م

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

مدة القراءة: 5 دقائق

صدى الغياب

عدتُ إلى البيت... البيت؟ لا أدري إن كان ما زال يستحق هذا الاسم... يبدو كقوقعة فارغة، مجوفة من كل ما كان يجب أن يمنحني الأمان... كنتُ، كما أفعل دومًا، أخدع نفسي طوال الطريق إليه... أرتب ملامحي، أخيط ابتسامة هشة على وجهي، وأحدث نفسي أن هذه المرة سأكون أكثر حبًا، أكثر دفئًا... لكن الحب يتبخر عند العتبة... عند أول نظرة في عيونهم، أشعر كأن كل الصفعات القديمة تنهض من سباتها لتصفعني مجددًا... أراهم كأعداء متنكرين في وجوه أعرفها، وربما... ربما أنا الشيطان الذي يتهم الآخرين ليهرب من وجهه. من يدري؟هربتُ إلى غرفتي، ظننتها ملاذي، لكنها كانت مرآة مشروخة عكست فوضاي الداخلية، كأن الجدران تعرفني أكثر مما أفعل... كل زاوية فيها تحمل أثر انكسار قديم، وكل قطعة مبعثرة تشبهني بشكل مؤلم... لم أحتملها... فهربت... كالعادة... إلى الصالة هذه المرة... باردة، فارغة، صامتة، تمامًا كما أشعر داخلي... ومع ذلك، كانت أقل قسوة من غرفتي... ربما لأن الصمت أحيانًا أرحم من انعكاس الذات... أكره هذا الشعور... أن أحبهم كفكرة وأكرههم كحضور... كأن قلبي انقسم لنصفين: واحد يريد الاحتفاظ بهم كذكرى دافئة، وآخر يريد اقتلاعهم من جذوره... وأتآكل بين النصفين... أخطط كل يوم لأن أكون إنسانة أفضل، لكنني كل مرة أصطدم بشخص آخر داخلي، شخص يجرّني نحو ظلامه، يهمس لي أن اللطف وهم، وأن الكراهية أكثر صدقًا. وأحيانًا... أصدقه... أفكر كثيرًا في الرحيل... الرحيل النهائي... الفكرة تراقبني من بعيد، لا تصرخ، لا تستعجلني، فقط تنتظرني هناك، هادئة كظل طويل يمتد كلما غربت الشمس داخلي... لكن شيئًا ما يربطني هنا، خيط واهٍ بالكاد يُرى، ربما شخص بعيد، كغيمة لم تمطر يومًا لكنها لم تختفِ من سمائي...ثم هناك هو... أبي... كأن ذكراه غبار خفيف يعلو كل شيء هنا، لا يُرى لكنه يخنق... أفكر فيه كثيرًا، ليس لأنه حاضر، بل لأنه الغياب نفسه... لم أزُر قبره يومًا... لا أعلم لماذا... ربما لأني أخشى أن أواجه برودة التراب التي احتضنته، أو لأنني أعلم أن لا شيء ينتظرني هناك سوى صمتي... أفقده؟ نعم... لكنني أيضًا غاضبة... غاضبة لأنه تركني هنا، غاضبة لأنه لم يُكمل القصة، أو ربما غاضبة فقط لأن حضوره كان ناقصًا حتى قبل أن يرحل... أحيانًا أبحث عنه في ملامحي، أراه في انحناءة حاجبي، في تلك النظرة العابرة التي لا تشبهني لكنها تشبهه... وأحيانًا أكره ذلك... كأنني مرآة مشروخة تعكس ظل رجل لم يعد هنا... قبره هناك، صامت، ثابت، بينما أنا... لا زلتُ عالقة بين الرغبة في الاقتراب منه، والرغبة في نسيانه تمامًا...وأتساءل: هل الموتى يغضبون إن لم نزُرهم؟ وهل يشعرون بالخيانة عندما نتظاهر بأنهم لم يكونوا يومًا؟ثم هناك هي... أمي. لا أعرف كيف أصوغها دون أن أتوه بين حبي وكراهيتي لها... هي الجدار الأول الذي اصطدمتُ به، والجرح الأول الذي لم يندمل... أحيانًا أراها كبرجٍ شاهق، صلب، يطل من بعيد دون أن يسمح لأحد بالاقتراب... كانت دائمًا هناك، لكن حضورها كان باردًا، قاسيًا، كنافذة مغلقة في ليلة عاصفة... أحبها؟ ربما... لكن هذا الحب مشوه، متصدع، يشبه ورقة محروقة لا يزال طرفها يتوهج... أمي علّمتني أن الحب مشروط، أنه يتطلب قناعًا معينًا، تصرفًا معينًا، صورة نقية تخلو من الشوائب... لكنني لم أكن تلك الصورة... وكنت أعلم ذلك جيدًا... لذا، كنت دائمًا في حالة حرب معها، ومع نفسي... كنتُ أحاول أن أكون الابنة التي تريدها، لكن شيئًا بداخلي كان يقاوم، يرفض، يتمرد، حتى وإن كان الثمن الوحدة... وفي لحظات صمتي، أسمع صوتها في رأسي: "لماذا لا تستطيعين فقط أن تكوني طبيعية؟" سؤال يطرق داخلي