مهتم بتطوير الذات والاستقرار العملي، أؤمن بقيمة الإتقان والسعي المتزن بعيدًا عن الاستعراض.
وهم الثراء وحقيقة الاستقرار
جيل الواجهة – حين تصبح المظاهر بديلاً عن القيمة
كثيرٌ من الشباب اليوم، وخصوصًا من هم في مقتبل العمر، يسعون نحو الثراء الفاحش.
لكن السعي لا يكون عبر العمل، أو بناء الذات، بل من خلال مظهر خارجي يُوحي بأنهم من طبقة الأغنياء.
نوع السيارة، الملبس، الساعات، الأجهزة، وحتى طريقة الحديث...
كلها أصبحت رموزًا للانتماء إلى عالم لا يعكس حقيقة واقعهم.
والحقيقة أن معظم هؤلاء الشباب ينتمون – مثلنا – إلى الطبقة الكادحة أو المتوسطة،
التي تعتمد في دخلها على وظيفة ثابتة، أو على دعم الأهل، أو حتى على دخل محدود من عمل جزئي.
لكن أين تكمن المشكلة؟
في مواقع التواصل الاجتماعي.
حين تتصفح السوشال ميديا، سترى – في الغالب – من هم أفضل منك بمراحل،
أناس يملكون المال، النفوذ، الشهرة، السيارات الفارهة، والسفر الدائم...
لكن هذه النماذج لا تمثل أكثر من نسبة ضئيلة جدًا من المجتمع.
وفي المقابل، لو بحثت بعمق، سترى الجانب الآخر: من يعيش أسوأ الظروف، ويعرض مآسيه ومشاكله…
وهم أيضًا نسبة ضئيلة جدًا.
أما الواقع الحقيقي – واقعك وواقعي –
فهو في الوسط، في الاعتدال.
أنت شخص طبيعي، تعيش حياة يومية بسيطة:
تتناول وجبة سريعة، تتسوّق بحذر، تفكّر في مصروفك،
سواء كنت تعتمد على أهلك أو على راتبك، أو حتى تتقشف لتوفّر.
كل هذه التفاصيل اليومية لا تُعرض على مواقع التواصل،
لأنها لا تُبهر، ولا تثير الإعجاب،
لكنها هي الواقع الحقيقي لغالبية الناس.
ما يُعرض عليك هو مجرد واجهة مصمّمة لتثير فيك شعور النقص،
ثم تُعرض عليك إعلانات:
"كيف تصبح ثريًا خلال عام"،
"كيف تتغيّر حياتك في ثلاث خطوات"،
"كيف تحقق دخلاً سلبيًا وأنت نائم"...
لا بأس في أن تتابع منصات التواصل،
لكن الخطر كل الخطر، أن تبني نمط حياتك اعتمادًا عليها.
نمط حياتك يجب أن يُبنى على دخلك، على مهاراتك، على وعيك،
وعلى قدرتك على تطوير نفسك بصبر وهدوء.
نحن – أبناء الطبقة المتوسطة – رأس مالنا هو عقولنا،
وقيمتنا لا تُقاس بما نرتديه، بل بما نفعله، وبالاستقرار الذي نصنعه.
قيمتك الاجتماعية لا يحددها نوع سيارتك،
بل قدرتك على أن تصرف على نفسك دون أن تتديّن،
أن تكون مستقرًا، أو أن تصرف على عائلتك دون طلب مساعدة من أحد.
هذا وحده إنجاز عظيم في زمن المظاهر الفارغة.
وإن كنت لا تزال تعيش مع أهلك،
فلا تنسَ أن تأخذ دخلهم وفئتهم المادية بعين الاعتبار.
فلا تُحمّلهم فوق طاقتهم، ولا تقارن حياتك بحياة من لا يشبهونك في شيء.
وإن طوّرت نفسك، وصرت يومًا ما قادرًا على أن تدعمهم،
فأنت رزقٌ أنزله الله عليهم...
