ما تجاذبه أمران ، دراسة في أصول النحو وفلسفته
ما تجاذبه أمران دراسة في أصول النحو وفلسفته
التجاذب :
مصطلح يكثر استعماله في كتب النحو ، ولا سيما عند النحاة الأوائل يعبِّر عن فلسفةٍ تحكم اللغة والنحو ...
مفهومه :
قد يَـجْذِب الشيءُ شيئاً آخر إلى حكمه متى قّوِيَ جذبُه له وزاد شبهه به ، وهذا معنى قول ابن مالك عن الاسم المعرب ( لشَبَهٍ من الحروف مدني ) أي : مقوٍ ومقربٍ ...فكلما قَوِي الجاذب تأصَّل الحكم ؛ لذلك غَلَب فيما تغير حكمه أنه جذبه أمرانِ لا أمرٌ واحدٌ كـ ( علتي شبه الفعل ) في الممنوع من الصرف ، أو ما كان جاذباً واحداً قَوِيَ قوةَ الجاذبين كالعلة القائمة مقام علتين في الممنوع من الصرف نفسه ؛ لذلك قال العكبري في اللباب في علل البناء والإعراب 1/ 77: «مشابهة الْفَرْع للْأَصْل من وَجه وَاحِد ضَعِيفَة فَلَا تجذبه إِلَى حكمه بل غَايَة مَا فِيهِ أَن يصير ... » وقال ابن الخباز في توجيه اللمع ص405: «فليس للعلة الواحدة من القوة ما تجذبه عن الأصل، وشبهوه ببراءة الذمة، فإنها لما كانت هي الأصل لم تصر مشتغلة إلا بشهادة عدلين، وذلك لأن الأصول تراعى ويحافظ عليها.»
وهذا معنى قول العكبري في التبيين عن مذاهب النحويين البصريين والكوفيين ص191: «والشَّبه بينَ الشَّيئين قد يَجذِبُ أحدُهما إلى الآخر، كقولهم: مررتُ بزيدٍ الضَّاربِ الرجلِ بالجرِّ حَملاً على قولك: مررتُ بالرّجلِ الحَسنِ الوجه، وهذا اتّفاق شَبَهِيٌّ مع أنّ الفرقَ بينهما ظاهرٌ، وذلك أنَّ الرجلَ هنا مفعول، وحكمه أن يَنتصب، وأنّ الرجلَ ليس للمضافِ إليه، بخلاف الحَسَنِ الوجه لأنّ الحُسْنَ للوجه ومع هذا قد حُمِلَ أحدُهما على الآخرِ، وأجازوا مررتُ بالرَّجل الحَسَنِ الوَجهِ، حملاً على قولهم: مررتُ بالضاربِ الرّجلِ، وكلُّ ذلك للشَّبه اللَّفِظِيِّ.
هذا إن اتفقت جهة الجذب وقويت عندهم ، ومعنى قوتها أن تكون على نمط واحدٍ كأن يتجاذبه شبهان مختلفان كما في قول ابن الأنباري في الإنصاف 1/ 225: «المستثنى لما تَجَاذبه شَبَهان: أحدهما كونه مفعولًا، والآخر كونه بدلًا؛ جُعِلَتْ له منزلة متوسطة، فجاز تقديمه على المستثنى منه، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه، عملًا بكلا الشبهين،» .
وقد يكون لأحد العاملين دون الثاني كما في موضوع ( التنازع ) وهو أن يتقدم في الكلام عاملان فأكثر، ويتأخر عنهما معمول واحد فأكثر ، ، ويكون كل متقدم طالبًا لذلك
المتأخر، فقد رجح الكوفيون إعمال الأول لأنه سابق، ورجح البصريون إعمالَ الثاني لقربـه مـن المعـمول... فقد تجاذب المعمول هاهنا أمران ( غلبَةُ كون العامل سابقاً ) و ( غلبَة إعمال الأقرب للمعمول ) ... فعندما تسند القيام والقعود إلى أخويك فإما أن تقول : ( قام وقعدا أخَواك ) ، فتجعل ( أخواك ) فاعلاً للفعل الأول، وتضمر الألفَ فاعلًا للفعل الثاني، كأنك قلت: قام أخواك وقعدا ، أو تقول : ( قاما وقعد أخواك ) ، فـ ( أخواك ) فاعل للفعل الثاني، وقد أضمرت الألفَ فاعلًا للفعل الأول.
