أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.
"أصداء الليالي البيضاء"
كانت الليالي البيضاء أول نافذة أفتحها على عالم الأدب الغارق في الأسى، ظننتُ في لحظةٍ ما أنني سأجد فيها مهربًا من نفسي، كما كنتُ أبحث عن هروبٍ من ذلك الشبح الذي ظل يتبعني في كل لحظة، ككائنٍ أزرق بعيد، لم يكن له ظل، ظننتُ أنني سأجد جوابًا يغني عن الكلمات التي ظللت أرددها في نفسي كل يوم، لكن ما اكتشفته هو أنني لم أهرب، بل انغمست في بحرٍ أعمق من العتمة التي كنت أعيشها، بحرٍ يعكس صورتي المشوهة في كل موجة، وتلك الحواف التي لم أستطع الهروب منها.... كالأمسية التي تهدأ فيها العواصف، ولكن لا تذهب الرياح، تساءلت: هل يمكن للإنسان أن يشفى من شيء إذا كان لا يزال يراه في كل الوجوه؟ ومتى يحق لي أن أقول إنني قد تخليت عن ذلك الوجود الذي سكنني، والذي كان يعانقني في كل لحظة، رغم أنه لم يكن يمتلك يديه؟لقد كنتُ أقرأ الرواية كمن يبحث عن نقطة ضوء في مسرحٍ مظلم، أملًا في أن أجد كلمةً، أو مشهدًا، يُسلّيني من هذا الوجود الذي أعطاني آمالًا ثم تركني أغرق في الفراغ، لكنني اكتشفت أنني كنت أبحث عن شيئٍ لا يمكن أن يُعطى إذ أنني كنت أبحث عن الإجابة في أماكن خارج نفسي، بينما الإجابة الوحيدة كانت تتدفق داخلي، كما تتدفق دموع الفقد في عيون من لا يستطيع أن يسمي الألم... مرَّ العامين وأنا في هذه الحالة، لا أجرؤ على إنهاء ما بدأت، لقد كانت الرواية تزداد ثقلاً مع مرور الوقت، كأن الكلمات نفسها أصبحت حجارة تُضاف إلى ذلك العبء الذي ألقيته على نفسي يومًا بعد يوم، لم أكن أستطيع أن أفرغها من داخلي، كما لم أستطع أن أسمح لهذه النهاية أن تنتهي، كما لو أنني كنت أريد أن أتمسك بأطياف شيء قد انتهى منذ البداية، لكنني لم أكن أجرؤ على الاعتراف بذلك... أنت تعلم، كما أعرف أنا، أن الفقد لا يُشفى بالكلمات، ولا بالقصص التي نقراها، ولا بالأحلام التي نعيشها ليلاً... كان يتعين عليَّ أن أواجه السؤال الأعمق: هل يمكن للإنسان أن يشفى من حبه إذا كان لا يزال يجد أصداءه في كل ركنٍ من الذاكرة؟ هل يحق لنا أن نسمح لأنفسنا بالمضي قدمًا، أم أننا نُعلق بين الماضي والمستقبل، في مكانٍ لا نعرفه؟"الليالي البيضاء"، كنت أظنها ستكون دربًا نحو الفهم، لكنني اكتشفت أنها كانت مجرد مرآة عكستُ فيها ما كنت أخشاه: أنني لن أجد السلام، حتى وإن عبرتُ عن ذلك بالكلمات، كمن يركض في دوائر لا تنتهي، حتى يكتشف أنه لا يغادر مكانه أبدًا... ومع مرور الوقت، بدأت تتداخل الحياة مع الكلمات، أنام، أستيقظ، أعيش، وكل شيء كان يحمل نفس الوَجع الذي كنت أهرب منه، كنت أبحث في صفحات الحياة عن شيء أستطيع أن أتمسك به، عن جواب لذلك التساؤل اللامتناهي: كيف يمكن للإنسان أن يترك جزءًا من نفسه وراءه دون أن يتكسر؟ وكيف يمكن لمشاعرنا أن تنكسر دون أن تترك أثرًا لا يُمحى؟ كنت أظن أنني سأجد الراحة ولكنني كنت أكتشف شيئًا آخر، كانني كنت أرى في كل صفحة انعكاسًا لما كنت عليه، وعما كنت أريد أن أكونه، هل حقًا يمكنني أن أُشفى؟ أم أنني سأظل في هذا الحلم الهش الذي يتلاشى أمام عيني دون أن أتمكن من لمسه؟ لقد كانت الحياة بالنسبة لي مثل نافذة، أرى من خلالها العالم، لكنني لا أستطيع أن أكون جزءًا منه،لقد كان الأمر كما لو أنني أبحث عن بداية جديدة، بينما كل شيء يذكرني بنهاية قديمة، وكأن الزمن نفسه قد أخذني إلى أماكن لا يمكن أن أعود منها...وعلى الرغم من ذلك عدت إلى تلك الصفحات ذاتها، معتقدةً أنني سأجد فيها الخلاص أو على الأقل سبيلًا للشفاء، إلا أنني ترددت في المضي قدماً، اذ كانت تلك الصفحات نفسها تنبض بالألم الذي كنت أهرب منه، كأنها تذكّرني بألمٍ دفينٍ لم أكن قد تجرأت على مواجهته بعد، ما إن اجتازت عيناي السطور الأولى حتى شعرت بأنني أغرق في هوةٍ لا مخرج منها، كما لو أنني أعدت فتح جرح قديم كنت أظنه قد بدأ يلتئم... متى سأجرؤ على إنهائها؟ ما زال السؤال يتردد في صدري، كأن الرواية نفسها تضع حاجزًا بيني وبين قدرتي على المضي قدمًا، لقد كنت أجد في النهاية انعكاسًا لألمي، كأن صفحات الرواية تلك هي المرآة التي تعكس شيئًا كان مخفيًا في أعماق قلبي...لكنني أدركت شيئًا في دوامة الألم هذه، شيء كان يختبئ بين طيات الليل، لم ألحظه إلا حين سكنت الرياح في صدري... ربما كنت أبحث عن إجابة ضائعة، تلك الإجابة التي طرحها دوستويفسكي في "الليالي البيضاء"، كما لو أن سؤاله كان سرًّا مخفيًا في السكون الذي يسبق الفجر... "تُرى، كيف يشعر بمن تعلق قلبه بإنسان ثم أدرك أنه لم يعد له وللأبد؟"كان السؤال يتردد في أذني، تمامًا كما يتردد صدى الأنين في أعماق البحر الهادئ، كنت أظن أنني سأجد الجواب في كلمات مكتوبة، ولكن الحقيقة ليست هناك، إنها في الصمت الذي يسكن بين السطور، في اللحظة التي تدرك فيها أنك تحب شخصًا لن يعود، تلك هي الإجابة التي لا تُقال، بل تُحس، كما يُحس الخريف في قلب من يسكنه الشتاء...في البداية ستشعر وكأنك فقدت ذاتك إلى الأبد، وكأنك لست أنت، وكأنك لا تعيش في الزمن نفسه، سيكون ذلك أشبه بحلمٍ ضائع، حلم طويل سيبقى في قلبك يطاردك لأيام، ثم يعود ليؤرقك سنوات... وكأنك تعيش في مكانٍ لا تعرفه، يضيع فيه كل شيء، ستظن أنك قادر على التكيف، على المضي قدماً، لكنك ستدرك سريعاً أن التغيير ليس سهلًا، وأن الحياة التي تظن أنها بدأت من جديد، هي في الحقيقة مجرد مسرحية تُعاد مراتٍ ومرات... ستحاول أن تنسى، أن تجد حباً آخر، وستعتقد أنك قادر على أن تكون سعيدًا كما كنت، لكن شيئًا فيك سيظل ناقصًا، سترى وجهه في كل الوجوه، ستسمع صوته في كل الأحاديث، وستشعر بنظراته تلاحقك حتى في الأماكن التي لم تلتقيا فيها أبدًا... ستنتظر، دون أن تدرك أنك تنتظر سرابًا، ستنتظر عودته، متلهفًا، وكأنك تتنفسه في الهواء، لكن لا