يُحكى أن فيلم مدته 10 دقائق حصل على إعجاب الجماهير رغم قصر مدته،فعزم جمع غفير من الجمهور على الذهاب لصالة العرض لمشاهدة هذا الفيلم.وبدأ الفيلم بمشهد دام 6 دقائق على مشهد ثابت لصورة سقف غرفة ما.فبدأ الجمهور يشعر بالملل وأخذهم الغضب وهموا بالإنصراف،لولا أن المشهد والكاميرا بدأت تتحرك بداية من السقف نزولاً بجدران الغرفة إلى أن وصلت إلى سرير بالغرفة يرقد عليه طفل مريض ، يقضى ليله ونهاره لا يرى سوى سقف الغرفة.هذه كانت رؤية مميزة من مخرج فنان مختلف عن الأخرين ،استطاع أن يجذب إنتباه وإعجاب الجمهور،الذى صفق له تقديراً واحتراماً لأنه عرف كيف يجعل المشاهد يتعايش مع فكرته وبلغ رسالته إليهم بالسهل الممتنع. إذا فالأمر يتعلق بالإبداع وليس بالكم . فالمبدع شخص له نظرة مختلفة للأشياء ا لمعتادة. هذا ما كان عليه بيكاسو من إبداع وتميز.فالأديب ينظر للأشياء والموضوعات بنظرة تختلف عن الرسام .والعالم يختلف فى تناوله للأشياء عن الشاعر والموسيقار وغيرهم .والجميع على صواب فيما يذهبون.
"عندما اكتشفنا التكعيبيّة، لم يكُن هدفنا هو اكتشافها، لقد أردنا فقط أنْ نُعبّر عمّا كان كامنًا فينا مِن الأزل "..." ما هو وجه الإنسان؟، ومن يرى هذا الوجه بشكل صحيح؟، المُصوّر الفوتوغرافي أم المرآة أم الرسّام؟، هل علينا أن نرسم ما يبدو على الوجه، أم ملامح الوجه، أم الكامن وراء الوجه؟"...بابلو بيكاسو، مِن مقال مجلة التايم 1950 .
إن من الغباء إنكار الأصالة التي تتجلى في إخفاقات بيكاسو، مثلما أن من الغباء الإدعاء بأن أصالته تضع هذه الإخفاقات في مصاف الروائع. إن بيكاسو نسيج وحده، إلا أن كونه إنساناً لا إلهاً يضع على عاتقنا مسؤولية الحكم على قيمة تفرده هذا.
لقد أصبح الإسبان مضرب المثل في إعتزازهم بالطريقة التي يكيلون بها اللعنة والسباب. وهم يتباهون ببراعتهم في الحلف بالإيمان المغلظة، ويدركون أن التجذيف قد يكون من الشمائل الكريمة، بل من الخصال الدالة على علو المقام. غير أن أحداً لم يسبق له أن كال السباب بالألوان قط. هذه عبقرية بيكاسو.لم يكُن بيكاسو فقط فنانًا ذائع الصّيت في حياتِه، بل هو أيضًا مؤسّس واحدة من أبرز الحركات الفنيّة في التاريخ، التكعيبيّة. أنتج بيكاسو أكثر من 20 ألف عمل فني طوال حياته، ما بين لوحات زيتية، رسومات ورقية، مطبوعات ومنحوتات وغيرها، مُناقشًا بها قضايا فكرية، سياسية واجتماعية.
أسس كلٌ مِن بابلو بيكاسو والرسّام الفرنسيّ جورج براك (1882- 1963) تلك الحركة الفنيّة المعروفة بالتكعيبيّة، والتي أحدثت ثورة فنيّة وفكريّة نافذة امتدت لوقتنا هذا. فالتكعيبيّة لا تهتم بنقل الواقع كما هو بأشكاله المعروفة المفضوحة، بلْ تفككه، تُكسّره وتشوه نظامه المفهوم لتكشف لنا في طيّات الواقع عن الكسور، التعاريج والتشوهات الكامنة فينا. فيحدُث أن ترى عين الرّسّام في شكل شُعلة ، لوحة الغيرنيكا، تُنير فضاءً مُعتمًا فتمزقه كما يُمزق النور الظّل.