وهو في كتبهم يدور حول :
أولاً : ما تجاذبه أمران وتغيَّر حكمه وهذا كثير وهو الأصل كالممنوع من الصرف والمبني من الأسماء
ثانياً : ما تجاذبه أمران ولم يتغير حكمه ، لكنه يتوسط بينهما أو يعطى لأحدهما أما اختياراً أو بشرط :
- ما تجاذبه أمران وتوسط الحكم بينهما كالمستثنى في جواز تقديمه على المستثنى منه وعدم جواز تقدمه على الفعل الناصب له لما تجاذبه شبه المفعول والبدل ....
- ما تجاذبه أمران وجاز أن يعطى أحد الحكمين كالتنازع في العمل
- ما تجاذبه أمران فأشترط في عمله كعمل اسم الفاعل عمل فعله ، فمتى تقدمه نفي أو استفهام مثلاً قوي شبهه بالفعل فعمل عمله لأنَّ النفي والاستفهام مما يكون مع الفعل أكثر منهما مع الاسم فقوي معهما جاذب الفعلية لاسم الفاعل فعمل عمله ...
ما يحدث به التجاذب :
ما تجاذبه حكمان نحويان :
كما في الخصائص 1/ 334:«أن البيت إذا تجاذبه أمران: زيغ الإعراب وقبح الزحاف فإن الجفاة الفصحاء لا يحفلون بقبح الزحاف إذا أدى إلى صحة الإعراب. كذلك قال2 أبو عثمان وهو كما ذكر.»
- ما تجاذبه عاملان : قال أبو حيان في التذييل والتكميل 7/ 65: «هذا الباب لابد فيه من اجتذاب عاملين مختلفين»
- ما تجاذبه شبهان :
- قال ابن الأنباري في الإنصاف في مسائل الخلاف 1/ 225: «المستثنى لما تَجَاذبه شَبَهان: أحدهما كونه مفعولًا، والآخر كونه بدلًا؛ جعلت له منزلة متوسطة، فجاز تقديمه على المستثنى منه، ولم يجز تقديمه على الفعل الذي ينصبه، عملًا بكلا الشبهين،» وقال أبو علي الفارسي في المسائل البصريات 1/ 647: «الشبهان يجذبان ما هما فيه إلى حكم ما هما منه، ألا ترى أن جميع ما لا ينصرف أنه كذلك، ولو أشبه الفعل من وجه لم يمتنع الصرف» وقال في المسائل البصريات 2/ 848: «والشبهان إذا اجتمعا اجتذباه إلى حكم الذي هما فيه.» وقال في المسائل الحلبيات ص226:«فإذا كان الشبهان في الشيء، بل الشبه الواحد إذا قام في الشيء من الشيء يجذبه إلى حكم الذي فيه الشبه، نحو إعمالهم "لا" عمل "ليس" لموافقتها في النفي، فلا نظر أن ما حصل فيه من الشبه مثل ما حصل في قولهم "ليس" من الفعل، يجب أن يعمل عمله، وتكون قوته في ذلك بحسب كثرة الشبه فيه. فهذا من جهة القياس.» .وقال في المسائل الحلبيات ص225: «شبه ألفاظ الكلم في كلمهم بالفعل مما يجريها مجراه، ويجذبها إلى أحكامه؛ ألا ترى أن "أحمد" و "أحمر" لما كانا على وزن الفعل أجريا مجراه في أن لم يلحق الجر والتنوين، كما لم يلحق الفعل، وأن باباً، وداراً، وناباً، ورجل مالٌ، وكبش صافٌ، ويوم راحٌ، ورجل ضفُّ الحال، وطبٌ، لما وافق جميعه أوزان الفعل أُعِلَّ كما أُعِلَّ، ولما لم يوافقها عِوضٌ، وبيضٌ، وصُورٌ، ولُومة، وخُزرٌ، وسُررٌ، صحح جميع ذلك، ولم يعل كما أعل ما تقدم. وكذلك "عِدة" و "زِنة" وبابهما. وكذلك "ضاربٌ" أُعمل عمل الفعل لخلال، منها موافقة وزن الفعل. فإذا كان موافقة وزن الفعل لها من جذب ما كان منه ذلك إلى حكم الفعل،»
