م

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

مدة القراءة: 5 دقائق

"حين أناديك، و لا يرّد سوى الفراغ"

أبي العزيز،كيف حالك في الجهة الأخرى من هذا العالم المائل؟ أما زلتَ تذكرني، أم أن الأرواح حين تعبر النهر العظيم تنسى أصحابها؟ مرّ عامان، لكنّ الزمن ظلّ معلقًا هناك، في اللحظة التي أغلقت فيها عينيك، في تلك الثواني التي صار فيها جسدك صامتًا، بينما كنتُ أصرخ داخلي دون صوت... رمضان عاد، لكنّه يبدو شاحبًا، كقمرٍ أكلتْه الغيوم، كمائدةٍ تحلّق حولها الغرباء بينما ظلّ مكانك مظلّلًا بحضورٍ لا يُرى... كنتُ ساذجة، ظننتُ أن الغياب مؤقت، وأنك ستعود كما يعود المسافرون، كنتُ أبحث عنك في أحلامي، في الطرقات التي عبرتها يومًا، في الأبواب التي ظلت مواربة كأنها تنتظر يدك لتدفعها، كنتُ أتوهم أنك تختبرني، تراقبني من خلف ستائر الغيب، تنتظر أن أقول: "لقد كبرت، أصبحت قوية، لم أعد تلك الطفلة التي تتمرد عليك." لكنني لم أكبر يا أبي، لم أصبح قوية، ما زلتُ تلك الطفلة، ما زلتُ أرفع رأسي نحو السماء في الليل، أبحث عنك بين النجوم، وأخشى أن أغمض عينيّ فيختفي وجهك من ذاكرتي...الموت لم يأخذك وحدك، يا أبي، لقد أخذني معك، لكنّه تركني هنا، نصفُ حيّة، نصفُ غائبة...أبي العزيز،كنتُ أخاف شيئًا واحدًا بعد رحيلك، أن أعتاد غيابك، كنتُ أخشى أن يصبح اسمك مجرد صدى بعيد، أن يتحوّل حزني عليك إلى شيء يشبه لون الجدران في البيت، مألوفًا لكنه غير ملحوظ، كنتُ أخشى أن أستيقظ ذات صباح، فأجدني لم أفكر بك قبل أن أفتح عينيّ، أن يمرّ يومٌ كامل دون أن أتوقف في منتصفه لأقول: "كان أبي هنا."أحاول أن أقاوم، أن أبقيك حيًّا في ذاكرتي، لكنّ الأيام غادرة، تسرق منك تفاصيلك الصغيرة، نبرة صوتك، طريقة ضحكتك حين تحاول إخفاء تعبك، صرتُ أبحث عنك في الصور، وكأنني أتمسك بأطراف ثوبك قبل أن تذوب في العدم، لكنك تبهت يا أبي، وكلما حاولتُ أن أحتفظ بك، تسربتَ من بين أصابعي كحفنة ماء...أبي العزيز،هل تعلم أنني الآن، وفي كل لحظة، أدرك كم كنتُ بحاجة إليك؟ كيف كنتُ أبحث عنك في كل مكان حتى حين كنتُ أظن أنني لا أحتاجك؟ الآن، كل كلمة كنتَ تقولها لي تلتف حول قلبي كما لو كانت خيوطًا من ضوء، وكل لحظة كنا نضحك فيها معًا أصبحت كقطرة ماء في صحراء عمري... أعترف لك، يا أبي، أنني نادمة، نادمة على كل لحظة لم أقدّر فيها وجودك بجانبي، نادمة على كل كلمة قسوتُ فيها عليك، على كل لحظة كنتُ أظن فيها أنني كبرت بما يكفي لأكون بعيدة عنك، كان لديك كل شيء لم أكن أراه، كان حبكِ لي هو شريان الحياة الذي مرّ أمام عينيّ بينما كنتُ أظن أنه مجرد نسيم عابر... الآن، أرى كل شيء في وضوحٍ مؤلم، أدركتُ في غيابك كم كنتُ أحتاج إليك، بينما كنتُ أظن أنني لا أحتاج سوى نفسي...أبي العزيز،هل تعلم أنني لم أنفذ وصيتك؟ لم أكن كما أردتَ لي أن أكون، ما زلتُ أتغيب عن محاضراتي، وما زلتُ أهرب من كل شيء كما كنتُ أفعل حين كنتَ هنا، وكأنني لا أجيد سوى أن أخذلك، يؤلمني أنك منحتني كل تلك الثقة، وأنا لم أكن جديرة بها، كأنني خذلتك مرتين: مرة عندما رحلتَ وتركتني وحيدة، ومرة عندما لم أكن قويةً بما يكفي بعدك... أتذكر عندما كنتَ تقول إنني سأفهم كل شيء حين أكبر؟ كبرتُ يا أبي، صار عمري واحدًا وعشرين، لكنني لم أفهم شيئًا سوى أن العالم أقسى مما كنتُ أظن... ما زلتُ تلك الطفلة المشردة داخليًا، التي تقف خلف زجاج الحياة، تنظر إلى الأطفال المدللين وهم يلعبون بأمان في حضن آبائهم، بينما هي تسحق أسنانها على شفتيها كي لا تبكي... الحياة بعدك كانت أصعب حتى من كبش العيد يا أبي، صرنا ننتظر الجزار أو الجار ليذبحه، بينما تتكاثر الأيدي التي تريد أن تذبح مصيري، حتى الأوغاد الذين لم يتجرؤوا على التنفس في حضرتك، صاروا يتحدثون عني وكأنني متروكة للريح... هل كان يجب أن أرحل معك كي لا أتعلم كل هذا القبح؟أبي العزيز،بعدك، صار الليل طويلًا، ليس لأنه ممتدٌّ بالساعات، بل لأنه لا ينتهي داخلي... حين كنتَ هنا، حتى في أشد لحظات ضعفي، كنتُ أنام أخيرًا، ولو بعد تعب، ولو بعد بكاء، أما الآن، فأنا أخشى حتى أن أغمض عينيّ، كأن النوم صار خيانةً أخرى ضدك، كأنني لو استسلمتُ له سأفتح عيني في عالم لا يعرفك، لا يتذكرك، عالم قرر أن يمضي من دونك وأنا وحدي العالقة في الخلف...لم يكن الأرق وحده ما زارني بعدك، بل الخوف أيضًا، ذلك الذي يقتات على روحي ببطء، صرتُ أخشى أن يؤذيني أحد، أن يستغل غيابي من كان يخشى حتى النظر إليّ حين كنتَ هنا... كنتَ درعي الذي لم أدرك قوّته إلا حين سقط عني، كان العالم مقسمًا إلى نصفين: نصف يحتويك، كان يمكنني أن أختبئ فيه، ونصف آخر مليء بالذئاب، كنتَ تحميني منه، آما الآن، لم يعد هناك إلا النصف الآخر، وأنا وحيدة في وسطه، بلا جدار، بلا ملجأ، بلا يد تمتدّ إليّ حين أرتجف... العالم يا أبي بلا كتفك، هشٌّ جدًا، وأنا أكثر هشاشةً مما كنت أظن... أبي العزيز،لم أزر قبرك منذ عام، وعدتك أنني سأزورك دائمًا، لكنني لم أفعل، ليس لأنني نسيتك، بل لأنني أخاف... أخاف أن أجلس هناك ولا أسمع صوتك، أن أتحدث إليك ولا يصلني أي صدى، أن أضع يدي فوق قبرك ولا أشعر بنبض الأرض تحتها، لا أريد أن أصدق أنك تحت التراب وأنا فوقه، أن هناك سماءً تفصل بيننا، وأنا لا أستطيع أن أصرخ بما يكفي لأجعلها تنشقّ وتعبرني إليك...أبي، أريد أن أزورك لكن ليس كما يفعل الآخرون، لا أريد أن أقف هناك وأتلو الفاتحة ثم أعود إلى حياتي كأن شيئًا لم يكن، أريد أن يُفتح لي قبرك، أن أستلقي بجانبك، أن أضع رأسي على صدرك كما لم أفعل من قبل، أن أبكي حتى أغرق، حتى تبتلعني الأرض وأختفي في حضنك، حتى تندمل كل جراحي ثم أغادر... أو لماذا أغادر؟لماذا عليّ أن أترك المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالأمان؟أبي العزيز،أتدري ما يؤلمني أكثر من كل شيء؟ أنني لم أقل لك يومًا كم أحبك، لم أعترف لك بحجمك في حياتي إلا بعد أن غبت... ترى، لماذا علينا أن ندرك قيمة الأشياء فقط بعد فقدانها؟ لماذا لم أكن أستطيع أن أقولها لك وجهًا لوجه، دون أن يعترض كبريائي الطريق، دون أن أحتاج إلى غيابك كي أعرف وزنك الحقيقي في قلبي؟أبي، لو أنني أستطيع فقط أن أراك مرة أخرى، لا أريد شيئًا أكثر، لا حديث، لا عناق، لا اعتذارات، فقط أنظر إليك، وأترك عيني المكسورة تتحدث بدلاً عني، علّك ستفهم، كما كنت تفهمني دائمًا، حتى حين كنتُ أظن أنك لا تفعل، ربما... ستسامحني، وربما، فقط ربما، سأستطيع أن أسامح نفسي....

"حين أناديك، ولا يردّ سوى الفراغ"

مرمر



م
مريم الحجيرات

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات