أيُّها القارئ!

ما أجمل هذا العالم وما أروع ما به من أشياء عديدة تدفع بي لحبك قصة الوجود الجميلة!، ما أروع كل هذه الأشياء الغريبة على كوكبنا وما أقوى وأشد جاذبيتها وتأثيرها الإيجابي على الكائن البشري وسلوكياته!.

في الحقيقة؛    

والحقيقة أبلغ من مجرد أن تصوّرها الكلمات، أو تشير إليها الأقلام.. بل هي أكبر بكثير من أيّ تعبير سطحي يؤكد أن الحياة غنية بالجماليات التي تخطف لب الكائنات.. هذه الحقيقة العميقة جدا للحد الذي لا يستطيع قاصريّ التأمل وضعفاء البصيرة التوصل إليها؛ حقيقة أن عالمنا الكبير منحوتة فنية تتنفس. هذه المنحوتة التي لا تقدر أغنيات المغني ولوحات الرسام وسبائك الشاعر وجميع أطياف الفن بعددهم الهائل إيصالها وسردها، مهما اجتمعوا لأجلها بتفنن ورصَّفوا لها المعاني ورققوا الأسلوب.

"آه أيتها الأرض.. آه أيها الكون الجميل!؛ كم كنت أتمنى حقا لو أن الأعمى يراك، والأصم يسمعك، والأبكم يتحدث عنك بلفظه الشائق وحسه الصادق الرائق.. فإن البصير لا يرى ما يراه الأعمى، والأعمى يرى ما لا يراه البصير في هذا الكون العظيم".

في الحقيقة كذلك؛

قريبا جدًّا من الآن اكتشفت هذا العالم، قريبا وأنا بين ثنايا كومة من اليأس حاولت أن أسافر في رحلة انتقالية من التشاؤم والسخط الذي أكنه لهذه الحياة، جعلتني أكتشف هذا الكوكب بحق، حينما كنت أتخبط على سرير من الأشواك المسمومة التي تؤلم ولا تقتل.. عندما كنت أحس أنني أعيش كثيرا من التناقضات وموجة من التوتر المتجانس مع الحقد والعتاب تجاه هذه الحياة التي كنت أتيقن كذبا أنها سيئة لادغة، تُهين الصنف البشري وتكرهه، وتسلط عليه المآسي بدعوى القدر وتصرعه، آزرتني أصوات المحبة والجمال أن بالحياة عديد الأشياء الجميلة بصدق، إلا أنني لا أراها أو لا أسعى إلى ذلك!.

كان الصوت خافتا جدا؛ خصوصا وأن "عويل البشر" كان يُحدث لي موجة من الصداع المتكرر كلما أمعنت السماع أكثر لتلك الأصوات الخافتة والمستترة علي خوفا من أن أهينها بعدم التصديق، كان يُغَمُّ علي وجه هذا الصوت لكثرة ما كنت أسمعه من زُحار ونشيج عال يخرج من أعماق هؤلاء الناس "سكان الأرض". كنت أسيرُ مغشيا لهول ما أسمع، أسير لمجرد السير لا أعلم أين وجهتي، أخطو فقط نحو تلك الأصوات وكأنني في سيري ضيعت مقصدي، ولا مقصد لي حينها إلا أن أفهم ما يجري وأفقه دلالة المنطوق المستتر. حاولت بكل الطرق الممكنة أن أنصت جيدا لذلك الهجس رغم تشابك الأصوات ببعضها.. والغريب في الأمر أنني كلما دققت الاستمتاع أكثر لتلك الهمسات الهابطة من السماء إلا وزادت حدة التشويش علي، وكأن العالم يقول لي: "لا تسمع.. لا تسمع"!.

مع ذلك إلا أنني استطعت بعد صراع شديد بيني وبين هذه الأصوات أن ألتقط لي قليلا من المعاني الرقيقة التي كانت تنزل عليّ بردا وسلاما، كرسائل كونية خافتة تدعوني أن أفتح عيناي على هذا العالم الساحر اللافت والإسهاب أكثر في كل جانب من جوانب هذا الكون السالب لكل أبجديات البهجة التي نغفلها .. إلى كل تلك الأمور البسيطة التي يكمن خلفها عالم سرِّي غامض.

كانت تخبرني أن أتوجه بسرعة فائقة نحو النافذة.. نحو الباب.. نحو أي منفذ يمكن له أن يسمح للطافة الجو أن تلامس جلد جسدي.. كان المطر ينهمر بغزارة ليلتها، كان البرد شديدا لا يسمح لي بالخروج إلا للضرورات القصوى، وكأن بهذا الوحي الكوني شيء يشير لي بأن خروجي يعد أيضا من أقصى الضرورات التي تفرض علي الخروج حالا!.