ورزق العائلة ليس دائمًا مالًا، بل أحيانًا يكون أبًا عاقلًا، أو ابنًا نافعًا.
فلسفة الإتقان – الشغف ليس شرطًا، ولكن الإتقان ضرورة
ما الذي يشعل شغفك؟ وما هو طموحك الحقيقي؟
إذا جلست مع نفسك وأجبت عن هذين السؤالين بصدق، بعيدًا عن الشعارات العامة أو الإجابات المتداولة، فغالبًا ستجد نفسك في حيرة بين عدة احتمالات: قد يكون المال، أو السلطة، أو الشهرة، أو حتى مجرد الزواج والاستقرار.
وبحكم تجربتي، لم أكن أعلم يومًا ما هو الشيء الذي يثير شغفي فعلًا.
لم يكن لطموحي اتجاه واضح أو محدد، بل كانت إجابتي عن هذه الأسئلة تتغيّر بحسب الظرف والمكان والمرحلة التي أعيشها.
وبعد خمسة عشر عامًا من العمل في وظيفة لم أخترها، وإنما فرضتها عليّ الظروف، توصّلت إلى قناعة صادقة:
أن الشغف والطموح - كما تُصوّره لنا الكتب والمنصات الاجتماعية - غالبًا ما يكون وهمًا نُقنع به أنفسنا هروبًا من واقع لا نرتاح فيه.
الواقع في معظم الأحيان لا يمنحنا تلك الفرص البراقة التي يُروَّج لها،
لكن الشيء الحقيقي الذي نملكه فعلًا، هو كيف نتعامل مع هذا الواقع.
ومن هنا جاءت نقطة التحوّل:
لقد اكتشفت أن شغفي الحقيقي هو إتقان ما أُكلف به.
سواء كان ذلك في بيتي، مع زوجتي وأطفالي، أو في عملي، أو في محيطي الاجتماعي...
أي مسؤولية توضع أمامي، أعتبرها مهمتي الحقيقية، وأؤديها بأفضل ما أستطيع.
فالظروف لا نتحكم بها، بل يقدّرها الله كما يشاء،
لكن ردّة فعلنا تجاهها هي ما نصنعه نحن.
والأجمل من ذلك، أنك كلما أتقنت عملك، بدأت في الاقتراب منه عاطفيًا.
ليس لأن طبيعة العمل تغيّرت، بل لأن أنت تغيّرت.
تبدأ تلاحظ التفاصيل التي لا يلاحظها غيرك، تؤدي المهام بكفاءة أعلى، تضيف لمستك الخاصة، وتشعر أن لوجودك أثرًا.
ومع مرور الوقت، ستشعر بشيء عميق جدًا...
سعادة فطرية نابعة من داخلك، لأنك الأفضل فيما تقوم به.
حتى وإن كانت الوظيفة التي تمارسها بسيطة أو لا تُعدّ "راقية" في نظر المجتمع،
فأنت تدرك قيمتك، وتعي أن ما تصنعه يستحق الاحترام.
القيمة لا تأتي من مظهر المهنة، بل من جودة الأداء واحترام الذات.
وفي النهاية، لا يهم ما الذي تقوم به...
المهم أن تتقنه.
الواقع لا يستأذنك – كيف تتعامل مع ما لم تختره؟
ما هو الواقع؟
في اللغة، "الواقع" مشتق من الفعل وقع، أي حدث وثبت. ويُقال: "وقع الأمر" أي حصل فعليًا.
أما في المعنى، فهو ما هو كائنٌ أمامك الآن، لا ما تتمنّاه، ولا ما تتخيّله.
هو الظروف التي تعيشها لحظةً بلحظة، سواء كنت قد اخترتها أو فُرضت عليك.
وما يميز الواقع عن الخيال، أنه لا ينتظرك، ولا يستأذنك... بل يضعك أمامه كما هو.
