؟

= سارة انا فى الطريق الى المنزل خمس عشرة دقيقة فقط ان شاء الله

- حسنا انا فى انتظارك لتناول العشاء سويا, الى اللقاء!

= الى اللقاء!

خمس عشرة دقيقة مكتظة بأفكار كثيرة تأكل فى رأس فؤاد. حلم غريب, قمم جبلية مضيئة تتحول الى احرف كبيرة. هنا تذكر فؤاد الجواب الذى يسكن سلة المهملات فى شقته منذ ما يقرب من عشرة أيام.

- حمدا لله على سلامتك يافؤاد

= الله يسلمك يا ست سارة, ماذا عن العشاء

- جاهز على السفرة

= مذاق مميز يليق بروح من الفردوس حقا ياسارة

- ربنا يعزك يافؤاد , بالهنا والشفا.

= سفرة دائمه ياسارة, لو لم تمانعى نأخد القهوة فى الكافيه المعتاد ؟

- حسنا لا مانع, اريد فقط ساعه من الوقت ولنذهب.

استقلا سارة وفؤاد سيارة تبدوا وكأنها تعود الى القرون الوسطى فى موكب ملكى مهيب يليق بأميرة من أميرات ديزني!

قهوة مظبوط من فضلك.

- كيف كان اليوم ويوم امس معك ياسارة؟

= انتهيت على خير ولكن الروتين الحكومى كاد ان يفترسنى يافؤاد, صدقت عندما اخبرتى سابقا ان الطريقة المثلى للتعامل فى الكثير من المؤسسات الحكوميه ينبغى ان يتبع المقوله الشهيرة "اذا ذهبت الى المرحاض فلتقض حاجتك او لتخرج!"

- حقا ان امريكا اقل بكثير من ان تغير روحا كروحك ياسارة!

= وماذا عن يومك يافؤاد؟ وكيف قضيت ليلة أمس؟

- ليلة امس قضيتها على قمم الجبال, واليوم قضيته مع مريضة فى القسم النفسى شرعت فى القضاء على نفسها بسكين حاده, بعدما رسمت بها رسومات اشبه بأرقام متفرقة على حائط الغرفة.

قص الدكتور فؤاد على سارة ما رأه فى الحلم ليلة أمس, وعلى الجواب الذى وصله منذ ايام, وبعدما انتهيا من جلستهما توجها الى شقة فؤاد بحثا عن الخطاب فى مهملات تراكمت منذ عشرة ايام الى ان عثرا عليه. الخطاب مدون عليه من الخارج اربع احرف متقطعه تماما كما ظهرت لفؤاد فى الحلم "م", "ع", "ج", "خ"! . فتح فؤاد الجواب بصحبة سارة فوجدا صفحة بيضاء مدون فى الاركان الاربع منها احرف "ر" , "ع" , "م", "م" متقطعة وفى منتصف الصفحة مدون رقم "7"!

غاب الوعى عن كليهما فى آن واحد وسقطا على الارض, كأنهم ذهبا فى رحلة الى عالم آخر يعيش فيه بشر ذوى اربعة رؤوس وذيل، فيه حركة امشيرية مستمرة، فيه الموت والحياة يتسامران معا!

انتهت,,,