المسألة في حكم البسملة[1]

سبب الخلاف :

 قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى(التسمية لو كانت من القرآن لكان طريق إثباته إما التواتر أو الآحاد والأول باطل ، لأنه لو ثبت بالتواتر كون التسمية من القرآن لحصل العلم الضروري بأنها من القرآن ، ولو كانت كذلك لامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة . والثاني : أيضاً باطل؛ لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن ، فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ولصار ذلك ظنياً ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض في أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف ، وذلك يبطل الإسلام) .[ تفسير الرازي(مفاتيح الغيب) - الرازي - ج ١ - الصفحة ١٩٥].

ملخص المسألة:

أولى أهل العلم عناية خاصة بالبسملة وذلكم لتعلقها بالقرآن الجيد من جانب ومن ثم بارتباطها بالصلاة، وباعتبارها قرآنا كريما من جانب ثالث.

ولورود أحاديث جد غفيرة بشأنها مما أضفى عيها أهميتها، إلا أنه قد نشأ عن هذه الأحاديث أقوال عدة في شأنها وذلكم لتعلق الأمر بحكمها عموما ومدى اندراجها تحت أي منها نتيجة ذلك.

وقد حفلت كتب أهل العلم ببيان أربعة أوجه حولها تعلق الأول منها ببيان أنها آية من سورة الفاتحة فقط، في حين تعلق الوجه الثاني بكونها آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة، وكان الوجه الثالث مكرسا لبيان أنها تعد آية مستقلة في أول كل سورة لا منها. وخص الوجه الرابع لذكر أنها ليست بآية ولا بعض آية من أول الفاتحة، ولا من أول غيرها، وإنما كتبت للتيمن والتبرك، والفصل بين السور.

وسوف أتناول كلا بدرسه ولسوف أذكر كلا بدليله. ثم أردف بما رأيته حقا في المسألة. والله تعالى أسأله الصواب فيما إليه نحوت، وإلى ما إليه ذهبت.

والبسملة من حيث إنه قد تواتر نقلها كتابةً في المصحف، وأنها قد تواتر نقلهـا شفاهة على الألسنة في بداية كل سورة - ما عدا سورة براءة، ومنه تكون آيـة من القرآن الكريم فيما عدا سورة النمل، وهذا هو قول جمهور أصحاب المذاهب الثلاثـة الحنفيـة والشافعية والحنابلة .

أولا:  إنها آية من سورة الفاتحة فقط. وهو قول الإمام الشافعي.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال الشافعي : هي آية في الفاتحة ; وتردد قوله في سائر السور ; فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها . [تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن), ج1/93].

الأدلة: 

1-  قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، قَالَ : سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : كَانَتْ مَدًّا ، ثُمَّ قَرَأَ : { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ)[ صحيح البخاري،  كتاب فضائل القرآن، باب مد القراءة،  حديث رقم، 4777].

 وجه الاستدلال: إن قراءة النبي ﷺ للبسملة مدا دل على أنها من القرآن العظيم، وإلا ما قرأها مدا كما هو الشأن في قراءته للقرآن المبين.  إثباتها في المصاحف مع الفاتحة وعدها من آياتها.

2- عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها(كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا قرأَ يُقطّعُ قراءتَهُ آيةً آيةً بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِينِ) [ سنن الدارقطني، الدارقطني، الصفحة أو الرقم: 1/651 ].

قال الدارقطني المحدث : إسناده صحيح، وكلهم ثقات.

وجه الاستدلال: أن الرسول قرأ البسملة مع الفاتحة، قالوا: فدل هذا على أنها آية منها. 

3 - إثباتها في المصاحف مع الفاتحة وعدها من آياتها.

ثانيا: إنها آية أو بعض آية من كل سورة سوى سورة براءة (الشافعي، ومن وافقه، ورواية عن أحمد، ونسب إلى أبي حنيفة.

الأدلة:

1 – قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى( حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، أَخْبَرَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، ح وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ ، عَنِ الْمُخْتَارِ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا ، فَقُلْنَا : مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ ؟ فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ ، فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ ، فَأَقُولُ : رَبِّ ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي فَيَقُولُ : مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ زَادَ ابْنُ حُجْرٍ ، فِي حَدِيثِهِ : بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي الْمَسْجِدِ . وَقَالَ : مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، يَقُولُ : أَغْفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً ، بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ حَوْضٌ وَلَمْ يَذْكُرْ آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ) [صحيح مسلم، كِتَابُ الصَّلَاةِ،  بَابُ حُجَّةِ مَنْ قَالَ : الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ،  حديث رقم، 645].