ما الجميل في رسومات تُسيطر عليها الأشكال الهندسيّة؟ ما هذا الذي كان كامنًا فينا مِن الأزل؟ لم يقبل بيكاسو الواقع البصري بوصفه أمراً صميمياً أصيلاً لا محيد عنه. لقد كان مدركاً على الدوام أن كل شيء يراه ربما كان قد اتخذ شكلاً آخر، وأن ثمة مئة رؤية ممكنة أخرى وراء كل مرئي لم يقع عليها الاختيار بعد. إن تساؤلات بيكاسو وبحثه عن ضالته المنشودة لم ترتكز على التجربة الفنية وحسب، بل انبثقت وترسخت في سياق تجارب إنسانية أعرض بكثير، ولا سيما تلك التي تتجاوز فيها طاقة الجسد النزعات الفيزيائية المعتادة. ولهذا السبب كان بيكاسو مسكوناً بصورة العاطفة المشبوبة والألم، وكان قادراً على خلقها كذلك: صور تتجاوز فيها الطاقة ما هو موجود، صور تكشف لنا النقاب عن أن ما هو موجود ليس كاملاً أو ناجزاً على الإطلاق .لقد كان بيكاسو هو المعلم السيد لما هو ناقص غير مستكمل، بل لتجربة عدم الإستكمال. فإذا كان الرسم معنياً بحوار يدور حول الحضور والغياب.
وقد تأثر الرسم كغيره مثل العلوم الطبيعيّة، الفلسفة والموسيقى بالنقلة العلمية التي شهدها القرن العشرون بسبب نظرية النسبية لأينشتاين. فقد حطمت فكرة العلاقة بين الوقت والبعد الرابع الكثير من المسلمات في الأواسط الفكرية، وهذا بالتحديد ما قوّى مِن شوكة التكعيبيّة، فكل شيء في الكون، بما في ذلك الإنسان، هو جزء مِن بناء رياضي (mathematical structure)، قد نرى أن المادة مكوَنة من جزيئات وأن مِن خصائص الجزيئات الشحنة الكهربية والحركة، لكن حتى هذه الخصائص هي محض رياضيات. وعليه؛ فإنّ الكون أحد خصائصه الأبعاد، تلك الأبعاد التي تجعله محض بناء رياضي.
يقول الروائي ستندال : «إنْ الفنَّ وعدٌ بالسعادة». عبارة بسيطة وملائمة لمفهوم الجمال في القرن التاسع عشر.فيما بعد، يرد المُشاغب جاك دريدا على ستندال قائلًا: «أنْ الفنَّ وعدٌ بالحقيقة». فبأي وعد منهما تعدنا التكعيبية؟ بسعادة ستندال أم بحقيقة دريدا؟ في الواقع، أن التكعيبيّة تعدنا بما وصفه بيكاسو: «ما كان كامنًا فينا مِن الأزل»، والكامِن فينا مِن الأزل هو ما اكتشفه أينشتاين، تلك الأبعاد التي حطمت مفهومنا للأنا والكون والزمان والمكان.لقد كانت التكعيبيّة مرآةً ناطقة بكلّ صخب القرن العشرين، باِكتشفاته العلمية وحروبه العالميّة، مرآةٌ ناطقة بالحقيقة الكونيّة الجليّة أمامنا: أنّ هذا الكون مكتوب بلُغة الرياضيّات. الحقيقة التي يعدنا بها دريدا،المكعب، المثلث، الدائرة، المخروط والأسطوانة.هذا هو الجمال الذي تُقدمه التكعيبيّة: الحقائق عارية والنظريّات الكونيّة مرسومة. فالكون الذي تقدّمه التكعيبيّة هو الكون الذي اكتشفه أينشتاين؛ الكون المكتوب بلُغة الرياضيّات. وجمال التكعيبيّة يتجلى في عبقرية قدرتها على رسم هذه الأبعاد الجوانيّة فينا.ختامًا.لقد أجابت لغة التكعيبيّة الرياضيّة عن سؤال الوجود الأزلي: كيف يمكن للإنسان أن يُدرك وجوده الأصيل عوضًا عن هذا الحضور الزائف؟
بيكاسو: نجاحه وإخفاقه هو كتاب للكاتب البريطاني جون بيرغر نقله إلى العربية فايز الصياغ ونشرته المنظمة العربية للترجمة في بيروت. نشر الكتاب لأول مرة في العام 1965، فتوالت عليه الهجمات من أكثر من مكان، باعتباره يطرح موقفاً نقدياً متغطرساً وخبيثاً، تنقصه الحساسية، من أعمال الفنان الإسباني ـ الفرنسي الشهير بابلو بيكاسو. نبذ الكتاب في انجلترا بوصفه فاسد الذوق. وكان بيكاسو آنذاك على قيد الحياة وفي أوج عظمته. وتبدأ المقالة على سبيل المثال بمناقشة ثروة بيكاسو، وما إن توفي بيكاسو في العام 1973 عن واحد وتسعين عاماً، حتى بدأت جولات مضنية من التقاضي أمام المحاكم حول ثروته. كان بيكاسو يتمتع (عام 1965) ، أي قبل وفاته، بثروة وشهرة لم يتمتع بمثلها فنان آخر في أي وقت مضى. فهو يحتفظ بمجموعة تضم مئات عدة من لوحاته الزيتية من جميع مراحل حياته. وكانت تساوي نحو خمسة وعشرين مليون جنيه استرليني آنذاك.
يقول بيرغر إن بيكاسو هو أشهر رسام في العالم، وتكمن شهرته في معاصرته. إنه إمبراطور الفن الحديث بغير منازع. وعلى الرغم من ذلك، فإن في موقفه من الفن ومن مصيره الشخصي جنوحاً عن روح العصر، ينتمي على نحو أكثر ملاءمة إلى أوائل القرن التاسع عشر. وثمة علاقة بين الغموض التاريخي لبيكاسو وبين طبيعة نجاحه وعلو شأنه. إن أسطورة بيكاسو الشعبية التي تدعمها شهادة أصدقائه ليست في واقع الحال تشويهاً فظيعاً للحقيقة، كما يراها بيكاسو. فإن إيمانه الرومانسي بعبقريته بوصفها حالة كينونة لا بد أن يفضي إلى الأسطورة. وأوشكت العبقرية تلك أن تكون على بعد خطوات فقط من قدسية شبه الإله.
يعتقد بيرغر أن بيكاسو كان يحس بالنفي بشكل متزايد. فهو لم يجد في فرنسا ما يشبع نوازعه العميقة. لقد بقي وحيداً. إنه وحيد وحدة المجنون: إذ يخيل للمجنون أن بوسعه عمل أي شيء ما دام لا يلقى اي معارضة. إنها وحدة الاكتفاء الذاتي، هي الوحدة التي تستثير في النفس نشاطاً موصولاً ولا تسمح بالراحة. لكن بيكاسو ليس مجنوناً. في رأي بيرغرأن لا أحد تمتع بالشجاعة الكافية للجهر بما جهر به بيكاسو، خوفا من استفزاز أدعياء الثقافة الذين يعتبرون الفن كله عبثاً، لأنه ليس مرآة يتملونها ويتملقون أنفسهم من خلالها.
إن الكتب العديدة التي وضعت عن بيكاسو لا تتكتم قط على علاقاته الغرامية العديدية، فقد غدت جزءاً من الأسطورة. غير أن ثمة علاقة واحدة يمر عليها الدارسون مرور الكرام، وهي تشهد بالإفتقار إلى الواقعية الذي يحيط بسمعة بيكاسو. إن لوحاته ومنحوتاته ومئات الرسوم في دفاتر مسوداته تدلنا على أن أهم علاقة في حياته من الوجهة الجنسية كانت مع ماري تيريز والتر، هناك أكثر من خمسين لوحة تدور حول ماري تيريز. إن ما يميز هذه اللوحات هو حدة الطابع الجنسي فيها. يمكن القول أيضًا أن بيكاسو - المغرور الّلعوب الذي عانت معه جميع من إرتبطن به كزوجات وعشيقات- كان مُدركًا تمامًا في نفسه لمغزى نظرته الذكورية تجاه الإناث عبر قراءة سيرته وصراعاته الطويلة الداخلية والخارجية معهن في حياته: تزوج بيكاسو مرتين، لكنه اتخذ عدّة عشيقات كان يرسمهن ثم يستبدلهن في كل فترة من فتراته العملية الجديدة كما كان يتعامل مع جُلسائه كمصادر إلهام جديدة: ماري تيريز والتر التي انتحرت شنقًا، والمُصوِّرة والشاعرة دورا مار، والرسَّامة والناقدة فرانسواز جيلو الوحيدة التي تركت بيكاسو بملء إرادتها.
ويرجع هذا الشعور لأن إسبانيا بلد معزول لأنها كانت لا تزال بلداً إقطاعياً، ومساهمتها في الحضارة الأوروبية خادعة أيضاً إذ تقتصر على الأدب والرسم، ولا تشتمل الفنون أو العلوم، ولم تساهم إسبانيا إلا قليلاً في فن العمارة أو الموسيقى أو الفلسفة أو الطب أو الفيزياء في أوروبا. إننا هنا أمام سمة إسبانية مميزة: ألا وهي الاعتقاد بأن كل شيء ــ الوضع الإنساني برمته ــ يمكن تغييره بصورة فجائية ومهولة في لحظة واحدة. ولقي الصدود أول الأمرفى فرنسا. وبسرعة فائقة استولى على رأس أحد الجسور. وأصبح آخر الأمر فاتحاً. فقد كان بيكاسو حاذقاً إلى درجة الخبث، وسرعان ما عرف مقياس المجتمع الذي وجد نفسه فيه. ولا نجد دلائل على أن السنوات الأولى من الفقر والإهمال قد غيرته أو أضرت به، بل سرعان ما اتضح أن لهذه الميزة فوائدها، إذ منحته معايير معينة ينتقد على أساسها ما يراه.
ولم تكن تعمر رأسه الأوهام بشأن إسبانيا، إذ أدرك أنه لو بقي رساماً في إسبانيا، لكان عليه أن يتعامل مع أفراد الطبقات الوسطى بمفاهيم الإقليمية الضيقة. وأدرك تمام الإدراك أن باريس تمثل التقدم وأن عليه أن يسهم في هذا التقدم الذي ألقى الرعب في قلبه. فالفقر الذي عرفه في باريس كان مختلفاً، ففي اللوحة الذاتية المرسومة عام 1901 في باريس نرى وجه رجل لم يقتصر أمره على الإحساس بالجوع والبرد، بل هو أيضاً صامت لا يكلمه الآخرون. وليست وحدته ناجمة عن كونه غريباً، بل إنها تمثل بشكل جوهري فقر المنبوذين في المدينة العصرية.
يقول بيكاسو: "إنني لا أكاد أفهم الأهمية التي تعلق على البحث الكلامي في الرسم الحديث. وفي إعتقادي أن البحث لا يعني شيئاً في الرسم، أما المهم فهو العثور والإكتشاف". إنه يستسلم كل الإستسلام للفكرة أو للحظة الراهنة. ويتخلى عن الماضي والمستقبل وعن الخطط والعلة والمعلول جميعاً. إنه يضع نفسه كلياً تحت تصرف التجربة الراهنة. وكل ما عمله أو حققه، إنما يكتسب أهميته بمقدار ما يؤثر في وجدانه في لحظة الإستسلام تلك. فبيكاسو ينكر قوة العقل وينكر الرابطة السببية بين البحث والإكتشاف. كما أنه ينكر أن هناك نمواً في الفن، ويمقت النظريات والتفسيرات. إنه يمقت التفكير بصورة عامة ويزدري تبادل الآراء. فهو يريد أن يكون كل شيء بدهياً مسلماً به من دون نقاش وأبعد من أن تطاله البينة.
ويمكن تبين أهمية إقامة بيكاسو في باريس بما حدث بعد عام 1907، فبدأ يعقد صداقات مع الرسامين والشعراء الفرنسيين، وبخاصةمع ماكس جاكوب وغيوم أبولينير. وفي عام 1907 التقى براك، وما حدث بعدئذ هو تاريخ الحركة التكعيبية، التي ولدت على أيدي الرسامين لكن الشعراء هم الذين تكفلوا بالحفاظ عليها وإمدادها بالروح والثقة بالنفس.
في عالمٍ محكومٍ بالإختلال الجنسي، تم تقسيم متعة النظر ما بين ذكر/فاعل وأنثى/مستسلمة. تُسلِّط النَّظرة الذُّكورية المُحدِّدَة نَزوتها على الشكل الأنثوي المُصَمَّم وفقًا لذلك. النساء يُعرَضْنَ ويُنظَرُ إليهِنَّ -في الآن ذاته- كجزء من وظيفتهن التقليدية الإفتضاحية، حيث تُرَمَّزُ هيئاتهن لتعطي أثَرًَا بَصَرِيًَّا وإيروتيكيًا قَوِيًَّا ليُقال أنَّ ذَلِكَ يُشِيرُ ضمنًَا إلى ظهوُرِيَّتهنَّ كَفُرجَة»....لورا مُلفِي، متع بصريّة ومتع أخرى. فى فرنسا عاش بيكاسو حياة البوهيميون على هامش الحياة البرجوازية حيث رفضوا آدابها الباردة، و سكنوا الغرف الرخيصة و ارتادوا الملاهي والمقاهي والحانات والصّالونات الأدبية وبيوت الدعارة. كان رفضُه السُّلطة والمؤسسات السياسية والاجتماعية الرسمية -وبالتالي الثقافة السائدة- سِمَة بوهيمية.
ما سر ا لضجة التى أحدثتها لوحة آنسات أفينون؟
تُصوِّر لوحة آنسات أفينون خمس مومسات بأجساد عارية، لكنّ الوجوه غريبة: نرى الأعين غير الطبيعية وغير المتناسقة كالتي رسمها بيكاسو على وجه جيرترود شتاين. وجهان من الوجوه الخمسة أقرب إلى قناع إفريقي منه إلى وجه إنساني. الأجساد لا معالم لها، الأثداء غير واضحة بل هندسية، والأيدي والأرجل غريبة ومتداخلة مع الخلفية. المكان غير واضح لكن وضعية الأجساد تدل على بيت دعارة، بخلفية من الأزرق والأبيض والأحمر الضّارب إلى البنّي.
واعتبر رجل الأعمال الروسي ومقتني الأعمال الفنيّة سيرجي شوكين الّلوحة «خسارة للفن الفرنسي».كانَت اللوحة نقطة تحول متطرّف للغاية، ليس فقط عن أعماله السابقة، بل وعن كل شيء آخر موجود تقريبًا.
بقيت اللوحة مخفية عن العيان في مرسم بيكاسو قرابة تسع سنوات حتى بدأت تخرج إلى العلن، فعرضت للمرّة الأولى عام 1916 لتحدث ضجّة، لتعود مرة أخرى حبيسة استوديو بيكاسو إلى أن اشتراها صديقه المصمم جاك دوزيه عام 1924 قبل أن يشتريها متحف الفن الحديث في مدينة نيويورك عام 1937، حيث لا تزال اللوحة معروضة إلى الآن.
ما الذي كان صادمًا إذن؟ ليس أن بيكاسو رسم خمسة أجساد عارية بوجوه غريبة، ولا لأنه رسم مومسات في بيت دعارة، إذ كان بيت الدعارة في ذلك الوقت موضوعًا فنيّا مألوفًا، وصوّره الكثير من الفنانين الحداثيين بالفعل، لكن ما فاجئ الناظرين هو هذا المنظور الجديد الذي إستحدثه بيكاسو برسمه هذه الأشكال العارية وترتيبه لبقية عناصر اللوحة. في اللوحة خمس مومسات يحدّقن مباشرة في الناظر بنوع من الاستغراب أو حتى القرف. هذه النظرات المباشرة هي ما «حدّد أحد أهم التطورات المركزية للفن في القرن العشرين»، فبالنظر إلى اللوحة، يصبح المتفرج نفسه هو «مركز الإهتمام» وليس اللوحة.