- ما تجاذبه قياسان
- قال الجرجاني في شرحه للكتاب (152 و): "وأما فصيل وفصال فكسروه تكسير الصفة من حيث كان معنى الوصفية ثابتًا فيه وأنثوه فقالوا: فصيلة كما يقال: ظريفة وقالوا: فصلان وان لم يكن هذا المثال في نحو ظريف، لأجل أن حكم الأسماء غالب من حيث لا يقال مررت بشيء فصيل أو بحوار فصيل، فلما تجاذبه شبهان من الاسم والصفة، جمع على مثال كل واحد منهما".
- ما تجاذبه أصلان
- قال المبرد في المقتضب 2/ 241:«سنة فَتَقول فِي تصغيرها سنية وسنيهة لِأَنَّهُ يجتذبها أصلان الْوَاو وَالْهَاء»، وفي المرتجل في شرح الجمل لابن الخشاب ص87: «فإن رأيت اسمًا علمًا في آخره هاتان الزائدتان، أعني الألف والنون، وتجاذبه أصلان، يحتمل أن يكون مشتقًا من كل واحد منهما، كقولك حسان؛ يحتمل أن يكون مشتقًا من الحسن، فتكون نونه أصلية، ووزنه فعال، ويحتمل أن يكون من الحسن، وهو القتل، أو غيره مما لا نون فيه، فتكون نونه زائدة؛ ووزنه فعلان ، فإنك على هذا، إن اعتقدت أنه مأخوذ من أصل النون فيه أصلية، صرفته، وتمنعه الصرف إن اعتقدت أنه مأخوذ من أصل لا نون فيه، وكذا سمان علمًا، إن أخذته من السم منعته الصرف، وإن أخذته من السمن صرفته؛ وكذا تبان، إذا سميت به صرفته، إن اعتقدت أنه فعال من التين وتمنعه الصرف إن أخذته من تبثت يده أي خسرت....
- ما تجاذبته لغتان أو سماعان:
- قال ابن جني في المحتسب 1/ 273: «إن الحرف إذا كان فيه لغتان متقاربتان فكثيرا ما تتجاذب هذه طرفا من حكم هذه قرأت على أبى بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى لبلال بن جرير:
إذا خفتهم أو سآيلتهم … وجدت بهم علة حاضرة
- وذلك أنه يقال: سألته عن حاله وسايلته على البدل، فلما ألف استماعهما تجاذبتا لفظه فجمع بينهما فيه لتداخلهما وتزاحم حروفها.
- ما تجاذبه تأويلان :
- قال السيرافي في شرح كتاب سيبويه 3/ 117: «للمتصل مواضع مخصوصة به، وهي المواضع التي فيها يلي المتصل العوامل فيه، وللمنفصل مواضع مختصة به، وقد ذكرنا مواضعهما جميعا، وفي تلك المواضع لا يقع أحدهما موضع الآخر، وقد يعرض في الكلام مواضع يقع فيها تأويلان؛ أحدهما يجذب إلى شبه المتصل والآخر يجذب إلى شبه المنفصل، فيستعملان جميعا فيما فيه شبه منهما.»