وجه الاستدلال من الحديث: أن البسملة آية أنزلت مع سورة الكوثر فهي كذلك آية أو بعض آية من كل سورة تنزل معها وتعد منها.

2 - ثبوت البسملة في المصاحف مع كل سورة، سوى براءة، مما يدل على أنها آية أو بعض آية من كل سورة.

وقال الآمدي رحمه الله تعالى (اتفقوا على أن التسمية آية من القرآن في سورة النمل) [الاحكام - الآمدي - ج ١ - الصفحة ١٦٣].

وقال أبو حيان الغرناطي الأندلسي رحمه الله تعالى(أنه لا تصح الصلاة إلا بها في أول الفاتحة ، ولا يكون قارئا لسورة بكمالها إلا إذا ابتدأها بالبسملة سوى براءة ، لإجماع المسلمين على أن البسملة ليست بآية فيها ) [البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان أثير الدين الأندلسي (المتوفى: 745هـ)، ص: 218 ].

وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى(الثاني، أنها آية من كل سورة ; وهو قول عبد الله بن المبارك). [تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن), ج1/93].

قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: فالبسملة آية من كل سورة غير (التوبة) لإجماع الصحابة على كتابتها في المصاحف، وإجماع القراء على قراءتها غير (التوبة)، ويؤيد هذا التواتر الخطي والقولي كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها؛ لأن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي، وأولى بالتقديم عند التعارض . [كلام منسوب إلى الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى، ومنشور على  موقع إسلام أون لاين بعنوان(هل البسملة آية من كل سورة؟].

ويؤيد أنه قوله الفقرة التالية:

وقال أيضا رحمه الله تعالى(فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير، وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة، والشافعي في الجديد وأتباعه، والثوري وأحمد في أحد قوليه، والإمامية، ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة: علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وابن المبارك، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة {التوبة} مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه، ولذلك لم يكتبوا {آمين} في آخر الفاتحة، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنزلت علي آنفا سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم " وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انقضاء السورة - حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ". وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط الشيخين. وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال: " "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأتم الحمد لله (أي سورة الحمد لله ) فَاقْرَءُوا{بسم الله الرحمن الرحيم} فإنها أم القرآن والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها "[تفسير القرآن الحكيم المشهور بتفسير المنار (تفسير محمد رشيد رضا): ج1/37].

ومنه وعلى قول أصحاب هذا الرأي تكون البسملة أول آية من سورة الفاتحة، وهي أيضا آية من أول كل سورة من القرآن الكريم، كما وأنها جزء من آية في سورة النمل، كما قال تعالى(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

ثالثا: تعد البسملة آية مستقلة في أول كل سورة لا منها.  

الأدلة:

1 - عنِ ابنِ عبَّاسٍ قالَ كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ لا يعرِفُ فصلَ السُّورةِ حتَّى تنزَّلَ عليْهِ بسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ. [صحيح أبي داود، الألباني، الصفحة أو الرقم: 788].

وقال الألباني رحمه الله تعالى : صحيح .

قالوا: كونها تنزل من قوله ﷺ (أُنْزِلَتْ) يدل على أنها آية من القرآن، وكونها للفصل بين السور يدل على أنها ليست من السور وإنما آية مستقلة.

2 - إجماع الصحابة على إثباتها في المصحف، وكتابتهم لها بخطه وقلمه، فنقلت نقله كما نقلت في سورة النمل، فلا يجوز الخروج عن إجماعهم وذلك لأنهم جردوا المصحف من غير الآيات القرآنية كالتفسير وغيره.

ويلاحظ أن هذا هو نفسه استدلال الشيخ محمد رشيد رضا في القول(ثانيا).

3 - قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى (فعند هؤلاء هي آية من كتاب االله في أول كل سورة كتبت في أولها وليست من السور وهذا هو المنصوص عـن احمد في غير موضع ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك وهو قـول عبـد االله بـن المبارك وهو أوسط الأقوال وأعدلها) [القواعد النورانية الفقهية، تقي الدين أبي العباس أحمد الحراني/ابن تيمية:ص17].