البعض من  الأدباء يرى أن الصمت أفضل وأسمى  وأفصح من الكلام.والبعض الأخر يرى العكس تماماً. ويأتى الإسلام ليربط بين  هذا وذاك، ليرسم لوحة بشرية مكتملة. ولك أن تتخيل مدى صعوبة تغيير طبائع الناس ،حين تحاول تغيير طبعك من إنسان يعشق ا لكلام إلى إنسان يلنزم الصمت أو العكس. جاكوب برود سشرج ذلك بشكل وافٍ حين يقول: "تأمّل مدى صعوبة أن تغيّر نفسك، وسوف تتفهّم عندها فُرص نجاحك في تغيير الآخرين." نحتاج إلى الكلام لترطيب الأجواء وشحن النفوس بالحب والتسامح والروح الوطنية؛ من أجل البناء وتجاوز العثرات، ونحتاج إلى الصمت عما بدر من أخطاء، تسببت في خلق صراعات دموية غبية، فالعقل لا يبدع والسعادة لا تتحقق إلا بكسر حاجز الصمت، فالصمت يصادر الجمال ويكمم الأفواه فتضيع الحقوق.

 

"لولا وجود عكس المعنى، لما كان للمعنى معنىًرحِم الله إبراهيم الفقي، لا تغيب عنّي كلمته تلك. كان يقصد أنّ القبح يبرز الجمال، والظّلمة تقود إلى النّور. وكلّ مطلوب. لو شاء الليلُ أن يؤدّي غرضَ النّهارِ، والنّهارُ غرضَ الليل، لانقلبت الدُنيا واختلّ نظام الكون.

 

يقول تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية السياسية المعاصرة: “كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية .. لكن لا تصمت إزاء الموضوع .. الحديث عن الشيء ولو بتفاهة، يعرضه على أنظار الناس. إن حرص الأقوام والأمم على عرض قضاياهم المصيرية أمام الأنظار يراد منه تأسيس القواعد والركائز لفهمها ومعرفة أهميتها، وهو رأي سليم جداً.

 

الأنماط المختلفة من الشّخصيّات تشكّل معا لوحتنا البشريّة، وإذ يليق ببعض النّاس صمتُهم وهدوؤهم، فلا يليق بآخرين إلا الكلامُ والحركة. ونحن في النّهاية لا نستطيع تجنّب النّاس وإقصاءَهم، كما أنّهم محقون أحيانا، يمكنك فعلا أن تغيّر شيئا ما فيك، لكنّك لن تستطيع مطلقًا أن تبدّل جلدك، أن تنتقل بالكامل بين طرفيْ نقيض، ودفعة واحدة. سيشكّل هذا صدمةً لنفسك قبل الآخرين.

 

إنّه من الصعْب فعلاً أن تتغيّر في مجتمعنا، ليس صعبًا وحسب، بل يكاد يكون مُستحيلا! نحن نعيش في بيئةٍ متشابكة، حيث يتدخّل الجميع في شؤونك، صغيرها وكبيرها. رغم أن هذا التّدخّل قد يكون  غالبًا لدواعٍ طيّبة، أصلُها الحبّ. ولكن من الحبّ ما خنقليس جديداً أيضا إن قلت أنّ مزاجك النفسيّ بات يُقاس من إقتباساتك، و من فتراتِ ظهورك على مواقع التّواصل، رغم أنّ سبب غيابك قد يكون بسيطا جدا ولا يمتّ لمزاجك بصلة، كأن تكون مشغولًا مثلًا!

 

تكاد تلمس ظاهرة الصمت عند البعض من شدّة وضوحها، وكأنّ ما يصمت فيهم ليس الفم وحده، بل الجسد أيضاً. هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون قليلي التبسّم، ولكن ليس بقصد العبوس. ملامحهم تخلو من التّعبيرعلى نحوٍ بريء، كصفحة بيضاء تستثير مخيّلتك لتملأها. وفي المرّات القليلة التي يضحكون بها ستشعر أنّ الشّمس أشرقت.

معنى هذا أننا يجب أن لا نتخوف ولا نيأس من ردود أصحاب الذوق السيء ذوي الإستجابات الفجّة اذا ما أعترضوا على مشاريعنا الثقافية الداعية إلى التغيير نحو الأصح والأحسن، وحتى على أقوالنا المجردة. فهذا الاعتراض لا يعني بالضرورة وجود خلل في هذه المشاريع أو عدم واقعيتها بقدر ما يدلل على وجود نوايا شريرة مسبقة لدى بعض من يستفيد من ديمومة حالة الخطأ التي نعيشها.أو كما قال الأستاذ البلداوي: إن الذين يقاومون أي تغيير في نظام حياتهم مهما كان لمجرد أن التغيير الجديد لم يألفوه هم معقدون. وكلما كانت مقاومتهم شديدة كان التعقيد المبتلون به شديدا أيضاً.

 

أنا على النّقيض تمامًا، أحبّ الكلام ،أعشق اللّحظة التي تلمع فيها كلمةٌ غريبة أمامي، أو مصطلح وليد الموقف مؤثّرا، أودّ لو أستطيع تخليده. وإذ يليق ببعض النّاس صمتُهم وهدوؤهم، فلا يليق بآخرين إلا الكلامُ والحركة، لذا حين نقرّر أن نتبادل الأدوار نبدو كمن يرتدي ملابس فضفاضة لا يناسبه مقاسُها. و من زاوية أخرى، ستجد أنّ للعبوس العارض من الأشخاص المبتهجين تأثيراً مضاعفاً، عن الغرض الذي يؤدّيه العبوس مِن الذين صار ذلكَ سمتُهم الدّائم. وكما يقود الحزنُ البعض لغايات سامية، لا يُقاد البعض الآخر لتلك الغايات إلا من طريق واحدة، هي السّعادة.

