بسم الله الرحمن الرحيم
قرأت عن معلمين (غير مُـتـَـعلِّـمين) يُــحـرِّمون ما يشاؤون - دونما تمحيصٍ و لا تدقيق- ناسين أن من يُــفتي فكأنه يُــوقـِّـع عن الله تعالى ، كأنه يتكلم باسم الله سبحانه ، و ناسين أن التحريمَ كالتحليلِ تماماً ، لا يجوز الا بناءً على أدلةٍ قاطعةٍ بينه .
و الأدهى من ذلك والأَمَـرّ، أن هؤلاء يلـقِّـنون أبناءَنا آرائَهُم الدينية على أنها القولُ الفَصل ؛ فلا خلافَ حولها أبداً ، مع أن المسائلَ الدينيةِ الفرعيةِ : كالغناءِ و الرسمِ و اللباسِ و اللحية ، و غيرها كثيرٌ كثير ، مسائلٌ حولها خلافٌ لا ينتهي .
و المصيبةُ الأعظم ، أن أبنائَـنا المساكين لا يستطيعونَ مناقشةَ معلِّميهم لطبيعةِ أنظمتِـنا التربويةِ و التعليميةِ القائمة على التسليم و الـتَّـلـقـين ، فيقع الطفل – و حتى الفتى و الشاب – ضحيةً للمُتَـنَطِّعين المتشددين ، فيتبنى أبناؤنا آراء معلميهم ( الغير مُتَعلِّمين ) فنخسرُ بذلك مواهبَ كان يمكن لها أن تساهمَ في اصلاحِ أحوالنا البائسة .
و تابعتُ و اتابع - ان تيسر لي الوقت - الفضائيات التي تملكها هذه الدولةُ أو تلك ، أو يُموِّلُها هذا المستثمرُ أو ذاك ، فرأيت عجباً ؛ و استمعت الى "فتاوى" من نوعٍ آخر : فتاوى سياسية و فكرية و غيرها ، يصدرها أشخاصٌ (يوصفون) بـ "المثقفين" ، يخوِّنون هذه الجهةِ أو تلك ، و يحرِّضون على هذا الشخصِ أو ذاك ، بل و يحرِّضون الأجهزةَ الأمنية في بلدانهم على قمع المعارضين ، من اسلاميين و غيرهم .
و هذا شيءٌ عجيبٌ غريب ؛ فهؤلاء المثقفون (المزعومون) علمانيون و ليبراليون ، و من المفترض أن يدافعوا عن حقوقِ الانسانِ و عن الحريات ، و من الواجباتِ الملقاةِ على كاهلِهم ان يناضلوا من أجل تأسيسِ "مجتمعٍ مدني" حديث ، مجتمع يوقف تـغـوّلَ الدولةِ القمعية – و كل دولنا كذلك – فاذا بهم يسلمون قيادهم الى النظام ، فيستغلهم لتصفيةِ حساباته ! .
و بين هؤلاء و هؤلاء يقع مئاتٌ بل آلافٌ من الضحايا معظمهم من الشباب ، و قد أثر هذا عليَّ كثيراً ، فكتبتُ قصة عن " الضحايا" :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضحايا
الرسامةُ
على خلاف عادتها ، دخلت الى المنزل حزينة شاردة الذهن ، خطاها كانت بطيئة الايقاع ، بالكاد سمعت دعاء الأم لها بالعافية ، و بالكاد سمعت الأمُ جوابَ الصغيرةِ المتهدج :
الله يعافيك يا ماما ! .
و على خلاف عادتها ، لم تحدِّث الأمَ أخبارَ يومِها ، لم تحكِ لها عن أعجابِ معلماتِها بإجاباتِها ، و لم تقصص عليها قصصَ صاحباتها ... بل دخلت الى غرفـتِـها و أغـلـقـت بابَها ورائَها ! .
ألقت حقيبتَها الثقيلةَ على الباب ، و ألقت بجسدِها على السرير ، حدّقت في سقفِ الغرفة ، ثم نظرت الى جدرانها ، وقع بصرُها على اللوحاتِ المعلقةِ عليها ، كانت هي من رسمت هذه اللوحات ، فمنذ نعومةِ أظفارها أكتشف أهلُها موهبتَها و شجعوها ، و كذلك فعلت معلماتُ الرسم عاماً وراءَ عام ، كبرت هي و كبرت موهبتَها معها ، أصبحَ الرسمُ حياتها ، عالَمَها الخاص الجميل ، صاغت أحلامَها و همومَها ، و أفكارَها البريئة بالريشةِ و الألوان ، فكانت النتيجةُ ابداعاً انسانياً جميلاً لطيفاً معبراً .
نزلت عن سريرِها ببطء ، وقفت أمامَ لوحاتِها بِحُزن ، انحدرت الدموعُ من عينيها !
( من يحاول تـقـليدَ خلقِ اللِه فسيعذبه اللهُ عذاباً أليما ً )
قالت معلمةُ الدين بصرامة !
( لقد هداك اللهُ و أصبحتِ من الأخواتِ المؤمنات ، و عليك التوقف فوراً عن رسمِ الأشخاص و تصويرِ الوجوه ؛ هذا عملُ اللهِ و ليس عملك )
(!)
( لا نريد لهذا الوجهِ الجميلِ أن تحرقـَه النار ... )
(!)
لم تـنـبس الفنانةُ الرقيقةُ بكلمةٍ واحدة ؛ كانت مصدومةً خائفةً حائرة ...
