"وما ضرني إلا الذين عرفتهم ** جزى الله خيراً كل من لست أعرف"
وكأن الشاعر الفيلسوف ابو العلا المعري قد أنتبه لهذا الأمر منذ قرون مضت فقال هذا البيت.فقد كان يركن إلى كتابة الشعر من أجل تخفيف كرب الإكتئاب الذي كان يغشاه، وحاله في ذلك حال الكثير من الشعراء والأدباء الذين كانوا يعانون من هذا السقم عبر العصور والأماكن.
إزدياد حالات الإكتئاب هو في الحقيقه نتيجه لشيئين. أولا أن ظروف وضغوط الحياة الحالية - لسرعة إيقاعها وكثرة طلباتها الملحة - تبعث على الإكتئاب، وثانياً لأن المجتمع لم يعد يرى في التشخيص النفسي ثمة عاراً ووصمة تدعو الى الخجل من إعلانها والإفصاح عنها – على الاقل في الغرب، فهم إذا لا يرون ضراً، ولا يبدون تردداً من طلب المعونه من أطبائهم.
ولا أشك للحظة بتأثير العين والحسد والسحر على أحوال الناس إلا أن الكثير من الحالات التي تنسب إلى هذه الظواهر ليست كذلك وإنما هي حالات نفسية قابلة للعلاج من قبل الاطباء.
ويصنف البعض الإكتئاب إلى نوعين :الاكتئاب الردفعلي" الذي سببه واضح للعيان كأن يحصل بعد وفاة شخص عزيز أو فراق محب لحبيبه "والإكتئاب الداخلي" الذي ليس له سبب مقنع وبيٌن، وأتضح لاحقا أن النوع الثاني أسبابه إختلاطات كيمائية في أجزاء معينة في المخ – وتحديدا - في مركز في الدماغ يعتقد أنه يُعنى بدرجة البهجة والسعادة عند الشخص، غذ يكثر فيه أو يقل افراز مواد السعادة الكيميائية (الاندورفين وغيرها).
ويبدو أن الإكتئاب الداخلي "ذو أبعاد وراثية أيضاً"، وثمه علاقة وثيقة تربطه بالإدمان على الكحول وأبرع من عبر عن الكآبة شعراً كان إمرؤ القيس، وأعتقد أن جزءاً من إكتئابه كان "ردفعلي" (وهو الذي فقد ملكه وقُتل أبوه) وجزء من إكتئابه كان "داخلياً" فقد كان مدمناً للخمر (وهو القائل "اليوم خمر وغداً أمر) فيقول :
وليل كموج البحر أرخى سدولهُ ** عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بصلبه ** وأردَف أعجازاً وناءَ بكلْكلِ
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي ** بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ
فعنده الاوقات كلها – ليلها ويومها - مدعاة للحزن والتعاسة لا فرق بينهما في ذلك وهذا يأتي في صميم المنظومة التشخيصية للإكتئاب.
بينما فى رواية "لن ينتهى البؤس" للمؤلف محمد طارق تم تصنيف الإكتئاب إلى الوان بدرجاتها المتفاوته : الإكتئاب الأصفر حيث بيسخر الشخص من كل شئ حوله ،يحول نوبات بكائه وأسباب حزنه إلي نكات يضحك عليها الآخرين ،ينشر البهجة في كل مكان بالرغم أنه محطم .وهناك« الإكتئاب الأسود»وهذا يعني أن تكون فى غرفتك وحدك تعاني وتتألم دون أن يشعر بك أحد ،تسهر طوال الليل حتي يستيقظ الناس فتذهب أنت للنوم ،تتجنب الاقتراب من الناس حتي لو اتهمت بالجفاء والقسوة ،تأكل من أجل أن تحيا لا أكثر.
أما «الإكتئاب الأزرق »فهومن الأنواع المؤذية الذي يجعلك تتعامل مع الحياة بلا شغف ،ترضي الجميع ،لاتفكر حتي في الإعتراض على مايقولون ،من يتهمك بالسوء تعتذر له بهدوء،من يتهمك بالتعاسة تضحك فى وجهه ،مسالم للحد الذي يجعلك تتجنب الجميع ،تكتفي بالقراءة والتعامل مع الحيوانات ،تبكي أحيانا بلا سبب ، وتشعر بالضيق بلا سبب ،بسعادة بلاسبب ،وتشعرأيضا أنك ملك الأرض ،وفجأة مسجون في باطنها ،متشتت دائما.
أما أقسي أنواع الاكتئاب فهو «الرمادي »فهو يجعلك تمارس حياتك بشكل طبيعي تنهض من فراشك بلارغبة في النهوض ،تأكل وأنت فاقد الشهية والمذاق.
أما بخصوص ضغوط الحياة اليومية على مزاج المواطن العربي فقد تصدرت تونس عدد المشتكين منها بنسبة 53% فالعراق (49%) والأردن (42%) والأراضي الفلسطينية (40%). واستمرت هذه النسبة في الانخفاض في ليبيا (35%) و(30%) في لبنان ثم (29%) في المغرب و(28%) في اليمن متبوعا بمصر والجزائر بنسبة (27%) وأخيرا السودان حيث بدا أن حدة الضغوط اليومية لا تؤثر سوى في (22%) من المواطنين.
وقد نجد تفسيرا لهذا الوضع في تقارير منظمة الصحة العالمية حول الإكتئاب والتي أفردت المراتب الأولى عالميا في إنتشار هذا المرض للدول العربية والتي تعاني منذ 2011 من أزمات سياسية وتردي الأحوال الإجتماعية والمالية تفاقمت بسبب البطالة وإرتفاع تكاليف المعيشة والعنف والحروب الخارجية والصراعات الداخلية وما يتأتى عن ذلك من تداعيات شعور بعدم الاستقرار.
لكن الأمر له منظور أخر فى حياة الفنانين والعباقرة فقد يكون لديهم الجمال المال الوفير ،لكنهما لم يشفعا لهم ولم يوفرا الحماية لهم من الوقوع كفريسة للإكتئاب فلماذا؟
فالشائعات والضغوط التى تحكمها الشهرة على الفنانين، فى أغلب الأوقات نتيجة التركيز عليهم يمثل ضغط كبير لهم، فكلماته تكون محسوبة عليه.وهناك علاقة قوية بين الإبداع والاكتئاب، وأن كلما زاد الإبداع والذكاء كلما زاد الاكتئاب أيضاً.
ولم يكن صلاح جاهين الوحيد الذى عاش داخل دوامة الإكتئاب التى سحبته بمشاعره وبهجته لقاع العزلة والكآبة، فشاركه فى ذلك جميلات ومشاهير وكومديانات، لم تشفع لهم الشهرة والأضواء أن يتخلصوا من حالتهم النفسية السيئة التى سيطرت عليهم، مثل داليدا وسعاد حسنى، وبعضهم وصل حد الإكتئاب للإنتحار مثل مارلين مورلو التى مثلت أيقونة الإغراء فى السينما العالمية، وبحث خلف خطواتها الرجال والأضواء، والممثل الكوميدى الأمريكى روبن وليامز الذى انتحر شنقا بالرغم من أفلامه التى مثل فيها دور الكومديان من العيار الثقيل مثل فيلم "ماما الشغالة".
وأخيرا أختتم بما قاله المتنبي في نفور النوم وقت الحزن وساعه الكأبة:
الحزن يقلق والتجمل يردع ** والدمع بينهما عصي طيع
يتنازعان دموع عين مسهد ** هذا يجيء بها وهذا يرجع
والنوم بعد ابي شجاع نافر ** والليل معي وكواكب ظلع