خرجت كعادتي من المرات، ولم أكن آبه لجو مؤذ كذاك، فقد تعودت أن أخرج في كثير من الأحيان إن لم تكن كلها "كما أخبرت بذلك سابقا".. إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أحس فيها بخفة في جسدي، وحياة تدب في بدني.. الفرحة والبسمة على شفتي، عندما تقلدت منصب العاكف على رأس الجبل، والمبتهل تحت ضوء القمر.. عكفت أتأمل بشدة لمنظر السماء البديع، وقطرات المطر والصقيع .. كل ذلك كان في تلك الليلة الباردة منظرا لم أعهد مثله من قبل.. كان المنظر أشبه بمن تمنى ليلة القدر فأدركها.. وبالرغم من أن الجو كان كعادته، لم يتغير شيء بالأرض ولا بالسماء، إلا أنني أحسست باختلاف شديد بين خروج الأمس وخروج اليوم .. فخروج الأمس كان خروجا اعتياديا للتفكر في مشاكل كل يوم، أما خروج اليوم فقد كان للبحث عن كل عالم يختفي وراء كل تلك الأمور الاعتيادية، أو ما نسميها بالبسيطة.

"كانت تجربة جميلة جدا، لغاية أني كنت أتصرف كالذي يرى المطر لأول مرة، ويحس جلده بالبرود وكأنه ما حصل في أي مرة".

يا الله.. كم هي الحياة جميلة حقا!.

قلت؛ لما خرجت كان الدافع أكبر نحو اكتشاف الحقيقة، حقيقة قد تمكنني من أن لا أسيء إلى هذا العالم بعد الآن قط .. هي الحقيقة التي كان ينبغي علي أن أكتشفها قبل سبع عشرة عاما من الآن، منذ خرجت لهذا الكون، وكنت أعتقد فيه سوءا وما هو بالمسيء ولا السيئ أبدا.

كل صغيرة في هذا الكوكب "الأرض" كانت تكبر وأصبحت تتفخم جدا حتى تظهر لي على حقيقتها، تمنيت جدا وقتها أن لو يخرج الناس كلهم بدون استثناء أحد ليحسوا بما أحسه أنا في تلك اللحظة .. لكن للأسف، لم يكن بوسعي إيقاظ عالم بأكمله، ينام على غيضه وحقده، ولا يجرب الخروج إلى هذه الحياة بكل حب وابتسامة ويجرب تلك النشوة الغامرة.

تلك النشوة التي كنت أحسها أنا وقتها، وجعلتني أصبح إنسانا على غير عادته، فلم أعد أسهر كثيرا لأطلب من الربّ أن يجعل الغد أفضل من هذا اليوم.. فقد أدمنت التأمل في ملكوت الله شكرًا له، أنه أراني مثل ذلك اليوم، يوم تكشفت لي فيه السرائر، وتفخمت لي فيه الصغائر، وتفتحت لي أبواب العوالم المخفية، لأدخلها ضاحكا مستبشرا بما لاحت لي الأفق من بشائر.. وما كان فعلي وقتها إلا أن أنتشي وأعلن الحداد عن حزني.. ألحدتُ شجني، ومزقت كل ما كان يلتصق بي من وحل الماضي، ثمّ استدرجت السير لأتوغل أكثر في عمق هذه الدنيا، باحثا عن ما تبقّى من ذرات الأمل أجمعها، لتكون لي أسباب كثيرة ومقنعة وأكيدة لأتشبّث بالتفاؤل وأزرعه..

فجأة؛ وبينما أنا منبسط في صفحات ذلك الليل المستنير.. فإذا بالكون يُضجَّ بصوت "الله أكبر.. الصلاة خيرٌ من النوم!".

في البداية؛ كنت أريد التوجه لمصدر صوت المؤذن أخبره أني لم أنم بعد.. كنت أتمنى لو أن الليل يطول بي ساعة إضافية، ثواني قليلة أخرى قبل الفجر ألتمس فيها عهدا من تلك المشاهد، أن تزورني مرّة أخرى، أو أن أجمع في هذا الوقت القليل أكبر قدر يمكنني جمعه من رذاذ الفرح.. لأرشه على كل من ألتقي وأخبره عن تلك الليلة المبهرة، لكن للأسف.. فالأمر لم يكن حينها بإرادة المؤذن ولا بإرادتي، ولم أستطع أن أطلب شيئًا ولو بمعاودة الزيارة، فقد اختفى كلّ شيء فجأة كفجأة البداية الّتي أتى عليها..

بعد انتظار دام دقائق طويلة، كنت أتوقع مرور شيء بالسماء يبشرني بموعد آخر، لكنه لم يظهر سوى شهاب مرّ مسرعا وكأنه يخبرني ألَّا أمكث طويلا لانتظار شيء لن يعود، بل أن أكون إيجابيا وأرتقب الأشياء الجميلة في أيّ لحظة، دون يأس منها أن طالت.. فما كنت شاهدا عليه في تلك الليلة أبلغ وأكفى من الوقوف جامدًا أبكي الراحلين والغائبين.. وما تمنيته ورغبته ولم يُكتب لي.

عاهدت نفسي ليلتها أن أكون سخيا في عطاءاتي لهذه البشرية وأي قرار آخر كان يكون لي إلا أن أسعى بكل طاقاتي لأعمل على تحقيق ذاتي!.

للكاتب: أنور خليفي (وطن مهترئ).