- ما تجاذبه وصفان
- قال ابن الأثير في البديع في علم العربية 1/ 223: «وأمّا" خلا" فالتّجاذب فيها متعادل في الفعليّة والحرفيّة. فإن جعلتهنّ أفعالا فأعطهنّ حكم" ليس" و" لا يكون"، إلّا في وقوعهما صفة، ولا يحسن معهنّ المنفصل، وإن جعلتهنّ حروفا فجرّ الاسم بهنّ، تقول: قام القوم عدا زيدا وعدا زيد، وخلا زيدا، وخلا زيد، وحاشا زيدا وحاشا زيد، حكى أبو زيد أنّه سمع أعرابيّا يقول" الّلهمّ اغفر لي ولمن يسمع، حاشا الشيطان وأبا الأصبغ" فنصب ب" حاشا". فإن أدخلت" ما" على" عدا"، و" خلا" تمحّضتا للفعليّة، وانتصب ما بعدهما؛ لأنّ" ما" مصدريّة، والمصدريّة لا توصل إلّا بفعل، تقول: قام القوم ما عدا زيدا، وذهب النّاس ما خلا عمرا، تقديره: مجاوزتهم زيدا، وخلوّهم عمرا، أو زمن مجاوزتهم زيدا، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد حكي الجرّ مع" ما خلا" على أنّ" ما" زائدة.
- وقال ابن يعيش في شرح المفصل لابن يعيش 2/ 267: «اعلم أنّ البدل يتجاذبُه شَبَهان: شبهٌ بالنعت ،وشبهٌ بالتأكيد»
- ما تجاذبته علتان
وهو ما عقد له ابن جني بابا في الخصائص سماه ( باب في تعارض العلل ) ، قال ابن جني في الخصائص 1/ 61:«إذا كانت العين من الواحد مفتوحة اعتلت في هذا المثال كاعتلال الساكن نحو: جواد وجياد. فجرت واو جواد مجرى واو ثوب. فقد ترى إلى مضارعة الساكن للمفتوح. وإذا كان الساكن من حيث أرينا كالمفتوح كان بالمسكن أشبه».
وقال ابن يعيش شرح المفصل 4/ 7: «تقول: "عندي مائة درهمٍ"، والقياس أن تضاف إلى جمع الكثرة، لانّها عددٌ كثيرٌ، غير أنّها شابهت "العشرةَ" التي حكمُها أن تضاف إلى جماعة، و"العشرين" التي حكمُها أن تُميَّز بواحد منكور، فأخذت من كلّ واحد منهما حُكْمًا بالشَّبَه، فأضيفت بشَبَه "العشرة"، وجُعل ما تضاف إليه واحدًا بشَبَه "العشرين"، لأنّ ما تضاف إليه نوعٌ يُبيِّنها، كما يُبيِّن النوع المميِّزُ "العشرين". ووجهُ الشبه بينهما:
أمّا شبهُها بـ"العشرة"، فلانّها عَقْدُ "العشرة"، كما أنّ "العشرة" عقد "الواحد"، لأنّ "المائة" عشرُ مرّات "عشرةٍ"، كما أنّ "العشرة" عشرُ مرّات "واحدٍ". وأمّا شبهُها بـ"العشرين"، فلأنّها تلى "التسعين"، فكان حكمها حكم التسعين، كما» ، كان حكم عشرة حكم تسعة، لانّها تليها. ألا ترى أنّك تقول: "عشرة دراهمَ"، كما تقول: "تسعة دراهمَ"، فتضيف "العشرة" كما تضيف "التسعة" كذلك ينبغي في "المائة" أن يكون حكمها حكم "التسعين"، لأنّها تليها؛ إلَّا أنّه لما أخذ شَبَهًا من شيئَيْن، أُعْطِيَ حكمًا يتجاذبانه، فأضيف بحكم شبه "العشرة"، وفُسّر بالواحد بحكم شبه "التسعين"، فاجتمع فيه ما افترق في "العشرة" و"التسعين"، وهو أحسنُ ما يكونُ من التفريع على الأصول، ليُشْعَر الفرعُ بمعنى الأصل في البناءين جميعًا.