إيجاز من دلائل الإعجاز

 

قال الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143].

 

وهذه هي الآية الثالثة والأربعون بعد المائة من سورة الأعراف، وهي آية محكمة أيما إحكام، وهي آية مترامية الأطراف، مفعمة مترعة باللآلئ والأصداف، وزاخرة ممتلئة بالجواهر، وممتلئة مشحونة بالنوادر، مِن مُلح اللطائف، ومن بديع الهدايات، إلا أنها أيضًا مترابطة الأجزاء متآزرة الأبعاض - كما هو شأن الكتاب المجيد كله - وهي إذ تشكِّل وحدة موضوعية متكاملة، إلى حد أنبأك عنه ذلك الأداء القرآني الفائق الفريد، وأنت إذ تتلوها مرة إثر أخرى لتجد أثرها عظيمًا أيَّما عظمة، غائِرًا عميقًا إلى حد بلوغه أعماق قلبك، سَحِيقًا بَعِيدًا، حتى كان منتهاه إلى مبلغ شغافك، ولب فؤادك، بحيث لا يُمكنك إلا ترديدها قراءة وتلاوة وترجيعًا مرة إثر أخرى، ولست ببالغ منها إشباعًا من جوع، ولست ببالغ منها إرواءً من ظمأ، ولتشعر في قرارة ذات نفسك أنك أمام لوحة قرآنية تصويرية مجيدة يرفع لواءها ذلكم العبد الصالح نبي الله موسى عليه السلام، وهو إذ في شرف المجيء للقاء ربه الرحمن سبحانه، وهو إذ كلَّمه ربه تعالى، وهو أثر في النفوس لبليغ كل بلاغة، وهو هالة من الإخبات والخضعان والخشعان، قد خيَّمت على جو الآية كله بظلالها الوارفة الظليلة، وهي إذ تحكي لنا مجيئًا في الميقات وعنده وله، وكلامًا مع رب الأرضين والسماوات؛ ليبلغ به كليمه أسمى الدرجات، حتى بلغ منه شوقه أن يراه بعد إذ قد شرف بكلامه.

 

بيد أنها لتحكي لنا أصولًا جامعة، وغير أنها لتقصص علينا وجوهًا يانعة؛ ذلك لأنها تحكي لنا مجيئًا للعبد لملاقاة رب العبد، كما أنها ترينا كلامًا له تعالى مع ذلكم العبد الصالح نبيه موسى عليه السلام، وإنها لتقصص علينا طلبه رؤية ربه نظرًا إليه شوقًا وتلهفًا، وإنها لتروي لنا كيف كان دك لذاك الجبل، وهو إذ يتجلى له ربه العزيز الجبار المتكبر، كما وأنها لتقف بنا وكأنما نرى ذلك العبد الصالح نبي الله موسى عليه السلام وهو إذ يخر صعقًا، في تعبير يند عن الوصف، وفي بيان يبعد أن ندانيه نعتًا له، إذ ونحن حيال ذلكم وبهذا العجز إلا أنه يمنحنا في ذات الوقت طاقة هائلة، ونحن إذ بها نتخيَّل ذلك الجبل الأشم الشامخ إلا وقد اندكَّ فكان لا كالطود العظيم، حين تجلَّى له ربه على وجه يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه.

 

وكان منه ذلكم التجلي الإلهي الكريم الحاني، للجبل العالي المتناهي في علوِّه، الشاهق في ارتفاعه، والراسخ في ثبوته، الصلب في تماسُكه، وهو إذ تراه وقد انفرَط عِقدُه، وهو إذ تلمحه وقد انحلَّ زمامه، فلا هو بالجبل الأصم الشامخ الذي عهدناه، ولا هو ذاك الذي قد كان بالأمس: ﴿ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ [النحل:15]، وهو نفسه ذاك من جنس الجبل الذي قال الله تعالى ربنا الرحمن عنه يوم مصيره المحتوم: ﴿ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾ [النبأ:20]، وهو ذاك نوع الجبل الذي مآله ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ [القارعة: 5]؛ أي: كالصوف المنفوش، وليس إعجاز هذا الذي قد رأيناه فحسب، بل إنه ضرب من موجبات الانقياد والركون والخضوع والخشوع لرب هذه قدرته سبحانه، حتى عشنا جو الآية، وهو إذ يحكي لنا كيف كان تصوير نبي الله تعالى موسى عليه السلام، وهو إذ يعيش الحدث، وهو إذ يراه رأي عينه فكان يقينًا، حتى كان من أثره ذلكم الصعق الذي قد حلَّ به وأصابه، وحتى كان من عاقبته ذلكم إغشاءً قد أَدركه وناله!

