أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.
"بوحٌ لن يطرق بابك أبدًا"
ها قد عدتُ مجددًا، أطرقُ أبواب الحروف كما يطرق العابر نافذة أغلقتها الريح، لا ليدخل، بل ليترك أثرًا على الزجاج، يبدو أن خيالي أرهقه حمل المحادثات التي لن تحدث، فراح يبعثرها في الفراغ علّه يخفف وطأتها، أنا أيضًا، أبعثر كلماتي الآن، لا لأنك ستقرأها، ولكن لأن الصمت بات ضيقًا على روحي، لأن الذكريات ثقيلة كحجر في جيب غريق، تسحبني إلى أعماق لا قرار لها. تبا… لا أستطيع كبح دموعي، لكن لا بأس، سأدعها تسيل، وسأتلقى التوبيخ بصمت، ثم سأبتسم، لأنك ما زلت أنت من يعرف كيف يجعلني أنزف بلا جرح، من يستطيع أن يوقظ في داخلي كل المواجع بذكرى عابرة، بنسمة تشبه نَفَسك، أو بظلٍ يشبه قامتك في زحام العابرين، كأنك مطرٌ يتساقط في صحرائي، لا يُحيي الأرض، لكنه يعيد إليها وجع التوق للماء، كأنك لحنٌ عالق، كلما ظننته تلاشى، عاد ليطرق جدران ذاكرتي بصوت أو صمت، بضحكة طفل أو صدفة عابرة في ملامح الغرباء...يا من كنت يومًا موطنًا لروحي، يؤلمني أنني رحلتُ عنك كما يهرب الطائر الجريح من يدٍ ظنّها مأمنًا، لم يكن وداعًا، بل كان سقوطًا في هاوية الصمت، لأنني كنت أعلم أن كلماتي ستخذلني كما خذلتني أنت، هل كنتُ أحتاج أن أقولها؟ لا أظن، فبعض الرحيل لا يحتاج إلى إعلان، وبعض الفراق يكون بصمتٍ يصرخ أكثر من أي وداع...أجل لقد حاولتُ أن أنتقم منك، لكن كل مرة كنت أغمض فيها عينيّ وأحاول أن أنسى، كنت أراك في كل مكان، كنتَ تلوح في الوجوه الأخرى، وكل نظرة كنتُ أحاول أن أهرب بها منك، كانت تعود لتذكرني بك، بطريقة أفظع من الموت، كيف تباهيتُ أنني نسيتُك؟ كيف خدعتُ نفسي بأنني قد أغرمتُ بغيرك؟ وأنا أعرف تمامًا أنه لا أحد في هذا العالم يملك بصمتك، لا أحد يملك دفء كلماتك، ولا حتى صدقك، كان كل شيء آخر مجرد سراب... لا شيء يُقارن بك، لكنني كنتُ أصرخ داخليًّا، أقول لنفسي أنني سأتجاوزك، ولكن كلما حاولت أن أبتعد، كانت مشاعري تصرخ باسمك، تقاوم، تُحارب، لأنها تعرف أنك وحدك كنتَ من يستحق حبًا بهذا العمق...إنني أكره تلك النسخة مني، تلك التي حاولت الانتقام منك، تلك التي سافرت عبر طرقات الغضب وتدحرجت في كؤوس الحقد... أما أنت، فقد كنتَ السارق الصامت لمفاتيح روحي، كنت تزرع فيني قسوة كنت أحتاجها لأستطيع المضي قدمًا، ولكنك، بعينك الصافية التي لا تعرف سوى الصدق، لم تكن يوما تلقي بحجر في مياهي الهادئة، لا، كنتَ تراقبني فقط.. أه، ولكنني هنا الآن، ألومك، رغم أنني أراه أصدق من أن ألومك، لأنني أُدرك جيدًا أنني في الحقيقة أكره هذه الصورة من مريم، تلك التي تمادت في الانتقام، لأنني كنت أظن أنه الطريق الوحيد للانتعاش، أتعلم؟ لقد تعلمت في صمت أن كل مشاعري العميقة هي فقط محطات مؤقتة، مكابرة مكبوتة في جسدي، ينتظرها الزمن كي يبتلعها... إلى أين أذهب الآن؟ هل يكفيك أن أخبرك أنني أريد أن أتمرد؟ أن أتحدى قسوتك الداخلية وأسألك إن كان هناك مجالٌ للتمرد على حدودك الدينية؟ لأنني لم أعد أستطيع أن أظل أعيش بين القيود،أريدك هنا، أن تبقى، ولو لحظة،أخبرني لماذا لا نحصل على من نحبهم بشدة؟ لماذا يكبلنا الزمن بمفاتيح لا نستطيع فتحها؟ لماذا تتعثر المشاعر الصادقة في المسافات المظلمة؟!ليتك لم تعلم أبدًا، أنني أحببتك بهذه الطريقة، ليتك لم تكتشف هذا السر الذي كنت أخفيه عنك، ليتك تركتني أعيش في ظلام هذا الحب الذي لا أستطيع إضاءته، لو لم تكن قد اكتشفت، لكان الفراق أقل مرارة، ولكنا أجلنا هذا الفقد لوقت أطول، لكنك عرفت، وكنت أنت السبب، وأنت الآن، في بعدك، تُسمعني أصواتًا تردد في جسدي... الغضب الذي يثقلني، والخذلان الذي يجعلني أركع أمامه... أنا غاضبة منك الآن، من تلك اللحظات التي جعلتني أكره نفسي لأني أحببتك... ولكن، رغم كل شيء، لا تستطيع أن تنتزع نفسك من قلبٍ تعب في محبتك... لن تخرج من هنا، حتى إن حاولت، حتى إن جئت بكل قوتك لتبتعد، ستظل محاصرًا في زوايا هذا الجسد، في ركن من قلبي الذي لا يعرف النوم... لن تفهم، لن تفهم لماذا هذا الحب لا ينكسر حتى حين تحاول سحقه تحت قدميك... لأنه لم يكن مجرد كلمات أو لحظات، بل كان هو الحياة نفسها... كان الوجود الذي كنت أتنفسه، وحتى في صمتك، كان صوتك يملأ الفراغ... لن تستطيع أن تسرق هذا مني... إن كانت حياتي كلها تُختصر في حبك، فلن تذهب... سأحتفظ بك، حتى لو كان ذلك يعني أنني سأصارعك، سأصارع هذا الألم.... أعلم أنك لم تكن تعرف، ولا حتى تفهم كم كان قلبي خاليًا من أي أمل بعد أن رحلت، لكن الآن؟ الآن أنا أعيش في هذه الفوضى التي صنعتها أنت... أحبك بكراهية، لا أستطيع أن أتخلص منك، ولا أستطيع أن أتركك... أنت تجعلني أكره نفسي، ولكنني لا أستطيع أن أتركك ، لأنك في قلبي إلى الأبد... نعم أنا أكرهك... أكرهك لأنك حاولت أن تسلب مني هذا الحب، لأنك وضعت بيني وبين قلبي حواجز من الصمت والظنون، ولكنك تعرف، لا شيء يمكنه أن يوقفني، لا شيء يمكنه أن يمس إرادتي، حتى لو قررت أن تبتعد، حتى لو فعلت المستحيل لتغيب عن حياتي، فإنك لن تختفي أبدًا من ذاكرتي...لقد أخبرتك أنني لن أتركك، لا مهما حدث، حتى لو دمرنا الوقت، حتى لو مزقتنا المسافات... نعم، رحلت عندما فقدت أبي، وعشت في جحيم الفقد، ولكنك ما زلت هنا...داخل قلبي، في زاوية مظلمة من ذاكرتي لا تستطيع أن تفر منها... لقد تباطأت دقات الزمن، لكنني أحتفظ بك داخل طيات الأيام، أكتب اسمك في مذكراتي، كاحتياط لتلك الأيام التي قد تفقدني فيها الذاكرة، حتى لو نسيت كل شيء، فإنك ستظل خيطًا أزرق في داخلي لا يمكنني قطعه... هل تعرف؟ قالت لي صديقتي عن قصة ماركيز، عندما فقد ذاكرته، لكنه لم يفقد شعوره تجاه صديقه، لم يفقده أبدا... هذا، هو الأمل الذي أتمسك به، هذا هو السر الذي يجعلني أعلم أننا لن نفترق، رغم كل شيء...أنت تعرف أن ذاكرتي حديدية، لست بحاجة للقلق... لن أسمح للزمن أن يمحوك من داخلي، حتى وإن تمزق العالم من حولي... سأذكرك حتى لو نسيت كل شيء، سأوصي أكثر شخص أثق به أن يحفظك عندما أفقدك، لأنك... أنت لن تخرج من عالمي، حتى لو حاول الزمن أن يمحوك...آه... كم يؤلم هذا، كم كانت لدي كلمات لم أقلها، لكن دموعي قررت أن تروي قصتي بدلاً مني، أن تكتب كل شيء في صمت، اتعرف مرات عديدة، فكرت في الهروب من هذا الألم، فكرت في اختفاء مفاجئ، شعرت بأنني فقدت قدرتي على الوجود كما ينبغي، وأنك لن تكون راضيًا عني... كان السبب في هذا كله أنت، أنت من جعلني أشعر أنني لم أعد أستطيع أن أكون كما يجب، أنني فقدت الطريق...أنت السبب الذي جعلني أبحث عن المخرج، ليس فقط لأنك رحلت، بل لأنني شعرت بأنني لا أستحق مكانًا في عالمك، لا أريدك أن تشعر بأنك فشلت في تربيتي، أن كل المبادئ التي زرعتها في قلبي قد ضاعت في لحظة واحدة...لقد حاولت الهروب من هذا الصراع الداخلي، من تلك القيود التي أصبحت أكثر ثقلاً من أن أتحملها، لكنني أدركت متأخرة أنني كنت أخطئ في كل شيء، لقد تذكرت تحذيرك لي، تلك الكلمات التي قلتها عن عفويتي الزائدة، والتي كنت أظنها عادية، لكنك كنت على صواب، كم أريد أن أخبرك بتفاصيل هذه الحكاية التي زرعت في رغبة الرحيل ، لكن لا يمكنني، لا أستطيع أبداً...تبا، نعم أعلم أن هذه الكلمة لا تعجبك، لكنني أستخدمها لأنني لا أخاف أن أُظهر لك أسوأ ما بي، أبدًا، القذارة التي تحت الجلد، الكراهية التي في قلبي، وحبي المرضي لك... أعرف أنك ربما تكرهني الآن، لكنني أكرهك أيضًا، لأنك أخرجتني من عالمك، ومع ذلك، أعذرك،إذ لا يمكنني الوقوف في طريقك، أنا فقط بحاجة إلى القضاء على مريم، تلك التي تكرهك... ولكن لماذا؟ لماذا سأقضي عليها؟أنت تستحق الكراهية، لأنك حاولت أن تمنعني من حبك. أخبرني من أنت لتتحكم بي؟ من أنت لتقرر إن كنت سأحبك أو لا؟ من أنت لتقرر ما هو الصواب بالنسبة لي؟ لا، لا تعتقد أنني أسيء إليك، أنا فقط على استعداد لأن أُدمرك من أجل هذا الحب، لأنني أعلم أنني إذا تخليت عنك، سأموت من الداخل...أنت علمتني الإنسانية، علمتني كيف أحب، كيف أكون أكثر إنسانية، حتى الآن، في كل ذلك الغضب، لن أسمح لأحد بأن يقتلعك مني، حتى لو كنت أنت من حاولت ذلك، قلت لي يومًا: "سيأتي من يستحق هذا المكان الذي أعطيتهُ لكَ. " ولكن كما أخبرتك من قبل، إنني أكره هذا الشخص مسبقًا، لن أسمح له بالوصول إلي، سأجعله يتعذب، لكنني لن أفعل هذا ليس من أجله، سأفعله من أجلك، لأنك أنت من علمني معنى أن أكون إنسانة و لكن لا تفرح كثيراً أنت لن تنتصر سأبعده عني فقط و أعود أنا لأتمتع بحريتي في سجنك... إنني أريد أن أغادر هذه الحياة، لكن في نفس الوقت ، أريد أن يكون هناك شخص ما يحبك في هذه الحياة، يتذكرك إلى الأبد، لذلك سأبقى، حتى لو كان قلبي يغرق في اليأس، نعم، أنت تعارض أشياء كهذه، ولكنني أؤمن أن لكل شخص حق في تحديد موعد رحيله، لكن عليه أيضًا أن يتحمل تبعات اختياراته هذه... ها هي موجة الغضب تأتي، حيث لا أستطيع كبح انزعاجي من هؤلاء المتملقات... لا أستطيع نسيان تعليقاتهن، تلك التي أوجعتني وأثارت غيظي... لا، ليس من حقي أن أغار عليك، ولكنني أغار، نعم أغار، وأكرههن... أكرههن!!! وأكرهني، لأنني ضعيفة أمام هذا،لكنني سأحاول أن أتجاهلهن الآن ، رغم أن ذلك لا يعني أنني نسيت، أنا فقط أختار أن لا أغضب الآن، لأنني أدرك جيدًا أن هذا الغضب يعذبني أكثر و أنت لست هنا، ولا أستطيع أن أجدك لتهدئني، لتمسح عن روحي هذه الندوب، لذا سأصمت، حتى لا تحترق روحي أكثر...أعلم أنك لم تعد هنا، لكن لا يمكنني إلقاء هذا الحمل عليك دون أن أخففه، سأفعل كما كنت أفعل عندما كنت موجودًا: سأحكي لك شيئًا مضحكًا حتى لا تشعر بالذنب، حتى لا تظن أنك جرحتني... ولكن قبل ذلك، هناك أمر يشغلني... جارنا توفي قبل يومين، بعد عامين من المعاناة، رحل، كنت أظن أن الموت سيحرره، لكنه الآن مجرد ذكرى عابرة، لم يحزنوا عليه كما ينبغي، كان مجرد محطة مرّوا بها بسرعة، كأن وجوده لم يكن يومًا، أشعر برغبة في البكاء عليه، لكنني لا أستطيع فعل ذلك في هذا البيت، لا أريدهم أن يروني متأثرة، لا أريد أن أكون بطلة في أعينهم، لأنني أعلم أنهم سيستغلون ذلك ليظهروني بصورة مشرقة على حساب حزني، و أنا أكره هذا، كنت أظن أن الموت نهاية للوجع، لكنه مجرد بداية أخرى للقلق، ترى، هل هناك من يتذكره الآن؟ هل هناك من يدعو له؟ هل من أحد يهمس باسمه في صلواته؟ هذا ما يخيفني عليك... لا أريدك أن تصبح مجرد ذكرى عابرة، لا أريد أن تُمحى من ذاكرة العالم كما حدث معه، أنت أكبر من ذلك، تستحق أن يُتوسل إلى الله من أجلك، أن يظل اسمك حيًا حتى في الغياب، لهذا السبب، حتى لو غبت عني، سأظل أذكرك، سأظل أوصي بك... حين كنت غاضبة منك، دعوت أن أنساك، أن ترحل مع الحرب، لكنني لم أدعُ بصدق، كنت فقط أعاندك، كنت أختبر قسوتي عليك، رغم أنني كنت أعلم يقينًا أنني لا أريد لك هذا المصير، إنني أراقب أخبار بلدك أكثر مما أراقب أخبار بلدي،إذ أنني لا أشعر بانتماء لهذا المكان و لا إلى بلدك ، لكنك أنت تنتمي إليه، وأنت تهمني، أسأل الله أن يحل السلام هناك، أن تجد روحك الطمأنينة، حتى لو لم أكن جزءًا من تلك الطمأنينة...والآن، سأحاول أن أضحك قليلاً... أنا أجلس على السطح، أراقب السحب، وأتذكرك، كنت تريد أن تكون سحابة، والآن أبحث عنك بينها، آه، بدأ الحماس يملؤني، كما لو أنك حاضر، لقد حصلنا على أرنب صغير، عيناه تشبهانك! نعم، أعلم أنك ستوبخني الآن، كيف أجرؤ على تشبيهك بأرنب؟ لكنني أضحك، لأنني أراك في كل شيء، أفكر في تسميته باسمك فقط لأزعجك، حتى في غيابك، حتى لا ترتاح من وجودي في حياتك...
تخيلت أنك تحمل عصا تطاردني بها، مستنكرًا كيف أراك بهذا الشكل! لكنني لا أستطيع رؤيتك بطريقة سيئة أو قاسية ،إن صديقتي تسميك 'الروح الشريرة'، وهذا يذكرني بالساحرة الشريرة من ذلك الكرتون القديم الذي ما زلت أذكره بوضوح، أتخيلك بتلك الصورة، وأكاد أسمع توبيخك لي! لقد أخبرتها أنني سأقول لك هذا اللقب فقط لأزعجك، رغم أنني أعلم أنك لن تغضب، بل ستشعر بقليل من الأسى لأن معاناتي معك جعلتها تطلق عليك هذا الاسم، لكنني سعيدة، أجد في هذا الاسم نوعًا من الطرافة، رغم أنه خرج من قلب مليء بالوجع، أنا أسمع الآن موسيقى أعرف أنها لا تناسب معتقداتنا، وأعلم أنك ستنزعج، حسنًا، سأوقفها الآن، لا أريد أن أغضبك، لكنك تعرف؟ بعض الآلام لا يمكن التعبير عنها إلا بأقسى الكلمات، بأكثرها قسوة وصدقًا... استعدت قليلًا من راحتي، وهذا يجعلني أحنّ إليك أكثر...سأتوقف هنا مؤقتا، لأنني متأكدة أن أمي ستأتي الآن لتبدأ موجتها من النكد، وأنا لا أطيق النكد، إلا منك... نعم، قد تنزعج لأنني قلت عنك ذلك، لكنني أجد هذه الصفة فيك مضحكة، وأحبها، كما أحب كل ما فيك، حتى الأشياء التي تجعلني أصرخ، حتى الأشياء التي جعلتني أكرهك... حتى الأشياء التي تجعلني أتمنى لو لم أعرفك أبدًا...
"بوحٌ لن يطرق بابك أبدًا"
مرمر