و لأيامٍ لم تهنأ بلقمةٍ واحدة ، و لم تـنعم بليلةٍ هادئة؛ انها تعيشُ صراعاً رهيباً ؛ انها تحبُ اللهَ تعالى ، و تحبُ الرسم أيضا ً:
(الرسمُ فنٌّ راقٍ جميل - هذا ما تـعـلَّمتْهُ من مدرساتِ الفن - و اللُهُ جميلٌ يحبُّ الجمال - هكذا قال والدُها مراراً - اذن ، فلماذا يعذبنا اللهُ على عملٍ جميل ؟!)
تساءلت هي بحيرة ، ثم بكت بحرقـة ، ثم صـرَخَـت بـقـوة ، ثـم هـدأت ... هدأت الرسامةُ فنامت ... نامت الرسامة ! .
الفنان
"الفنانُ" لقبه منذ الصغر ، منذ أن بدأَ يعزفُ على العودِ القديم ؛ عود جدِّهِ ثم أبيه ، و كبر ، و كبرت موهبتُه معه ، و صقـلَها بالدرسِ في معهد الموسيقى ...
لكن حياتَه تغيرت منذ التقى بـ "نذير" ، أصبح الفنانُ أكثرَ الـتـزاماً من وقـتها ؛ انـتـظم في صفوفِ المحافظينَ على صلاةِ الجماعة ، ثم التحق بـ "الجماعة" ، أحبَّ فيها الشبابَ البريء الحالِم ، الناقِم على الفساد ، الدَّاعي الى اقامة "الدولة الفاضلة" على الأرض ...
ثم كانت الصدمة عندما طـُــلِب منه تركَ المعهد ، و الاقلاعِ عن العزف :
( الموسيقى حرام ، و انت - و الحمد لله – أصبحت من الملتزمين ، فعليك تركُ كلِّ عادات الجاهلية )
( ! )
( أعرفُ مقدارَ حـبـك للعود ، لكن لا يؤمنُ أحدُكُـم حتى يكونَ هواهُ تبعاً للشرع ؛ يحبُّ ما أحلَّه اللهُ ، و يكرهُ ما حرَّمه ، ان هذه الدنيا فانية يا أخي و ما عندَ اللهِ أبقى ).
( ! )
لم ينبس الفنانُ ببنتِ شفتِه ! و من وقـتِها و هو حائر ؛ انه يحبُّ اللهَ ، و يحبُّ العودَ أيضا .
تحَسَّـس العود ، مدَّ أصابعه المرتعشةَ فغازل اوتاره و قال ، قال مخاطبا العود :
( يا الله ما أروعَ ملمسك ، ما أحلى مداعبةَ أوتارك ... آه يا شريكي في فرحتي ، يا نديمي في وحدتي ، يا عزائي في كربتي ... بل آه يا من كان شريكي و نديمي و عزائي ... آه يا من كان كذلك )
ثم بكى الفنان بحرقة ، ثم صرخ الفنان ، ثـم هـدأ ، هدأ الفنان فنام ... نام الفنان ! .
***
الرسامةُ و الفنان ، كلاهما بكى كبكاءِ من فارقَ حبيباً مفارقةً أبدية ، و كلاهُما صرخَ صراخَ من انـتُـزِع عضوٌ من أعضائِه ... ثم هدأ الاثنان - الرسامةُ و الفنان - هدوء المسـتـسـلِم لقدرِه ، ثم نام الاثـنـان – الرسامة و الفنان - ناما نومةَ من فقدَ وعيه ! .
***
"غلبان"
كانت الأشهر الماضية هي الأسوأ في حياة " غلبان " ؛ لقدْ فَـقَـدَ فيها كثيراً من رفاق دربه ، قـُـتلوا في هجوم انتحاري في شهر رمضان المبارك !
ها هو يجلس شاردا امام "التلفزيون" ، يُقلِّبُ المحطات بشكل آلي رتيب ؛ لم يعد للدنيا طعمٌ بعدهم ...
( هؤلاء ارهابيون سيدمرون البلد ، يجب أن يُضرَبوا بدون رحمه ...)
لفت كلام "المثقف الكبير" هذا انتباه غلبان ، حدَّق ، و سمع :
(يجب تجفيف منابعهم الفكرية ، يجب منع أي عمل سياسي على أساس ديني ، هذا هو الحل ، و يجب فرضه بكل حزم ، بالقوة ان لزم الأمر ... )
رن الهاتف ، كتم " غلبان " صوت التلفاز متبرماً :
...
( حاضر ) ...
( عُلِم و يُنفَذ ) .
قال غلبان ، ثم انطلق لفضِّ اعتصام سلمي يطالب بالإفراج عن المعتقلين السياسيين ،
رفض المعتصمون الاوامر ، تجادلوا مع الامن ،
(الكلام لن ينفع مع هؤلاء الارهابيين ) - قال "غلبان" – و أصدر أوامره بفض الاعتصام بالقوة ،
شاب ملتح غطت الدماء وجهه ، فتاة منقبة حاولت مع آخرين الدفاع عنه فضُرِبَت و ضُرِبوا ... اطلاق للغاز ... اطلاق للرصاص ...
قُتِـل الشاب ، و قُـتـِـلت الـفـتاة ...
***
كان الشاب فنانا ، و كانت الفتاة رسامة ...
خسرنا الرسامة ،
و خسرنا الفنان ،
و خسرنا "غلبان" ، الانسان ! .