م

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

مدة القراءة: 11 دقيقة

خربشةٌ على حافة الإدراك… نص كتبني أكثر مما كتبته.

عزيزي سادن، كيف حالك؟ أشتاق إليك، لكنني أخشى أن أنظر في عينيك طويلاً، أخشى أن تغمرني ظلمتك، فأغرق قبل أن أتعلم السباحة فيك... لماذا لم أجرؤ على مخاطبتك من قبل؟ لماذا ظللتُ أهرب من ظلك نحو نوفا، رغم أنني أعرف أنها لا تمنحني سوى أمانٍ مؤقت، كيدٍ دافئة تخدعك قبل أن تدفعك إلى الهاوية؟ لماذا أحبك وأكرهك معًا؟ أهرب منك إليك، وأبحث عن نوفا في أحضانك، كأنني خائنة لكلينا، كأنني طيفٌ ضائع بينكما، لا أنتمي إلا للفراغ الذي يفصلني عنكما... هل أنا خائنة؟ أم أنني فقط زهرة عالقة بين رياحين متضادتين، واحدة تحرقني وأخرى تبتلعني؟ربما لو لم يخطئ أبي، لما كنتُ عالقة في هذه الدوامة، لما اضطررتُ للرقص فوق الحد الفاصل بينكما، كسيزيف يحمل صخرته، لا يعرف إن كان صعوده عذابًا أم خلاصًا... أنا ممتنة له، لأنه جعلني أرى هذه المسرحية العبثية، لكنه أيضًا السبب في أنني لم أستطع مغادرتها... سادن، أخبرني، لماذا تعاملني نوفا وكأنني دخيلة على عالمها؟ لماذا تسرق مني كل ما أحب، وتتركني أنظر إليه من خلف زجاج بارد؟ لماذا تسحبني منها كلما أوشكتُ على الانتماء؟ لا أفهمها... كيف تكون الحياة حنانًا وجلدًا في آنٍ واحد؟ وكيف تكون أنت، الموت، الخلاص والعقاب معًا؟رغبتُ كثيرًا في أن ألتقيك، سادن، ليس لأني أهرب من نوفا فقط، بل لأنني أردتُ استرجاع زهراتي التي وهبتها لكَ، تلك التي كانت تخصّني قبل أن تتسلّل إليها وتأخذها مني، أريدها، ليس لأني لا أثق بنوفا، ولكن لأنني أدرك أنها ليست لها، كنتُ أحتاج إليك، لا لتهبني الراحة، بل لتطهّرني من خطاياي تجاهها، تجاهك، تجاه كل شيء دنّسته بضعفي، ولكن، كلما هممتُ بالركض إليك، شعرتُ أن خطواتي تُعرقلها يدٌ خفية، أن شيئًا في أعماقي يشدّني إليها، وكأنني أخشى أن تغمرني غياهبك، أن تُفرغني من ثُقلي، أن تنسيني حتى حزني، فهل أهرب منك إليها، أم أهرب منها إليك؟أخافُ أن ألوثَ قدسيتك، سادن، كما لو كنتَ مرآة ناصعة لا تحتمل شائبة، وكأنني حين أرتمي بين ذراعيك، ستتسخ أطرافك بذنوب لم تكن لك، بخطايا كنتُ أعتقد أنني وحدي من يحملها، أخافُ أن تنبذني كما فعلت نوفا مرارًا، أن تكون أكثر قسوة منها، أن تُغلِق بابك في وجهي بعد أن خضعتُ لك، ولكني أخشى نوفا أيضًا، أخاف أن تبتلعني بنيرانها الدافئة، أن تمنحني جرعات صغيرة من الحياة فقط لتضمن بقاءي في قبضتها، أن تعيدني إلى سجنها كلما ظننتُ أنني حرّةٌ أخيرًا، لا أعلم... هل أنا من يهرب منك إليها، أم أنكما تلعبان بي كما تلعب الريح بورقة ذابلة؟