وهم الخلاص الفردي
من أكثر المفاهيم المشوّهة التي أنتجتها الفردانية أنانية الخلاص الفردي، والذي لم يكن وليد العصر الحديث فقط، وليس نتاج أدواته، فتجده في فلسفة نيتشه الذي يدعو إلى تجاوز القيم التقليدية والتركيز على القوة الذاتية، بل وأبعد من ذلك ذهب إلى أن الفرد الذي حمل الهمّ الجماعي هو "عبد لأخلاق القطيع"
لكن تُرى أهكذا تُبنى الأوطان؟ أم هو نزعة حيوانية يتفوق فيها غريزة البقاء على قيد الحياة، على كل الفضائل والأخلاق الشريفة التي تغنى بها الإنسان عبر عقود.
أما عند أجدادنا العرب، فكان الإنشقاق عن القبيلة عار لا يوازيه عار، فكان المنشق عنها يُنبذ ويُطرد ويُحرم من الجوار، هذا قبل النور المحمدي الذي هدى الناس إلى تمام الأخلاق وجعلًا جسدًا واحدًا بعد أن كانوا شتى، فهي على ما يبدوا فطرة فطرنا الله عليها نكون فيها جزء من كل يعصمنا من عدوان المعتدي، فإذا أحدق الخطر كانت يد الله مع الجماعة.
أما في واقعنا الفلسطيني، والخلاص الفردي واختيار النجاة خلال تلاطم أمواج الطوفان فهو أخطر، قد يختار أحدهم تجارةً يحصلها، أو فرصة عمل خارجًا أو رزقًا دنيويًا يكتنزه، فيختار زُخرفًا مؤقتًا يستمسك فيه، صامّاً آذانه عن ما يجري حوله، فارًا بذلك إلى واحة الخلاص الفردي التي تضمن له "موهومًا " رزقه وعمله وعمره، لكن ما وصفه باسل الأعرج عن هذا الخلاص أنه "مسكن" فقط لا غير، سرعان ما ستكتشف زيف هذا الخلاص، فانسلاخك عن قضايا أمتك ليست إلا كجنّة الدجال، سرعان ما ستكتشف زيف هذا الشعور، وأن دنياك ليست إلا حفرة كلما حفرت لتبلغ صندوق الكنز، وجدت أن الحفرة تبتلعك أكثر فلا وصول للكنز ولا عودة للسطح.
المفهوم القرآني للإنتماء جاء كاملًا متكامل، يخبرك أن حزنَ اليمني الذي فقد عائلته هو حزنك، وحزن اللبناني الذي فقد بيته هو حزنك، والحسرة التي تجدها في قلوب عوائل الأسرى تجدها في قلبك، بل ذهب لأبعد من ذلك، وجعل الهم والدعاء والاستنصار للأمة عبادةً يتقرب بها إلى الله،
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾
(سورة آل عمران: 103)
بل ووصف التفرق والتنازع في الصفوف بالوهن
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
(سورة الأنفال: 46)، والتشبيه بليغ بديع، يقول الإمام الطبري يُقال للرجل إذا كان مقبلًا ما يسره "الريح مقبلة عليه" وأريد به في هذا الموضع أن تذهب قوتكم فيدخل الوهن في صفوفكم والله أعلى وأعلم.
الناظر لحال الأمة، يقع في قلبه ما تعانيه من تآمر وظلم وعدوان، زرعوا فينا نزعة الخلاص وآثروا لأنفسهم الإلتحام على الخراب والعدوان، تراهم في مؤتمراتٍ دنيئة قد تكاتفوا عليه وقد كانت من قبل أكلتهم الصراعات السياسية والإقتصادية، ما أحوجنا لأن نفهم أن قلوبهم شتى وإن حسبناهم جميعًا وأن ما يجمعنا في نسيج واحد ليس هدف مادي أو منفعة دنيوية، هو فكر وعقيدة تُحمل في الصدر وقضية عادلة ومظلومات لشعوب مقهورة منكوبة، وأرض جادت علينا فكان حقًا علينا أن نبرّ بها.