 

فما هو الصمت؟ الصمت على رأي عبد الرؤوف بن المناوي: “فقد الخاطر بوجد حاضر. وقيل: سقوط النطق بظهور الحق. وقيل: إنقطاع اللسان عند ظهور العيان”. وهو على رأي أيوب بن موسى الحسيني الكفوي: “إمساك عن قوله الباطل دون الحق. وغالبا ما يكون دافع الصمت والسكوت كليهما الخوف، وربما لهذا السبب تجد في تاريخنا الفكري والتربوي الكثير من الوصايا والمواريث والأمثلة التي تحث على السكوت وعدم التحدث، فالخوف من شيم النفوس، وهو أحد أشهر المشتركات البشرية التي يتقاسمها الكبار والصغار، وتشترك فيها القوميات والأمم.

 

لماذا حث الإسلام على الصمت في زمن كان الكلام فيه مباحا؟ ربما جاءت الدعوة إلى الصمت لتحثهم على التفكر في الوجود في الأقل وهذا ما يتبين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رسول الله (ص)،: “يا أبا ذر ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر، وأثقل في الميزان من غيرها؟ قال: بلى. قال: طول الصمت، وحسن الخلق، فو الذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما”(7). فطول الصمت في هذه الحالة يترك للفكر فسحة لكي يسيح في الآفاق بحثا عن المعرفة ولاسيما في ذلك المجتمع المفتوح، لكن أن يتحول إلى ثقافة غير منتجة فذلك هو الأمر الذي يدل على أنّ الصمت كان لدوافع أخرى.

 

فكم كان جميلاً لو أن أجدادنا صمتوا ليتفكروا وينظروا ويتأملوا، ولكنهم للأسف ثرثروا حتى الثمالة، فتسافل بعضهم وتدانى، مما وجب تحذيره، كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله(ص): ألا أنبئكم بخياركم؟ أحاسنكم أخلاقا. ألا أنبئكم بشرار هذه الأمة؟ الثرثارون المتفيقهون” أو حديثه الآخر الذين مايز بين الخيرية والثرثرة، قال: قال رسول الله(ص): “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت”.

 

لكننا للأسف وجدنا أن السكوت سمة العقلاء الباحثين عن السلامة والأمان، فسحبنا ذلك على بداية مراحل إسلامنا، أو ربما تشبثا منا بموروثنا، نقلنا سنن جاهليتنا إلى عصر إسلامنا، فدمجنا المنظومتين: منظومة الأمان الجاهلية، ومنظومة الحكمة الإسلامية، لنخرج بمنظومة هزيلة أضاعت هدفها مثلما أضاع الغراب مشيته!

 

هكذا جمع الإسلام بين المتناقضين، وإجتماع المتناقضين في بعد فكري واحد يعني فيما يعنيه أن الكلام أكثر قيمة وأجدى من الصمت في بعض المواطن، والسكوت أكثر قيمة وأجدى من التكلم في مواطن أخرى، والإنسان هو الذي يحسن أو يسيء الاختيار، فكم من سكتة قتلت صاحبها، وكم من كلمة حق قتلت صاحبها.

 

وأخيراً ... لم يكن للصمت في أي وقت من الأوقات فضيلة مطلقة، كما لم يكن ذلك للكلام أيضًا، وإذا كان الصمت أبلغ في كثير من الأحيان، ويوزن كثيرًا بميزان الذهب في مقابل وزن الكلام بميزان الفضة، فإن الكلام ـ من وجهة نظر أخرى ـ واجهة العقل. ومن مأثور أقوال العرب في هذا الصدد ما جاء في المثل العربي: رب كلام أقطع من حسام. ولكن ليس كل الكلام أقطع من حسام كما يقول المثل العربي الذي تولّد من رحم زمنٍ كان للكلمة فيه وزن الفعل وأثره؛ فبعض الكلام لا يحرّك ساكنًا، وبعضه يضر أكثر مما ينفع، ويؤذي أكثر مما يفيد، ويزيد الهمّ الواحد همومًا عدة بدلا من أن يقضي على الواحد أو يفرّج عن حامله.

 

للكلام فضائله إذا جاء متناسبًا مع المقام، وكان هادفًا ومفيدًا، وللصمت فضائله إذا كان المقام لا يحتمل الكلام، أو إذا كان أي كلام لا يمكنه أن يعبر ذلك المقام. لكن كلا منهما يفقد فضائله كلها إن استُخدم في مقام غير مناسب، أو إن مُزِج بينهما على نحو يجعل الحق باطلاً والباطل حقًا.

 

قد يحسبُ الصمتُ الطويلُ من الفتى.. حلماً يوقَّرُ وهو فيه تخلفُ. وقيل أن الصمت هو الصديق الوحيد الذي لن يخونك أبداً.وقديماً أعتقد البعض أن المصبية ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيارورأوا أن خير الفضائل الصمت لأنك بواسطته تستمع للآخرين فتعرف عيوبهم وتخفي عيوبك.