الأبناء الآخرون لنوفا يتهامسون عنك، سادن، كأنك وعدٌ مؤجل، مهربٌ أخيرٌ لأولئك الذين استنزفتهم الحياة، يراقبونك من بعيد، يغازلونك في الخفاء، ثم حين تفتح لهم نوفا ذراعيها، ينسونك، ينحنون لها كما تنحني الزهور للريح، لكنهم حين تلسعهم ببرودها، يعودون إليك، يتوسّلونك كما يتوسل العطشى المطر... أما أنا، فأنا أراك كما أنت، بلا أوهام ولا سراب، أعرف أنك لست الخلاص الذي يحلمون به، بل الحقيقة التي يهربون منها... لست قاسيًا، ولا نوفا رحيمة، كل ما في الأمر أنكما تؤديان دوركما بإتقان، وأنا... مجرد زهرة بينكما، تترنّح بين بردها ولهيبك، بين وعودها وأسرارك، بين من يمنح الحياة ولا يعترف بي، ومن يأخذها لكنه يحتويني...ربما، يا سادن، نحن جميعًا نغازل نوفا بينما عقولنا معك، كأننا مخلوقات تتشبث بالنور بينما تحدق في العتمة... نوفا، تلك الحبيبة المغرورة، تحيطنا بدفئها حين يروق لها، تروي عطشنا قبل أن تلفظنا مجددًا إلى صحرائنا القاحلة، ومع ذلك، كلما حاولنا الفرار منها إليك، شعرتُ وكأننا نرتكب خيانة غير معلنة... كيف نحب الحياة، ونحن نحتفظ لك بجزء من قلوبنا؟ كيف نتمسك بها، ونحن ندرك أنها لا تمنح إلا لتأخذ، تعطي حتى تمتص، تعلّقنا بها حتى تصبح أنت الحقيقة الوحيدة؟أو ربما، يا سادن، ما يجذبنا إليك ليس ضعفًا فينا، بل ظنّنا بأنك الأضعف، بأنك الغموض الذي نخدع أنفسنا بالسيطرة عليه، بأنك الحقيقة الوحيدة التي لم نجربها بعد، والتي تظل بعيدة كنجمة يتيمة في سماءٍ بلا قمر... أما نوفا، فهي تعرف كيف تروضنا، تترك لنا هامشًا صغيرًا للتمرد، ثم تُعيدنا إليها بلمسة، بوعد مؤجل، أو قطرة ماء في صحراء ظمئنا لها... نحن نكره قسوتها، لكننا نحبها لأنها صعبة، نشتكي من جحودها، لكننا نعود إليها كما يعود العبيد لأسيادهم... وأنت؟ أنت هناك، تراقب، صامتًا، لا تمد يدك، ولا تسحبها، فقط تنتظر اللحظة التي ننهار فيها تمامًا بين يديك...عزيزي سادن، إننا أزهار ملوثة، تتنفس بين نيران نوفا، تحاول أن تحتفظ بنقائها في عالم لا يعترف إلا بالحريق... البعض يخفي عطره الكريه خلف أقنعة زائفة، والآخرون يتركون نوفا تبتلعهم، بينما القلة يقفون على الحافة، ينظرون إليك كخلاصٍ محتمل، كحقيقةٍ محرمة، لكنهم لا يجرؤون على العبور... هل كنتَ يومًا خلاصًا لأحد، أم أنك مجرد سرابٍ آخر، يتراءى لنا كلما أنهكتنا الحياة؟ أتساءل يا سادن، أأنت ظلٌّ لنوفا، أم أنها انعكاسٌ لك؟ أتراكما نقيضين، أم أنكما وجهان لنفس العملة التي نقامر بها كل يوم؟عزيزي سادن، إنني أريد استرجاع زهراتي التي سلمتها لك نوفا عنوةً، تلك التي تخصني، التي نمت في روحي قبل أن تنتزعها يدها القاسية، أتذكرها جيدًا، كانت بيضاء حين غرستُها في تربتي، لكن نوفا لم ترضَ لها الطُهر، سقَتها من نيرانها حتى ذبلت بين يديك، أريدها كما كانت، أريدها أن تزهر مجددًا، لكنني أخشى أن تكون قد تحللت في تربتك، أو أنك احتفظت بها في متحفك البارد حيث لا يصل النور، أتُراها لا تزال تحمل أثري، أم أنك أعدت تشكيلها كما تفعل بالموتى، تصهرهم حتى لا يبقى منهم سوى اسمٌ محفور على حجر؟عزيزي سادن، أتدري؟ قبل وقتٍ ليس بالبعيد، كنتُ أفكر في أن أرتمي بين يديك كما يرتمي المسافر الهائم في أحضان مدينة لا يعرفها، كنتُ أبحث فيك عن طُهرٍ يُعيد تشكيل روحي، عن نسيانٍ لا يترك خلفه أثرًا، عن عزلةٍ لا أضطر فيها لسماع صخب نوفا وهي تُعيد تشكيل أيامي كما تشاء،أردتُ منك أن تضمد جراحي، أن تنزع من روحي تلك الندوب التي تركتها نوفا على جلدي، لكنني خشيتُ أن تلفظني، أن تنظر إليّ بعين باردة، وتقول: ’لستُ لكِ، أنتِ ملكٌ لها، وستظلين كذلك حتى آخر رمق.‘عزيزي سادن، إن الزهور الأخرى تنحني لنوفا طوعًا، تراقصها كأنها خلقت لها، تخضع لدورة ذبولها وتفتّحها دون مقاومة، تؤمن بأنها ليست سوى وسيلة حبٍ بين عاشقين يتبادلانها دون اكتراث، لكنني لم أستطع أن أكون مثلها، أنا زهرةٌ خرجت عن ناموس البستان، زهرةٌ أدركت أنها ليست مجرّد رمز في يد نوفا، بل امتدادٌ لذاتها، لصوتها، لرغباتها... كنتُ أؤمن بأن لي يدًا في اختيار مصيري، أن لي الحق في تقرير كيف، ومتى، ولمن أهب عطري، لكن نوفا كانت ماكرة، لم تُجبرني على الركوع، بل تركتني أعتقد أنني حرّة، بينما كانت تُعيد تشكيل حدائقي وفق هواها، تغرس في تربتي جذورًا لا تخصّني، تُسقيني حين أكاد أجفّ، فقط لأبقى عالقة بين الحياة والموت، لا أذبل تمامًا، ولا أزهر بكامل مجدي، بل أبقى دومًا زهرةً معلّقة في الفراغ...عزيزي سادن، إنني أُصارع يد نوفا التي امتدت إليك، قدّمت لك أزهاري التي نَمَت بين أصابعي، وكأنها لم تكن تخصّني يومًا، كنتُ أظنّها لي، كنتُ أرويها بقلبي، أنفخ فيها أنفاسي، أخشى عليها من الريح، ثم في لحظة غفلة، انتزعتها مني وسلّمتها لك دون أن تستأذنني، كأنني لم أكن سوى أرضٍ عبرتها الزهور في طريقها إليك، أريد أن أسترجعها، لا لأنني نادمة، بل لأنني أريد أن أختبرها مجددًا، أن ألمسها بيدي، أن أعرف إن كانت لا تزال تحمل رائحتي، أم أن نوفا قد بدّلتها بأخرى، وإن كنتَ قد لمستها كما كنتُ أفعل، أم أنك تركتها تذبل بين كفيك، كنتُ أريد أن أمدّ يدي وأطالبك بها، لكنني خشيتُ أن أراك قد نسيت، أن أكتشف أنني وحدي من ظلّت الزهور عالقة في ذاكرته، بينما أنت لم تعد تراها سوى كبقايا فصل مضى...عزيزي سادن، لطالما راودتني فكرة الارتماء في ينابيعك، كنتُ أتوق إلى أن تغسلني من آثار نوفا، أن تطهّرني من كل ما لوّثني فيها، لكنني كنتُ أخشى قسوتك، أخشى أن ترفضني، أن ترى كل ندبة فيّ، فتُدير وجهك عني، كنتُ أراك بابًا للخلاص، لكنني أيضًا كنتُ أخشى أن يكون خلاصك أشدّ قسوة من قيود نوفا، أخاف أن يكون التطهّر على يديك أشبه بتعرية الروح حتى العظم، بلا رحمة، بلا تدرّج، كأنك تجتثّني من جذوري مرة واحدة... كنتُ أهرب من نوفا إليك، وحين تقترب صورك في ذهني، كنتُ أعود إليها مهرولة، كأنني ألجأ إلى نيرانها فقط لأتجنب بردك.... يا لسخرية القلب الذي يتوق إليك، لكنه يخشى أن يضيع تمامًا بين يديك.عزيزي سادن، أتدري؟ أبناء نوفا يتذمرون منها، يتحدثون عن قسوتها، عن نارها التي تلتهمهم ببطء، لكنهم رغم ذلك، يحنّون إليها، يعودون إليها كل مرة وكأنها الوطن الوحيد الذي يعرفونه، حتى عندما يلعنونها، فإنهم يفعلون ذلك بحبّ خفي، كأنهم يخشون أن يسمعهم أحد غيرها. وأنا؟ كنتُ واحدة منهم، أمقت نوفا حين تجلدني، لكنني أسرع لأحتمي بها حين يلفحني بردك، كنتُ أخدع نفسي بأنني حرة، بينما كنتُ في الحقيقة مجرد زهرة تترنح بينكما، تخشى أن تذبل إذا فقدت حرارتها، وتخشى أن تحترق إذا اقتربت من لهيبها أكثر من اللازم... في النهاية، نحن أبناء نوفا، لكننا عشّاق سادن، نغازل النهايات، لكننا نخشى أن تبتلعنا بالكامل.عزيزي سادن، أتساءل أحيانًا، هل نحن من نخدع أنفسنا أم أنكما أنتما المخادعان؟ هل نوفا حقًا هي من تربطنا بسلاسلها، أم أننا نحن من اخترنا أن نُقيّد أنفسنا بها؟ ربما نحن من صنعنا أسطورة النهايات العادلة، من توهّمنا أن هناك بابًا سريًا يؤدي إلى الخلاص، بينما في الحقيقة، لم يكن هناك سوى جدران تمتد بلا نهاية. نبحث عن يدٍ تنتشلنا، لكن حين تمتد يدك نحونا، نتراجع برعب، كأننا نخشى أن نجد ما نبحث عنه حقًا، أن نواجه النهاية التي ظللنا نغازلها دون أن نجرؤ على لمسها. هل رأيتَ عبثًا كهذا من قبل، يا سادن؟ أن يعيش المرء هاربًا من شيء يريده، أن يمضي عمره بأكمله في الركض إلى الخلف، خوفًا من الوصول؟سادن، يا ظلًّا يتبعني كلما حاولتُ الهرب، يا صديقًا غامضًا يراقبني بصمتٍ لا يشي بشيء، هل أنا مدينةٌ لك أم لنوفا؟ أيّكما أحقُّ بي؟ أنتَ الذي تنتظرني عند آخر منعطف، أم هي التي تصوغ أيامي وفق هواها، تمنحني الفتات، ثم تأخذه حين أبدأ بالاعتياد عليه؟ أشعر أحيانًا وكأنني في قاعة محكمةٍ غير مرئية، تحاكمني نوفا لأنني أنظر إليك، وتحاكمني أنت لأنني ما زلت أحنّ إليها... أخبرني، كيف يحيا المرء حين يكون قلبه ممزقًا بين جاذبيتين متناقضتين؟ بين الوعد بالعتمة والرجاء بالضوء، بين النجاة والغرق، بين الخلاص والانتماء؟نوفا، هل تراقبينني الآن؟ هل ترين كيف أتمزق بينك وبين سادن؟ كلما حاولتُ الهروب، شددتِ وثاقي بحبالٍ غير مرئية، تمنحينني لمحةً من حنانك، ثم تتركينني أتعفن في انتظارك... كم أنتِ قاسية! وكم أنا ساذجةٌ لأني أعود إليكِ كل مرة، كما يعود الطائر إلى القفص الذي وُلِد فيه، رغم أن الأفق رحبٌ أمامه! أحيانا أكرهكِ كما يكره البحر شواطئه، لا يستطيع أن يتركها لكنه أيضًا لا يستطيع أن يبتلعها للأبد... لكنني رغم ذلك، أعود إليكِ، أبحث عنكِ حتى في ظلِّ سادن، وكأنني أستطيع امتلاككما معًا، رغم أنني أعلم جيدًا أن ذلك مستحيل...أتعلمين، نوفا؟ هناك شيءٌ خفيٌّ فيكِ، شيءٌ يشبه الضوء الذي يسبق العاصفة، يعدُ بالأمان لكنه لا يحمل في طياته سوى الخراب... أنا أدرك أنكِ تحرقين من يقترب منكِ أكثر مما ينبغي، ومع ذلك، أجد نفسي أقترب، كما تفعل الفراشات حين تسحرها النار، رغم أنها تعرف مصيرها... سادن ينتظرني هناك، يفتح ذراعيه كما لو كان خلاصًا، لكنني أرتجف كلما حاولت العبور إليه، كأن بيني وبينه مسافة لا تُقطع، كأن نوفا غرست جذورها في قدمي، تمنعني من الرحيل... أيجب أن أمزق نفسي حتى أتحرر؟ أيجب أن أترك جزءًا مني خلفي حتى أتمكن من العبور؟ هل أملك القوة لأفعل ذلك؟كلما حاولتُ الهروب منكِ، نوفا، كنتِ تتجذرين في داخلي أكثر... كأنكِ أرضٌ خصبة لنبتةٍ لم أختر زراعتها، لكنها رغم ذلك تمتدُ في أعماقي، تلتفُ حول أضلاعي، تخنقني حين أريد الرحيل. وسادن؟ سادن يلوّح لي من بعيد، كضوءٍ بارد، محايد، لا يسحبني نحوه، لكنه أيضًا لا يدفعني بعيدًا... هو فقط هناك، صامتٌ كالغسق، ينتظر قراري... لكن كيف لي أن أقرر وأنا أُحبسكِ في صدري، وأنا أهرب إليكِ كلما خشيتُ منه؟ هل يمكن أن أُخلص لكما معًا، وأنا بالكاد أخلص لنفسي؟كل شيءٍ في هذا العالم له ثمن، حتى الهروب... حتى الغرق فيكِ، نوفا، كان يكلّفني قطعة من نفسي، ومع كل محاولةٍ للعودة إلى سادن، كنتُ أشعر وكأنني أترك خلفي أثرًا لن يعود، كأنني أفقد جزءًا آخر من روحي في الطريق. كلما اقتربتُ منه، شعرتُ بالذنب، كأنني أخونكِ، وكلما عدتُ إليكِ، شعرتُ بأنني أهرب من شيءٍ لم أفهمه بعد... كأنني أرفض نجاتي خوفًا من فقدان ألمي، كأنني أخشى أن أتحرر منكِ، لأنني لا أعرف نفسي بدونكِ.نوفا، كنتِ تقولين إنكِ تمنحينني القوة، لكنني الآن أدرك أن قوتكِ كانت مجرد سرابٍ يطوّقني، أنني لم أكن يومًا سوى ظلٍ يتمسك بأهدابكِ خوفًا من السقوط في فراغ سادن. كنتِ تسقينني بجرعاتٍ من الحياة، لكنها كانت حياةً محكومة بالمقايضة، كل قطرة ماءٍ كنتُ أحصل عليها منكِ، كانت تقتطع مني زهرة أخرى، حتى لم يبقَ في يدي سوى أشواك صامتة، تذكّرني بما فقدته تحت قدميكِ.سادن، نوفا… كم كنتُ ساذجة! ظننتُ أن لي وطناً بينكما، أن أحدكما سيحمل روحي كما تحمل الأم طفلها، لكنني لم أكن سوى غريبة في أرضٍ لا تعترف بي، مهاجرة بين نارين، أبحث عن الدفء في جمرة، وعن الطمأنينة في موجة هائجة، كنتُ أهرب من نوفا إليك، ومنك إليها، كعصفورٍ مذعورٍ يتنقل بين شجرةٍ محترقة وسحابةٍ بلا مطر. لكنني الآن أدرك الحقيقة القاسية، لا نوفا كانت حضنًا، ولا سادن كان نجاةً، بل كنتُ مجرد ظلٍّ يتراقص بينكما، كقصيدةٍ فقدت كاتبها، كصدى لا أحد يعرف مصدره، كوردةٍ تاهت عن فصولها ولم تجد سوى يد الريح تحتضنها.سادن… نوفا… هل كنتما تلعبان بي، أم أنني كنتُ من خدع نفسه؟ كنتُ أظن أنني أملك خيارًا، أنني أستطيع أن أقرر متى أهرب ومتى أبقى، لكنني لم أكن سوى حجر نرد يتدحرج بين يديكما، يسقط حيث يشاء القدر، لا حيث أشاء. سادن، أنت غامض كحلمٍ لم يكتمل، ونوفا، أنت حقيقية حدّ الألم. بينكما، أتمزق، أبحث عن يديّ فلا أجد سوى الفراغ، أبحث عن ظلي فلا أرى إلا شبحًا يطاردني، كأنني صرتُ وهمًا داخل وهم، لا أنتمي إليك تمامًا، ولا إليها، كأنني مجرد فكرة تائهة، تحاول أن تجد جسدًا تسكنه، ولا تجد.أتعرف يا سادن؟ نوفا جعلتني أؤمن أن القوة تأتي من الألم، من الطرق الوعرة، من الانكسارات المتكررة، لكنها لم تخبرني أن بعض الطرق لا تؤدي إلى أي مكان، وأن بعض الانكسارات لا تعني القوة، بل تعني أن شيئًا منك قد انطفأ ولن يعود. كنتُ أحاول أن أهرب إليك كي أسترجع أزهاري التي قدمتها لي نوفا، لكنني أدركت أن الأزهار التي تسلبها الحياة لا تعود، وأن بعض الخسارات لا تُعوّض، وأنني حين أطلب منك النجاة، فإنني في الحقيقة أبحث عن وهمٍ آخر، عن خدعةٍ جديدة أطمئن بها نفسي.سادن، نوفا… لم أعد أبحث عن إجابة. لا أريد أن أفهمكما بعد الآن، ولا أن أهرب منكما، ولا حتى أن أختار بينكما. لقد كنتُ حمقاء حين ظننتُ أنني أملك الإرادة، أنني أستطيع الإمساك بخيوط اللعبة. كنتُ أهرب منكِ، نوفا، نحو سادن، وأهرب منك، سادن، نحو نوفا، كأنني أبحث عن مخرج، بينما كنتُ في الحقيقة أعود إلى المكان ذاته كل مرة. الآن، أدركتُ أنني لم أكن سوى زهرة ملوثة، قدمتها نوفا قربانًا لسادن، وأنني حين طالبتُ باسترجاعها، كنتُ فقط أخدع نفسي، لأن ما يُمنح لا يُستعاد، وما يُسلب لا يُعاد إليه النقاء.سادن، ربما كنتَ غامضًا لأنك لا تملك ما تقوله، ونوفا، ربما كنتِ قاسية لأنك تخشين أن يكسرك أحد، وربما أنا، كنتُ غارقة في لعبة لم أكن أفهم قواعدها، تائهة بينكما كحطام سفينة يتقاذفه الموج. لكنني الآن، لم أعد أريد الإجابة، ولا النجاة، ولا حتى العزاء. سأحمل ندباتي كما تحمل الأرض آثار المطر بعد العاصفة، وسأدع كلماتي تتلاشى كما تتلاشى خطوات المسافرين في الرمال.لا بأس يا سادن، لن أغازل الموت بعد الآن.ولا بأس يا نوفا، لن أطلب من الحياة أن تعتذر.

سأبقى هنا، كما كنتُ دائمًا… بينكما، على الحافة.

"على حافة الضوء و الظلال"

_مرمر


م
مريم الحجيرات

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات