بسم الله الرحمن الرحيم

لم أدرك يوما ثقل الجسم الاجتماعي على الفرد ، الا عندما وقفت في وجه هذا المارد الاجتماعي المتوحش ؛ كنت مؤمنا بقسوة و صرامة النظام الاجتماعي ؛ و مؤمنا بالتالي بصعوبة مواجهته ؛ و لكنني  – أ نا ،من كنت مسالِما ، من كنت خاضعا لهذا النظام - لم أدرك أن المجتمع قد يتحول بسرعة الى وحش قبيح لا يرحم ، اذا شككت بأبسط أسسه . اذا حاولت كفرد ، أو كجماعة معارضة ، أن تحقق طموحا ، أو حتى حلما بسيطا ، يستوجب الوصول اليه أن تضرب بعرض الحائط شيئا من العادات او التقاليد الاجتماعية السائدة ، فقد دخلت بقدميك الى دوامة لا تنتهي من العذاب و الالم و الجحود ؛ ستصبح حياتك الهادئة المستقرة جحيما لا يطاق .

ستقرأ كثيرا عن آلية بناء النظام الاجتماعي ، عن تطور الحياة الانسانية البدائية الى الاشكال المعقدة من الحياة الاجتماعية المنظمة و المقننة ... و سيحدثونك عن أهمية القوانين و الأخلاق و الاعراف .... و اذا سألتني ، سأقول لك : انني لست "فوضويا" يدعو الى تقويض الدولة و البناء الذي شيده الانسان عبر تاريخه الطويل . و لكنني سأضيف أيضا -  و بثقة و مرارة - : أن هذا النظام في الغالب الاعم ، مؤسس لمصلحة فئات او طبقات معينة ، لمصلحة القلة ، و على حساب الأكثرية المطحونة . لذلك ، فان كل من يتجرأ على انتقاد هذا النظام ؛ فان النظام سيطحنه ، سيسحقه .

سيُسَخِّرون ضدالمعارضين ، أو المتمردين ، أو حتى ضد الأفراد الحالمين ،  سيُسَخِّرون ضدهم الاديان و الفلسفات و العادات ، ستقف في وجوههم المؤسسات و العشائر ، و سيسحقونهم بلا رحمة .

فاذا وجدت نفسك في أتون هذه الحرب ، سيتخلى عنك الجميع ، لن تجد حولك صديقا و لا أنيسا ، و لا جارا و لا قريبا ، ستكون محظوظا اذا سمعت أمُّكَ شكواك ، أو اذا طبط صديقُ طفولتِكَ على ظهرك ، فالكل جبان او كسول او يائس ، اذا دخلت في معركة ، أو حتى مناوشة ، ضد الوحش المسمى مجتمعا .

ستقولون ان هذا وصف مبالغ فيه ، و لعمري انني كنت سأقول الشيء ذاته لو لم أخض تجربة شخصية جعلتني أشعر بثقل و قسوة ، بل و وحشية ، المجتمع .

ويل للحالمين ، ويل للمتمردين ، ويل للمختلِفِين ، ويل للمبدعين ؛ ما أطول ليلهم ، ما أشد وحشتهم ، ما أفظع  نهاراتهم ... سيتم تكفيرهم ، أو تخوينهم ، أو وصمهم بأبشع التهم ... سيعتقلون ، أو يبعدون ، أو ينبذون ، أو ، في بعض الحالات ، سيقتلون ... نعم ؛ هذا هو الواقع المر ، قلب صفحات النت ، استعرض تقارير المحاكم و الشرطة ، اطرق أبواب الاخصائيين الاجتماعيين ، و ستسمع و تشاهد ما يندى له الجبين .

القتل ، الانتحار ، المخدرات ، النصب ، الاغتصاب .... و القائمة تطول ؛ هذه و غيرها الكثير ، نتيجة أنظمة و مؤسسات حطمت آمال ملايين البشر ، هنا ، و في كل العالم العربي ، بل و في العالم كله ؛ انظر الى الوجوه في بلادنا ، استمع الى مآسي الشباب و مشاكله ، دقق في علاقاتنا الأسرية ، اقرأ عن معدلات البطالة ... لتدرك كآبة الواقع .

اقرأُ يوميا على صفحات الوجوه قلقا و اضطرابا ، أرى في العيون حزنا و كآبة ، الكل تائه و ضائع ، لكن الكل يخدع نفسه و يسليها بعلاقات مشوهة ، أو مشاريع وهمية ، أو آمال زائفة ....

صورة سوداوية ، لكنها الحقيقة ، لكن :
هذه ليست دعوة للقنوط و اليأس ، انما هي دعوة للعمل و التغيير ، تغيير أفكارنا و عاداتنا و مؤسساتنا و علاقاتنا ، حتى تلبي طموحات الجميع . نحن نحتاج الى تغيير عميق و شامل ، فمصائبنا و آلامنا الشخصية كأفراد ، لن تنتهي الا بتغيير اجتماعي سياسي شامل ... و الا فنحن نسير الى الهاوية الحتمية

ما بدأ كمعاناة شخصية ، انتهى الى نظرة ذات بعد اجتماعي ؛ فأنا و أنت ، و هي و هو ، نحن الأفراد الذين نعاني من أجل العمل،  أو الحب ، أو الفكر ، أو الفن .. نحن الذين نعاني كأفراد ، لا أمل لنا الا بتنمية حِسِّنا و وعينا الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي ، ثم بالمطالبة بتغيير الاوضاع الظالمة المنحازة لقلة قليلة تتحكم في رقابنا .