عودة... والانتظار سيتسبب في ألمٍ آخر، سيجعل قلبك يرهق، وسيتناثر منه شعورٌ بالخذلان الذي لن تشعر به إلا في وحدتك... ثم، عندما تبدأ في التكيف، شيئًا فشيئًا، ستجد أن الخريف قد بدأ يتسلل إلى قلبك، خريفٌ لا تشعر به في البداية، ولكنك ستعلم أنه قد جاء، في البداية قد تخاف أن يصبح هذا الشتاء باردًا لدرجة أنه سيجمد روحك، لكن الحياة، كما تفعله الأمواج التي تصطدم بالصخور، ستعيد إيقاظ مشاعرك مرة أخرى، شيئًا فشيئًا، ستستعيد ذكرياتك معه، ستذكر اللحظات التي ظننت أنك نسيتها، وستحزن بعمق كما لو أن تلك اللحظات تعود وتعيش مجددًا في عينيك، ستبكي، ثم ستبتسم... ابتسامة حزينة، نبيلة، غارقة في حزنٍ عميق، ولكنها ستظل تحمل ذلك الحب الذي لم يموت، بل ظل في قلبك، ينبض بهدوء، في صمتٍ، وفي سكونٍ... أنت تعلم الآن أنه لا شيء يموت تمامًا، حتى لو مرّ الزمن... الفقد يعلّمك أن الأشياء لا تنتهي كما تظن، بل تتبدل وتصبح جزءًا منك إلى الأبد... تلك العيون، تلك الذكريات، ستظل في مكانها، تحفظ كل تلك اللحظات التي عشتها، وستظل تحمل ذلك الحب، مهما كانت الحياة قاسية، ومهما تغيرت الوجوه...و ها أنا ذي ما زلت أبحث عنك في سكون الليل، في اللحظات التي تتسلل فيها الذكريات بين الجدران، لا أستطيع منعها من أن تطرق باب قلبي، على الرغم من أنني أعلم أن الطريق الذي سلكته بعيد، وأنك هناك حيث لا أستطيع الوصول... كيف يمكن لمن تعلق قلبه بجنبات روحك، أن يعترف بأن تلك الروح قد اختفت؟ كيف تُمزق أجنحته ليعرف أنه لن يحلق بعدها؟ حاولت أن أهرب من ذكراك، أن أغمض عيني، أن أسدّ الطريق أمام نفسي، لكنك ما زلت تلاحقني، في الأحلام، في الظلال، في كل التفاصيل الصغيرة التي كنت تملؤها بحضورك، واليوم أجدك في كل الزوايا، لا تترك لي منفذًا للسلام... أجل لقد كنتُ أظن أنني سأجد الإجابة في صفحات الحياة التي ألتقطها هنا وهناك، كنت أظن أنني سأجد الخلاص في الحروف التي سأكتبها يومًا، ولكن الحقيقة أكبر من أن تُحكى بالكلمات، فهي كامنة بين السطور، في الصمت الذي يملأ الفجوات، في اللحظة التي تدرك فيها أن قلبك قد تعلق في غير مكانه، وأنك رغم محاولاتك، لن تقدر على النسيان، لأنك لن تجد غيره في الوجوه. كيف لي أن أنسى وجهًا طالما كان سكنًا لأحلامي؟ كيف لي أن أتخلى عن ذكرياتي التي أصبحت خيوطًا تلتف حول عنقي؟لكنني لا أستطيع محاربة الحنين، أليس الحنين جزءًا مني الآن؟ أليس هو سيفي الذي أحارب به معركة لا يمكنني الهروب منها؟ كيف يمكنني محاربتك، وأنت في كل نبضة من قلبي، في كل دمعة سقطت على وجنتي؟ كيف لي أن أتمسك بالأمل الذي علمتني إياه، وأنت الذي زرعت فيّ هذا الفزع من أن ينطفئ الضوء؟ كيف لي أن أستمر في القتال، وأنت الهواء الذي أتنفسه، رغم أنه يطعنني في كل مرة؟كيف لي أن أتمسك بالأمل، بينما قلبي محكومٌ عليه ، محكومٌ بأنك لن تعود أبدًا؟
"أصداء الليالي البيضاء"
مرمر