كإرتطام دويه شائع الصدى يؤكد لنا اننا مازلنا هنا بطريقة او بغيرها. كإرهاف السمع لصوت لا وجود له. كوعد انسى الدهر أنه مازال قائما ومستمر. وكأشياء اخرى تبرير وجودها قد يقلل من قيمة اسبابها. كان اليوم كأي يوم بدأ على غرة، وملامحه المجهولة تحفز على انهائه ايا كان. كان صمته الحالي امتدادا لكلمات عصية لا يعرفها، مع ذلك كان دائما يتقاسم معانيها في سكوت مع هره الهارب. يتفقد ساعة معصمه مجددا بعد وقت وجيز. آملا ان يكون قد اهدر من الوقت ما يبعث على الفخر في الدقائق السابقة، وجواب الساعة كان محبطا. اصبح تفحص ساعته، عادة يبغضها، تبعث دائما فيه ندما طفيف. اما عن شروده الدائم، فكانت عادة سيئة يهواها. وامام طابور الخبز الطويل ود ولو شرد قليلا، لكن الشرود أناني. يطرُق ولا يطرَق على بابه.

لائحة من النيون التي هي اكبر منه واطول من كل الناس. كانت تنص بماذا؟ لم يستطع ان يعرف فحوى الاحرف الكبيرة بحكم ضعف نظره. وكان بجوارها رسمة، لن يختلف اثنان ان وجودها كان فقط يصعب التخمين وراء مخزى الإعلان. او بالأحرى بعد يوم عمل طويل، سينصرف عنها الاثنان لتجميل طبخة العشاء الفاترة، التي هيأ سراب الجوع أنها شهية. *دعك من هذا الكلام الفارغ* يقول كهل جالس بجواره يهاتف شخصا بصوت عال.. ولماذا يفعل ذلك؟ لو كل الكلام كان هادفا لما تكلم احد.  كصباح اثار المطر فيه الكسل. كمساء شتت زحامه عطلة أواخر الاسبوع. كأشياء عديدة تبيين اسبابها يفاقم الأسى. كان ولد وفتاته على سلالم الميدان تناهى لمسامع من لا يبالون وعده لها انه سيحبها حتى النهاية. وكانه يعرف ميعادها. عجيب امره، قد يمضي حياة كاملة يستهزئ بحماقة الآخرين ولا يلاحظ سذاجته. استغرق كثيرا يتامل جمال الميدان. ثم شطب الميدان من قائمة الاماكن التي قد يكون هره فيها. في هدوءه الخاص وفي ثرثرة الناس، التي لم يسرقها المطر حتى الان. *لا شئ يعلو هامتي غير السماء* قال إلياس فركوح. ثم غادر ضوء الصباح آخذا معه كل مبررات تفقد السماء. برز القمر اخيرا ولم يكن جزءا من عالمنا. بل كان اجمل منه بكثير. واشرقت شمس الليل تتجلى في ضوء مصباح كهربائي باهت. ابعد من ان تصل اليه عيناك بدون ان تنظر إلى الأعلى. 

كان ثمة ما يرهق تهور السيارات على الطريق  السريع. وكان ثمة ما يخزيه، ثمة ما لا يريد ان يقوى عليه، فيلم به. وما كان عليه سوى ان يكتشف ذاك السأم. كلنا سنفعل اشياء جميلة وقبيحة، الى ان نكتفي منها. تتاخر ساعة المساء، لكنه كان يستمد قواه من حنين الذكريات. عندما كان يتشمس على حافة النافذة، خائر القوى، يتفحص معاني الشمس، تتدلى مخالبه المقلمه، حدقة عيناه تقلصت حتى ان بدى وكأنها ثقب  دبوس، ثم يصدر غريرا خافتا ويغور في نوم اعمق من سبات، واخف من قيلولة. مع ان كل هذه الذكريات، تبدو اوضح من اضاءة شحيحة، كان استحضار لونه بيقين، موقفا استرجعته تلافيف الذاكرة، على مضض شديد.

الى اين ذاهب؟

قال شرطي قصير بصوت ناعم. وبعيون مضطربة. اثار شكوكهم وهو يتسكع في الشوارع بدون هدف. بعدما استنفذ كل الاحتمالات، وشطب كل الاماكن، يعول على امل مجهول. والآن هو ضائع ككيس بلاستيكي في سماء عاصفة.

-ليس لي وجهة محددة "قال مرتبكا"

-من اين جئت اذا؟ 

-من عدة اماكن.. لا اتذكر على وجه التحديد. 

ثم هم ان يخرج قائمته من جيبه وعارضته الشرطية على فعله هذا بشكل عنيف. فتشته باحثة عن آلة مؤذية، مع ان هيئته الرثة تؤكد انه كناس نسى مكنسته.

-ماذا كنت تفعل في هذه الساعة؟

قالت بنبرة تكبر. ذكرته بهؤلاء النسوة، من يمدهم الغرور ثقة بالنفس.

وكان ذلك يستفزه.

-كنت ابحث عن هري. وهويتي ايضا في البيت. 

قال هازئا وهو يعرف ان جوابا مثل هذا في هذه الظروف، اشبه بإهانة من كذبة. وكانت بمثابة الصرخة الاخيرة، قبل انهيار ثلجي مهيب. كل من في الدنيا منتصف الليل ينام، إلا ساهر يتأمل السقف المشقق، انهمرت عليه الخواطر والذكريات. رجل يضيع في الشوارع ليجد قطا تركه. وزبال يصفر مندمجا، يحب وردية الليل لخلوها من الزحام والبشر. 

* * *

-ماذا دهاك يا رجل.. احزن عليك.

-ابحث عنه كثيرا ولا اجده

-مضت شهور على رحيله، الم تنسه؟

-وكأنها سنين.. وددت فقط لو انني ودعته.

-تفتقده هذا القدر؟

-لا اعرف. ثمة ما يشدني لأتقاسم معه الصمت بلا توتر. لمشاهدة اعلانات التلفاز تحت اضائة  صفراء، في غرفة ضئيلة، بصبر وفير وهو بجواري. كان وجوده محفز لأشياء كثيرة. باتت الان معلقه بدون مبرر, اتستطيع ان تحيى  بدون ان تطعم الحمام؟.

-تمييزها لي وحبها لاقبالي فقط من يعينني على كنس كل تلك الشوارع وانا اصفر راضي النفس.

-تعينك على جرف كل تلك الثلوج. 

ميز المقولة. 

-كان كتابا جميلا ...وهاروكي صديق قديم. "قال وهو يحدق على طائرة قريبة من سطح الشارع المقفر" 

ابتسم في نفسه واعترف انه دائما ما يفاجئه هذا الكناس البسيط. ميزه في الوقت المناسب والاصفاد بين يديه ولحسن حظه كان الشرطيان من اصحابه، وهو يعرف جيدا، انهم لا يريدون تكفل عناء القبض على احد في ساعات متاخرة من الليل فقط بنائا على شك غير مكتمل. فهرع وشهد لهم بان صاحبه فقط يمر بوقت عصيب.

-نعم كثير ما تعلمنا تلك الثلوج.

-إسمع. اعلم انني قد اكون اضيع من وقتك، لاسيما في هذه الساعة والتسكع في الشوارع ليس مرحب فيه. لكن ثم هر جديد اتى للحديقة التي بجوار الخباز. يجلس وحيدا دائما على الدكة التي بجانب البوابة الخلفية.

لم يكبح ابتسامة هذه المرة. تشكره وعانقه ثم مضى صوب وجهته الجديده.