كل ليلة، رغم أنني أعلم أنها لا تنتظر إجابة... وأحيانًا أفكر... ربما هي أيضًا عالقة في حربها الخاصة، مثلي تمامًا، لكن جراحها قديمة جدًا، متحجرة جدًا، حتى أنها لم تعد تعرف كيف تفتح بابها لأحد... أما إخوتي... فهم ضجيج لا يخفت... كأنهم يعيشون في عالم موازٍ، لا يرون ما أراه، ولا يشعرون بما أشعر به... أحيانًا أشعر أن بيننا جدارًا شفافًا، يسمح لي برؤيتهم، لكن يمنعني من الوصول إليهم... هم هنا، يملأون المكان، لكن أرواحهم بعيدة، كأنهم نجوم عالقة في سماء بعيدة لا أستطيع لمسها... هناك لحظات أرى فيهم البراءة، في ضحكاتهم العابرة، في ملامحهم التي تشبهني قليلًا، لكن سريعًا ما تتلاشى تلك اللحظات، وتعود المسافة بيننا... أحيانًا أكرههم بلا سبب واضح، فقط لأنهم موجودون، فقط لأنهم يملكون القدرة على الضحك بينما أنا أغرق في صمتي... وأحيانًا أشفق عليهم... لأنهم لا يعرفون ما يعنيه أن تحمل كل هذا الثقل داخلك... لا يعرفون كيف يكون الصمت صاخبًا في الرأس، كيف تكون الوحدة صديقًا دائمًا حتى وسط الزحام... أشفق عليهم، ثم أكرههم مجددًا، وكأن قلبي مصمم على هذه الدوامة اللانهائية بين الحب والرفض... أفكر أحيانًا، لو أنني اختفيت غدًا، هل سيشعرون بذلك؟ أم سيستغرق الأمر وقتًا قبل أن يلاحظوا الفراغ؟ فكرة تضحكني وتؤلمني في آنٍ واحد... كأن وجودي خيط واهٍ، يمكن قطعه بسهولة، دون أن يترك أثرًا يُذكر...ثم هناك أولئك الذين دخلوا عالمي كظلال، أصدقاء، أو هكذا كانوا يُفترض أن يكونوا... لم يكونوا سوى مرايا مشروخة تعكس أسوأ ما فيّ، أو ربما أسوأ ما فيهم... علاقتي بهم كانت رقصة دائمة بين القرب والخذلان... كنتُ دائمًا تلك التي تُنصت، تتحمّل، تُصدّق أكاذيبهم الصغيرة... حتى بدأت أشكك في نفسي... هل أنا المشكلة؟ هل أبدو لهم ككائن ضعيف يسهل سحقه؟ أم أنني فقط كنتُ أبحث عن حطام يشبه حطامي؟هناك من دخل حياتي وهم يرتدون عباءة الملائكة، يلوّحون بالحب والاهتمام، لكن ما إن لمستُ قلوبهم حتى شعرتُ بالفراغ... كانوا يقولون: "أنا هنا من أجلك"، لكنهم غادروا عند أول عاصفة... هناك من وعد بالبقاء... ثم رحل بصمت، وكأن وعده لم يكن سوى صدى يتلاشى مع الريح...وكنتُ أنا؟ كنتُ دائمًا تلك التي تنتظر... حتى بعد أن يرحلوا... أنتظر كلمة، اعتذارًا، حتى نظرة تعترف بأنني لم أكن مجرد محطة مؤقتة... لكن لا شيء يأتي... كل شيء يغادر... وحدي أنا من يبقى عالقة في المنتصف، بين الغياب والحنين، بين الغضب والاشتياق... أحيانًا أتساءل، هل أنا التي أجذب هذا الخراب؟ هل فيّ شيء يُغري الآخرين بالخذلان؟ أم أنني ببساطة أحب أن أتألم، كمن يلمس جرحه ليتأكد أنه ما زال حيًا؟ فكرة غبية، أعلم... لكنها تبقى هناك، ترافقني، كظل لا ينفصل... وربما، فقط ربما، لم يكن أي من هذا حقيقة كاملة... ربما نحن جميعًا مجرد قطع زجاج مكسورة، نحاول أن نرتب بعضها البعض، فنجرح أصابعنا دون قصد... وأحيانًا... أضحك من كل هذا... أضحك كمن يعي أنه عالق في فيلم درامي منخفض الميزانية، حيث الموسيقى حزينة أكثر مما ينبغي، والحبكات مكررة، لكنك مع ذلك... تشاهده حتى النهاية... وهكذا أكتب الآن... لا لأبحث عن إجابة، ولا لأنني أريد الشفقة... بل فقط لأُخرج الضوضاء من رأسي... ولو قليلًا.

مرمر.


م
مريم الحجيرات

أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.

أهلاً بكم في مدونتي! أنا كاتب شغوف أشارككم أفكاري وتجربتي في الحياة من خلال تدوينات أسبوعية. أستكشف فيها التوازن بين القيم والمغريات التي نواجهها يومياً، وكيف يمكننا أن نعيش حياة مليئة بالمعنى والعمق. انضموا إلي في هذه الرحلة الأدبية!

انضم الى اكتب

منصة تدوين عربية تعتد مبدأ البساطة في التصميم و التدوين

التعليقات