 

وهو يقين لنا تبعًا، ولئن قيل: ولم؟! قلت: لأن الله تعالى قاله!

 

وسبحان من دكه دكًّا، دليلًا آخر على القدرة، وبرهانًا ضافيًا على القيُّومية والعزة والغلبة والقهر والسلطان والجبروت - سبحانه - وسبحان من خلقه شامخًا بـ(كن)، وتبارك من ﴿ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ أيضًا بـ(كن).

 

وأزيد فأقول: وكما أنها لتحكي لنا في تعبير رضي هني تجليًّا لذلكم الجبل الأصم الأشم الشاهق في علوِّه المرتفع، وفي سموِّه، الثابت الصُّلب، وفي ضخامته، والمتناهي في رسوخه، وهو إذ يفقد كل ذلكم من خصائص في جعل وجب علينا الإيمان به، وليس لنا خوض فيه، وهو إذ ينسلخ من ميزاته في لا زمن نلحظه، إن شئت فقل، ودلك عليه وصل تام بين فعل التجلي وفعل الاندكاك، دون ورود أي من حروف العطف التي لا تخلو من زمن قلَّ أو زاد، وهو إذ يتهاوى أمام القدرة النافذة لخالقه، وهو إذ يستسلم استسلامًا، ويذعن إذعانًا لذلكم الرب المبدع البارئ، وإذ هو سبحانه الذي قال له يومًا، وعلى مقتضى سنته تعالى التي شأنها: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [يس:82].

 

ومن حيث قد جاءه أمر ربه، ومن حيث قد تجلى له ربي الرحمن سبحانه، وها هو إذ وكأنك تراه ينهال، وكأنما لم يكن جبلًا، وهو إذ ينساخ أمام عظمة ربه، وكأنما لم يكن هو ذاك الأشم الشامخ الصلد الصلب الراسي، وهو إذ يصير دكًّا لتجليه تعالى له، وذلكم أيضًا بقول: ﴿ كُن فَيَكُونُ ﴾!

 

وحق للجبل أو أشم منه أو أكبر، أو أشمخ أو أطود، أو أعلى أو أسمق، أن يدك وينهال وينساخ، ويصير وكأنما قد كان رملًا وأطلالًا أمام قدرة ربه تعالى العلي الأعلى وتجلِّيه، على وجهه الذي يعلمه سبحانه، ودلك على يقيني من ذلك أن الجبل - أي جبل - وإذ كان من شأنه ما أنزل الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه في قوله: ﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر:21]؛ إذ خشع جبل وتصدَّع لنزول القرآن عليه، لو شاء الله تعالى عليه إنزاله، إذ فما ظنك به وقد تجلى له منزل القرآن دلالة على عظمته وجلاله؟! وإذ ما قولك وقد تجلى له الرحمن برهانًا على قدرته وسلطانه؟!

 

وذلكم هو الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه الواحد القهار، إذ ما ظنك برب كريم كان من وصفه ما عز أن يصفه أحد من خلقه إلا كما وصفه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"[1].

 

بيد أن هذه الآية الكريمة لها إحكام آخر، ومن وجه آخر أيضًا، دلك عليه ذلكم الإغزار المتناغمة به، من توارد أسلوب الشرط، ولِما حفل من خصوصية تركيبية دلالية يتميزُ بها، وذلك لما يعد به أبرز مؤشر أسلوبي تركيبي نعمت به لغتنا العربية المجيدة، وفي كثرة كاثرة، بلغت أربع جمل شرطية، ليست بخافية على ذي مطالعة أولية على نصها، وإذ هي ليست بجافية عن نظمها[2]، مما لا يناسب كلامًا يتحمله في مثل ذلكم الحيز القصير، بحيث يمكن أن يزيد من بعثرتها وتنافرها، إلا قرآن الله تعالى، فقد كانت به مزدانة آيتنا، وقد كانت به متناسقة متآلفة متماسكة مترابطة، بحيث بدت في زيها القَشيب ذات بهجة، آتية أكلها ﴿ كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]، ودلَّك عليها ذلكم التناغم بين أجزائها، وَأرْشَدَك إليها ذلكم التفاعل بين كلماتها وأدواتها، بحيث صارت به كلًّا مجموعًا منسجمًا مؤتلفًا غير مختلف، آخذًا بتلابيب أفئدة قوم هم به يؤمنون، وكأني بهم وقد انساخوا عند سماعها، كما قد ساخ الجبل عند تجلِّي ربنا الرحمن له!