اللوحة ترسم فتيات «قبيحات» على عكس ما كانت تظهر به الأنثى عادة في اللوحات، وليس في تلك النظرات أي دعوة لعوبة ولا إثارة جنسية. وإذا ما دقق الناظر جيدًا، سيدرك أن المومسات لسن جميعًا واقفات، بل تستلقي اثنتان منهن على ظهورهن، وتجلس إحداهن وتعطينا ظهرها، لكن رأسها ينظر لنا في وضع مخالف تمامًا لجسدها. هذا قلب كٌلّي للمَنظور. بالنسبة للناقد روبرت هيوز، هنا يكمن موضوع اللوحة الرئيسي، فهذه النظرات تحمل القلق الجنسي للمُتَفَرِّج الذَّكر وتَرُدَّهُ إليه. هذه تحديقات «استجوابية أو غير مبالية أو متعذّرة مثل الحجر. لا يمكن تفسير أي شيء من تعبيراتها على أنها ترحيب، ناهيك عن كونها غنجًا او مغازلة. هن قُضاة أكثر من كونهن حوريات». يعكس هذا موضوعًا رئيسيًا في فن بيكاسو، وهو الخوف، أو حتى رهبة النساء. سلّط بيكاسو مخاوفه عبر هذا التحوير الكامل للشَّكل بطريقة لم يفعلها أحد قبله. وبالنسبة إلى هيوز، حتى شريحة البطيخ في اللوحة تشبه قطعة سلاح.
كان معظم من حظي بفرصة النظر إلى اللوحة في استوديو بيكاسو من الرجال. ولم يكن مفاجئًا أنهم أصيبوا بالصدمة والفزع. بدا النظر إلى اللوحة غير مريح، ولم يتمكنوا من معرفة السَّبب. لم يفهموا سبب إختلال اللوحة ولا قباحتها ولا عدم اتساقها، ولماذا لا تتحدّث إلى رغباتهم الجنسية ولماذا لم تبعث فيهم إرادة الهيمنة. كانت تلك هي «صدمة الجديد» بالفعل. لا تعكس الأجساد الخمسة أي حركة، بل تبدو ثابتة إلى حد ما، مستريحة ومتحدية، وموجودة فقط دون أن نعرف لماذا هي هناك، كما لو أن بيكاسو قام بتجميعها أمام الستائر، وكما لو كنّ قد خرجن من حلم رجل محبط، ليس مخيفًا بما يكفي ليشكّل كابوسًا، ولكنه مربك بما يكفي ليحث على الإستيقاظ.
هذا القُبح الكامن في إختلالات اللوحة هو مفتاح فهم معناها الكامن، فتوظيف بيكاسو للقبح هو محاولة إستراتيجية للتعبيرعن أن جسد الإنسان ليس فقط مُجرَّد شيء «يمكن فهمه وتمثيله كما اعتبره الفن الأكاديمي آنذاك، بل هو بحد ذاته – كجسد – شرط ضروري للتمثيل».
جاء القبح (أو التقبيح) طريقة بيكاسو لتحويل مسار الفن الذي اعتبر الجمال الأنثوي ومحاولات الإستحواذ عليه -عبر النظر واللمس- «متعة جمالية». هذا ما تفعله لوحة نساء أفينيون: تُحطّم القباحة تلك النَّظرة السُّلطوية ولو بشكل لحظي. وربّما لهذا السبب لم يكن بيكاسو مرتاحًا مع اللوحة أيضًا. وحتّى وبعد مرور قرن، لا تزال اللوحة تصدم الناظرين وخصوصًا الذكور منهم. ولأول مرة في تاريخ الفنّ الحديث، تهدِم لوحة نظرة المُشاهِد وتفْقِده السّيطرة.