الإنسان بطبيعته يميل إلى بناء الصور الذهنية، ويكوّن في داخله خيالًا عن الحياة التي يريد أن يعيشها.
يحلم بوظيفة مثالية، ودخل مريح، وزملاء ملهمين، وبيئة تحفّزه على الإبداع.
لكن حين يدخل سوق العمل، يصطدم – في الغالب – بحقيقة مختلفة تمامًا.
الخيال شيء... والواقع شيء آخر.
وهنا تبدأ الأزمة النفسية.
كثير من الناس يرفضون الواقع حين لا يشبه أحلامهم.
يشعرون أن ما يعيشونه ليس "عادلًا"، وأنهم يستحقون أفضل.
وقد يُقرّر البعض ترك العمل، ظنًّا منهم أنهم سيجدون مكانًا يليق بهم،
لكن الواقع لا يقدّم بدائل بسهولة،
بل أحيانًا، تكون الخيارات محدودة، والزمن لا ينتظر.
هنا، أودّ أن أشارككم تجربتي الشخصية.
لأني عشت في واقعٍ صعب، وأدركت معنى الصدمة بين ما نريد، وما هو موجود.
حين بدأت حياتي الوظيفية، فوجئت بمهامي التي أُوكلت إليّ.
الخيال الذي كنت أرسمه قبل الوظيفة، لا يشبه أبدًا ما وجدته أمامي.
كنت طالبًا متفوقًا، ومستواي الدراسي كان ممتازًا، لذلك كانت توقعاتي مرتفعة.
لكن الوظيفة كانت دون المستوى الذي تخيّلته، وشعرت أنني أقلّ مما أستحق.
وأنا أعلم أن كثيرًا من الناس يمرّون بهذا الشعور،
بل إنّ بعضهم يترك الوظيفة، باحثًا عن المكان المنشود.
وهي مغامرة، لا يمكن القول إنها خاطئة دومًا، لكنها بالتأكيد محفوفة بالمخاطر.
في أسوأ الأحوال، نستطيع أن نصبر على الوظيفة عامًا أو عامين،
رغم صعوبة البداية، إلا أنها فرصة لتعلّم أشياء كثيرة،
لكن بشرط أن نتخلّى عن خيالنا القديم، ولو مؤقتًا.
أنا شخصيًا قضيت أول عامين في وظيفتي بحالة نفسية سيئة،
وكنت على وشك أن أترك العمل لأكمل دراستي.
لكن في العام الثالث، تغيّر داخلي شيء عميق…
أدركت أن خياراتي خارج هذه الوظيفة محدودة، وأن ظروفي المالية لا تحتمل المجازفة.
فتقبّلت واقعي، لا لأنه جميل، بل لأنه حقيقي.
وبدأت أتقن عملي، لأنني أيقنت أن هذا هو الخيار الأفضل حاليًا.
ومع مرور الوقت، ومع الإتقان، تغيّر كل شيء:
أصبحت أكثر ثقة، وارتفعت قيمتي في بيئة العمل،
وبدأت أشعر بالفخر، لأنني صرت أُتقن ما أقوم به.
حتى أصبحت أستيقظ وأنا متحمّس للذهاب إلى العمل…
نعم، العمل نفسه الذي كنت أكرهه ذات يوم.
وهنا تكمن قوة التقبّل:
هو ليس استسلامًا، بل وعيٌ عميق بأن رفضك للواقع لن يغيّره،
وأنك حين تبدأ بالتعامل معه كما هو،
تبدأ شيئًا فشيئًا بصناعته كما تريد.
وتذكّر دائمًا:
الظروف ليست بأيدينا، بل هي من تدبير الله،
وليس لنا حيلة في دفعها أو اختيارها،
لكننا نملك الوسيلة الأقوى:
التعامل معها بوعي، والتغلّب عليها بإرادة