 

وسبحان الله وتعالى، ولعل الإعجاز البياني ليس لكثرة كاثرة لأساليب الشرط المتباينة، وبأدوات مختلفة أيضًا هي (لَمَّا) و(إِنْ)، وإنما حتى في اختيار أداة الشرط ذاتها، دلَّك عليها حرف الشرط (لَمَّا)، وما يشي به من دلالة على شدة الارتباط بين شرطها وجوابها، كما أنه دل بمجيئه مسبوقًا بحرف العطف (الواو) مرة، ومقترنًا بحرف (الفاء) مرتين، وكأنما هي صورة أخرى، بدلالة أن لها معنى ها هنا، وأن لها مرادفًا آخرَ هناك، فبدت وكأنما هي أداة متباينة في معناها، وإن كانت واحدة في مبناها، وبسبب حرفي العطف (الواو، لما)، وذلكم حسبما جاء به السياق، وذلكم حسبما دل عليه التعبير القرآني الفريد!

 

فإن قيل: كيف؟!

قلت: إن مجيء حرف الجزم (لما) مسبوقًا بحرف العطف الواو هكذا ﴿وَلَمَّا﴾، وما يشي به من دلالة على التراخي في الفعل، وهو ما يتناغم مع فترة قد استغرقها نبي الله موسى عليه السلام، أَجْلَ مجيئه لميقات ربه الرحمن سبحانه، ومنه فأصبحت دلالة حرف الشرط متناغمة هي الأخرى مع دلالة حرف العطف الواو، فصارتا كلًّا متحدًا منسجمًا فيما آلَا إليه معًا من معني حسي لطيف رقيق رضي.

 

وبنفس السبيل يكون القول حين اقترنت (لَمَّا) بحرف العطف (الفاء) الدال على التعقيب بلا زمن فارق يُمكننا تأويله، وهو ذلكم التجلي الرباني للجبل؛ إذ ليس يمكننا أن نقيس هذه الأمور الربانية الغيبية بزمن، إلا أننا نقف مبهورين مشدوهين مخبتين خضعانًا وخشعانًا وحسبنًا، عند تآلف فاء العاقبة مع وقوع فعل التجلي الرباني الكريم، لإلغاء عامل زمن يمكن قياسه، أمام سلطان العلى الأعلى ربنا: ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 59]، وحسبنا مرة أخرى!

 

وبنفس الطريقة سالفة البيان يكون القول حين قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه: ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ ﴾، وعند الإفاقة مقترنة به، وذلكم كله له وجهه الإعجازي إمعانًا في استشعار ما لهذا القرآن من تأثير بالغ بليغ في قارئه وسامعه أبدًا!

 

ودلَّك عليه أيضًا مدى الاختيار الفائق الدقيق لحرف الشرط (إنْ)، وما أدراك ما (إنْ)، فإنها إذ تتميز بمرونة التركيب الشرطي، وهي مبهمة لا تستعمل إلا فيما كان مشكوكًا في وجوده مستقبلًا، وإنها لأم حروف الجزاء لما قال سيبويه: "وزعم الخليل أنَّ (إنْ) هي أم حروف الجزاء، فسألته: لم قلت ذلك؟ فقال: من قِبَلِ أني أرى حروف الجزاء قد يتصرفنَ فيكُنَّ استفهامًا، ومنها ما يفارقه (ما)، فلا يكون فيه الجزاء، وهذه على حالٍ واحدة أبدًا لا تفارق المجازاة"[3].

 

وإنها أصل الجزاء لما قال المبرد: "وإنما قلنا: إنَّ (إنْ) أصل الجزاء؛ لأنك تجازي بها في كل ضرب منه، تقول: إنْ تأتني آتك، وإنْ تركب حمارًا أركبه، ثم تصرفها منه في كل شيء، وليس هكذا سائرها"[4].

 

فدلَّك ذلك على مرونتها وإبهامها، وأنها أم حروف الجزاء، وهي أصل الجزاء، ومنه فكان قصد الوضع لها في ذلكم موقع من الكتاب المجيد مختارًا.

 

وإن قيل: وما صلته؟

قلت: ومن حيث إن الشرط هو تعليق شيء بشيء، ومنه فإن إحالة استقرار الجبل مكانه، حين التجلي الرباني الكريم، يحيل تبعًا أن يرى نبي الله موسى عليه السلام ربه، وذلك بلا حاجة إلى سند آخر غير ذلك الشرط!



[1] صحيح مسلم، كِتَابُ الْإِيمَانَ، بَابٌ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهُ لَا يَنَامُ، حديث رقم: 295.

[2] الجمل الشرطية الأربعة تباعا هي:

أ – قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143].

ب - ﴿ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ﴾ [الأعراف: 143].

ج - ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143].

د - ﴿ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾ [الأعراف: 143].

[3] كتاب سيبويه (3 / 63).

[4] المقتضب، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد‎: ج1 /71.



رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/142962/#ixzz6dDBb53Ug