عندما أخبر الدكتور أبي بمرضه لم يصدّقه، بصق عليه بصقة كبيرة ، أتفوووو عليك يا كذاب يا خامر، اللي أعطاك الشهادة هذا يستاهل الذبح.. ثم أنه غادر الغرفة صافعاً الباب في وجهه.
لحقت أبي لأهدئه، وعندما هاتفت الدكتور لاحقاً لأعتذر منه عن تصرفات أبي، أخبرني قائلاً لا بأس، عندما يصاب المرء بالسرطان في الدماغ، تصبح تصرفاته غير متوقعة، للأسف أخبرني الدكتور أن حالة الوالد غير قابلة للشفاء، وأن مناعته تضعف يوماً بعد يوم ، "خلاياه تأكل في بعضها"، هكذا قال لي.
منذ مدة ليست بسيطة، وتصرفات أبي غير مقبولة، المرض والكبر والمكابرة فاقمت حالته، أصبح ينسى كلماته، يقول الرأي ثم يتراجع عنه، أو يقول عكسه، هذا غير المشاكل التي كان يسببها مع الجيران حينما يقرر التمشية في الخارج، وفي أكثر من مناسبة كنت أهرع لمساعدته، بعد سماعي أنه أشتبك مع أحد ما ، أو ضربه، أو شتمه.
أكره أن أقول ذلك، ولكن حمل أبي أصبح ثقيلاً بالنسبة، ومع هذا لم أكن أستمع لكلمات زوجتي الحامل التي كانت تحثني على أن أودعه دار إيواء ليتلقى الرعاية المناسبة، أصرخ بها، مستحيل أن أتخلى عن أبي .. مستحيل.. لن أتخلى عنه، لكن مع زوجتي التي بدأت تعاني آلام الحمل في أشهره الأخيرة، وضغوط الحياة، وصعوبة العيش، أصبحت قدرتي على التحمل تهوى شيئاً فشيئاً، رغم أن كبريائي يأبى الإستماع.
لكن القدر خلصني من صراعي، وجاء ذلك الهاتف الذي يخبرني فيه أن أباك قد سقط، وأن بعض الخيريين قد أودعوه المستشفى، وهكذا أصبح أبي مغمض العينين، في غيبوبة، تحيط به الأجهزة التي تبقيه على قيد الحياة فقط لا غير.
أشهر مرت، وأبي راقد على السرير، جثة هامدة تنتظر الدفن، نصحني الأطباء أن أنهي معاناته وأطفي الأجهزة وأدعه يرحل في سلام، هو إنتهى منذ زمن، لكني في البداية رفضت.. رفضت وقاومت وصرخت.. بكيت أياماً طويلاً.. وتعذبت أياماً أطول .. مهما يكن فهو أبي .. جزء مني .. جزء من حياتي وذكرياتي.. لكن مع الوقت .. أيقنت أنني أكابر .. وأن من الأفضل أن ينتهي هذا العذاب لي وله.
" إسلام محمد" ... جثمان "إسلام محمد" ..
هذا أسم أبي .. ذهبت لأستلم الجثمان بعدما إنتهى كل شيء، وقّعت على الأوراق المتبقية، أستلمت الجثة وذهبنا للمقبرة وتم الدفن.
* * *
بعد أسبوع بالتمام والكمال، ولدت زوجتي... ولدت زوجي ولد يبدو وجهه كبدر ساطع ... نظرت في أعينيها في فرح ، حمدتها على سلامتها ، ثم قلت لها :
ـ إسلام ... سأسميه "إسلام" .
"تمت".