‏قبل أكثر من ثلاثين عاماً ، حينها كنت في الصفوف الأولية من المرحلة الابتدائية، تضايقت من الواجب الكثير فشعرت برغبة في البكاء حتى أُنفّس عما بداخلي ، فخرجت من البيت وجلست أبكي. فإذا بأبي الغالي أطال الله في عمره خلفي وقد سمع أنيني ، وقبل أن يسألني ماذا يبكيك ؟ وبدون مقدمات.. صفعني صفعة مازلت أتذكرها إلى الآن. وقال لي جملة مازلت أسمعها في أذني مع ذلك الصرير الذي سببته لي تلك الصفعة ، 

قال :" الرجّال مايبكي" وانصرف. 

وفي الليل أتى وقد استلقيت على سريري الصغير وأوشكت على النوم فجلس بجواري وقص لي قصة جده الذي كان يخوض حرباً فتعرض لإصابة بليغة ..... الخ وأكمل حربه ‏وانتصر ، دون أن يدمع له جفن أو تهتز له راية.ثم كرر جملته ، "الرجال مايبكي " وأضاف :" البكاء للحريم". 

شعرت حينها بأنني أخطأت خطأً فادحاً وارتكبت جرماً محرمًا وهو البكاء وأنا رجل!

مرت السنون وحين كنت بالمرحلة الثانوية،  كنت برفقته ونحن نعمل في المزرعة وفجأة توقف عن العمل وذهب بعيدًا عني ‏فأتيته لأعرف مابه فإذا به يبكي بكاءً شديدًا ، يبكي كطفل ، كانت المرة الأولى التي أراه يبكي ، لا أخفيكم أنه أرعبني ذلك المنظر حين رأيت لحيته الطويلة السوداء - وقتها- وهي مبللة بالدموع التي تتلألأ في بياض الشيب الذي بدأ للتو. عرفت بعدها أن موقفاً حصل ذكّره بعمي الذي مات بالقريب. تفهمت وقتها أن فراق الأخ مؤلم وأنه أمر موجب للبكاء . ولكن كدت أن أقول له ، ألم تقل أن الرجل لايبكي ؟! 

لم تكن تلك المرة الأخيرة التي رأيته يبكي فيها فقد تكرر المشهد بعدها بسنوات قليلة حين وفاة جدتي رحمها الله وجدته في فناء المنزل يبكي ولكن بصمت . تفهمت أن فراق الأم مؤلم جداً  وأنه أمر موجب للبكاء أيضاً. 

‏ولكن لا أخفيكم أن تلك الصفعة التي عرفت سببها الحقيقي حين كبرت؛ سببت لي عقدة من البكاء لعقود لدرجة أني كنت أحاول أن أبكي فلا أستطيع .

الآن وبعد أن بلغت الأربعين رأيت ابني ذات يوم وقد اغرورقت عيناه الصغيرتان بالدموع فقلت له لا شعوريًا (ليش تبكي ، الرجال مايبكي ...). 

فتذكرت أن ‏الرجال يبكون . نعم يبكون ولكن بكاءهم لايكون إلا في مواقف تتفجر فيه الدموع دون توقف.

دموع الرجال عزيزة ولا تخرج إلا إذا بلغت النصاب. 

فاحذر أن تكون سببًا في بكاء رجل.