أكتب ما أشعر به، وأحاول أن أكون صوتًا لأولئك الذين لا يجدون الكلمات، بين الحنين والتأمل، أجد في الكتابة وسيلة للتعبير عن مشاعري وأفكاري التي لا تُقال، حلمي أن أكون لغة الصامتين، وأن تصل كلماتي إلى من يشاركني نفس الألم والتساؤلات.
رسائل لن تبعث
إلى سحابتي البعيدة…
صحيح أنني ما عدت أحبك كإنسان، لكنني ما زلت أعشقك كفكرة، فكرة تتسلل إلى روحي كما تتسلل الشمس خلف الغيم، تحضر دون أن تمطر، وتظل رغم تبدل الفصول... كنتُ أتجنب اسمك الحقيقي كمن يتجنب دربًا يعرف أن نهايته جرح، فكان لا بد من اسم آخر، اسم يشبه ندى الصباح، لا يذكرني بعتمة المساء... لكن أحدهم لوّثه، جعله غريبًا عني، كما صرتَ أنت غريبًا، ولم تغب ذاكرتي...
لهذا، لا أجد في هذه الرسالة سوى أن أناديك بسحابتي، كما لو أن كل الأسماء الأخرى قد ضاعت بين الريح... لقد رحلتُ عنك منذ سبعمئة وأربعة وعشرين يومًا، لكنني أشعر وكأنني غبتُ منذ لحظات... كأن المسافة بيني وبينك ليست زمنًا، بل وهمٌ يُعيد نفسه كلما أغمضتُ عيني... ما زلتُ أنتظر أن تظهر لي من العدم، أن تأتي كأمنية ضائعة في ليلة باردة، أن تلتفت نحوي من حيث لا أتوقع، وكأن الغياب لم يكن إلا استراحة بين نداءين... أتدري؟ حين رحلتُ عنك، كنتُ أرغب في أن أعود إليك لأشتكي لك منك، أن أحكي لك عن خططي للانتقام، كيف كنتُ أريد أن أجعلك تشعر بما شعرتُ به، أن أقتصّ منك بحزنٍ يشبه حزني... لكنني كنتُ أعلم أنك ستُسكن عذابي بكلمة عابرة، ستطفئ ناري بجملة تلقيها دون اكتراث، كأنها لا تعني شيئًا، لكنها كانت تعني كل شيء... لقد كنتَ لي عذابًا، لكنك كنتَ أكثر العذابات أمانًا، وجعًا يحتويني بدل أن يمزقني، ألمًا ناعمًا، ينساب كالمخدر في الروح بدل أن ينهشها... حاولتُ نسيانك، لكن غيرك حاول أن يسرق ما تبقى منك في قلبي، فذبحه دون أن يدري أنه لم يكن يملك حتى الحق في لمسه. كان دخيلًا على وجعي، عابرًا لم يكن له أن يترك أثرًا، لكنه أخطأ حين ظن أنني له، بينما لم أكن حتى لنفسي، كنتُ ظلًّا لذكرى لم تغادرني... ومع ذلك، لم أكرهه، فلم يكن أحدٌ ليستحق كراهيتي غيرك، لأنك وحدك استطعتَ أن تكون كل شيء ثم لا شيء في آن واحد، أن تملأ عالمي حدّ الاختناق، ثم تتركه فارغًا كصحراء لا نهاية لها... ظننتُ أنني تجاوزتك، أنني مشيتُ بعيدًا بما يكفي لأكون منيعة ضدك، لكن هذه الأغنية، التي لطّخها ذلك السارق أيضًا، أوقفتني فجأة، جعلتني أعود إليك كمن يسير بلا وعي نحو حتفه، وكأنني لم أبتعد يومًا، وكأن سبعمئة وأربعة وعشرين يومًا لم تكن سوى استراحة بين ألمٍ وألم...مررتُ بالكثير منذ أن غادرتك، وتجاوزتك بطريقة لم أخبرك بها، كأنني محوتك بصمتٍ، دون صخب الفراق المعتاد... لكنني اليوم أرغب في أن أحكي لك كيف أصبحتُ بلاك، كيف غدوتُ نسخة من امرأة لم تعرفها، امرأة لم تعد تشبهني كما كنتُ معك، أو ربما صرتُ أنا ذاتي لكن من زاوية أخرى، تلك التي لم تكن تراها...أتدري؟ أكره ميكاسا وإيرين، أكرههما لأن قصتهما تشبه قصتي معك، لأنها قالت له ذات الكلمات التي قلتها لك، لأنها حملت حبها على ذات الطريقة التي كنتُ أحبك بها... أشفق عليها كما أشفق على نفسي حين كنتُ أكتب لك رسائل لا تصل، حين كنتُ أبعثر كلماتي بين يديك ظنًا أنني أُبقيك قريبًا، بينما كنتَ تبتعد أكثر... وأخشى... أخشى أن أظل عالقة في هذا الدور كما ظلت هي، أن أكون ظلًّا لقصة انتهت، لكنّها تأبى أن تُطوى... أعلم أننا لن نلتقي، لكنني ما زلتُ أنتظر وعدك بأن تطبخ لي، ما زلتُ أترقب لحظة أعاتبك فيها، ثم نتصالح كما كنا نفعل دائمًا بعد شجاراتنا الطويلة، كأن العتاب كان طريقًا آخر للحب... وما زلتُ أدمن الشاي منذ رحيلك، رغم أنك تعرف أنني كنتُ أحب القهوة أكثر، لكنني أشربه الآن وكأنني أرتشف بقاياك، وكأن طعمه يحمل نكهة غيابك... أنظر إلى النجوم وأتذكرك، وأتذكر ليالينا الصيفية حين كنا نتحدث عن الأحلام كأنها قريبة، كأنها تلمس أطراف أصابعنا، قبل أن تفرّ منا كما فررتَ أنت... لم أكن أحب الزهور قبلك، لكنها صارت تشبهك، صرتُ أعشقها لأنها تحمل شيئًا منك، شيئًا يشبه حضورك الذي لا يزال يطاردني رغم الغياب... أخذتُ منك كلماتك، وعاداتك، وحتى طريقة رؤيتك للعالم، حتى صرتُ لا أعرف إن كنتُ ما زلتُ أنا، أم أنني مجرد ظلٍ لما تركته خلفك، كأنك رحلتَ عني لكنك لم تغادرني أبدًا...ما زلتُ "مرمر" خاصتك، وإن ناداني أحد بهذا الاسم، أشعر أنني ما زلتُ أنتمي إليك، كأن صوتك لا يزال يسكنه، كأنك حين منحتني هذا اللقب، وسمتني بشيء منك لا يزول...أتدري؟ قالت لي صديقتي إن الحب الشديد ينقلب إلى كراهية، فحاولتُ أن أُجدد كرهي لك حتى لا أفقدك، حتى تبقى في داخلي بأي صورة كانت، لكنني وجدتني أقع في حبك من جديد، وكأن قلبي يأبى أن يسلك طريقًا لا يؤدي إليك...نعم... أنت وحدك من يستحق أن أتعذب لأجله، أن أضع نفسي في هذا التيه الأبدي، كأنني خلقتُ لأضيع بين حبك وكرهك، بين نسيانك والتشبث بك، بين أن أتركك... وألّا أتركك أبدًا... اليوم، السماء أمطرت كثيرًا... تعالَ لأسقي زهورك، تعالَ لأحكي لك عن خيباتي التي تُزهِر في قلبي، لتعاقبني على كل هذا الحب العالق في صدري، الذي لا يزال يصرخ باسمك رغم مرور الزمن... أتدري؟ كلماتك القاسية ما زالت تتردد في أذني، لكنها أعذب صوت عرفته، كأنها الحزن الذي يحاول أن يختبئ وراء جماله، وكأنها العذاب الذي صار جزءًا من لحن روحي... أتخيل لو التقيتك الآن، سأصفعك بقوة، ثم سأضمك، عقابًا لك وعقابًا لي، كأننا نعيد ترتيب العواصف التي أرسلناها لبعضنا، رغم أن هذا يخالف قواعدنا القديمة، تلك التي كنا نتبعها وكأنها تظللنا... لكن ربما في هذا الخرق لقوانيننا، نجد معًا ما فُقد... ما زلتُ أنسج لقاءنا في مخيلتي، لقاءً لا يشبه الواقع، في مقهى عتيق في فصل الخريف، حيث تسقط الأوراق وتظل الذكريات تراوح بين الغيوم... رغم أننا لو التقينا، فلن يكون في مكان كهذا، إلا أنني ما زلتُ أصر على تصويرك هناك، كأنك ملجئي الوحيد من عالمٍ لا يشبهنا... ما زلتُ أغار عليك، أكره من تقترب منك، وأكرهك أيضًا، لكنني أفقُدك في الوقت ذاته، وأحزن عليك كما لو أنني كنتُ أرى فيك كل شيء ثم ضاع... أتعلم؟ لأنني لن ألقاك أبدًا، صنعتُ لنا عالمًا داخل روايتي، حيث يتناثر حديثنا على الورق، ولكنني أعرف في قرارة نفسي أنني سأكون وحدي فيه، أنني سأعيش فيه كل كلمة وحرف وأنت... لن تقرأها أبدًا،يا سدرتي، التي أفضل أن أرتمي في حضنها على أن أعيش تحت ظل ياسمين شخص آخر، إنني ابتسم ببلاهة لأن قلبي ما زال ينبض باسمك... لقد كنتُ أخاف، أخاف أن ينبض لغيرك، ولكنك كنتَ طيفًا حيًا في داخلي، يكاد يملأ المسافة بين التنفس والوقت.... لقد كنتُ قبلك كشجرة منسية، جذوري ضائعة، حتى سقيتني بآمطارك، فغدوتُ مليئة بالزهر... تعالَ، فقد افتقدت مطرك، تعالَ ودفئني بنيرانك، فروحي ترتجف وتحن إلى لهبك، فلا شيء يواسيني غير احتراقي في داخلك... لا أريد أن أنهى الرسالة، لأنني أشعر كأنني سأصطدم بعالم لا أنتمي له... ما زالت جدتك الصغرى توتر عند محادثتك، حتى في غيابك، ما زلتُ أخجل منك رغم الجرأة التي تظاهرت بها... ليتك تلك المرة قبلت أن أكون أختك، لكنت خسرت حبي، ولكن على الأقل ما كنتُ سأفقدك... ما زلتُ أسمع الأغاني التي تذكرني بك، وأفعل التصرفات التي تستفزك، لعلك تعود... لكن لا أحد يتعذب غيري، وأنا هنا، في هذا العذاب الذي اخترته بنفسي... أرجوك، عد، لنتفارق بطريقة أكثر رقة... أتدري، إنني أرغب لو أصيح في وجه الجميع لينادوني باللقب الذي أطلقته عليّ: مرمر، كاعتراف بأنني أنتمي إليك... ليجعلوني أقترب أكثر إلى نارك المحرقة، فحرقك لي أفضل من سلام بدونك... سأحرص على أن أفي بوعدي لك بأن أكون "مرمر الصالحة" التي أردتها أن تكون، لكنني أيضًا مريم السيئة التي تنتقم منك من خلالي... إنني أشعر وكأنني سيزيف في رحلة تخطيك، لكنني سيزيف سعيد، لأن كل خطوة في هذه الرحلة تكون نحوك، وإن كانت ألمًا،سحابتي، ياسين... آه، كما هو صعب عليَّ تحرير اسمك حتى لو على الورق، إنه يجعل كل شيء يختفي، يجعلني ضائعة بين حرف وحرف، بين الذاكرة والواقع... اسمك، الذي كان ينبض بين شراييني، جعلني أعيش في عذابٍ غير مرئي، يجمع بين الأمل والخذلان... أتدري، ما زلت أطالع أخبار بلادك، وأسأل الله لك السلام حيثما كنت... وما زلتُ أرتعش خوفًا حين أرى خبر وفاة شخص يحمل نفس اسمك، وأفرح حين أجد أحدهم يحمل نفس اسمك، فرحانًا كأنك أنت، وأحزن حين أرى شخصًا يحمل اسمك لكنه قد عقده باسم فتاة أخرى... كنتُ أعتقد أنني سأتصالح مع الفكرة، لكنني أدركت أنني لا أستطيع... رغم أنني لن ألتقيك أبدًا، ما زلتُ أنتظرك، أنتظر يومًا تصبح فيه لي، مهما ابتعدت المسافات، ومهما كانت الأيام قاسية، سيبقى اسمك في قلبي كالظلال التي لا تفارقني..سحابتي العزيزة، عد، لأخبرك عن انتصاراتي التي لم تكتمل من دونك، وعن خساراتي التي تزداد مرارتها في غيابك... فلا شيء له معنى من دونك، ولا فرحة تكتمل إلا بوجودك... عد، لتتأمل جمال روحك من رسائلك التي كانت تنير ظلمات الأيام... لقد صار العالم رماديًا جدًا، لا يحتمل، وكل لحظة تمر دونك تزيد من هذا الفراغ الذي يحيط بي... عُد، فقلبي لا يجد الطمأنينة إلا في حديثك، ولا أمل لي سوى أن أعيش في ضوء كلماتك...سحابتي، كم هو مرهق هذا الشعور الذي يلاحقني، كما لو أنني أعيش في عالم موازٍ حيث كل شيء يضغط على صدري دون أن أستطيع إخراجه... عروقي تكاد تنفجر من كثرة ما أخفيه داخلي، وكل كلمة تحتاج إلى أن تخرج لتريحني، لكن لا شيء يبدو كافيًا... أنا متعبة جدًا، وأشعر أنني على حافة السقوط، دون أن أتمكن من الهبوط بأمان... سأرتاح قليلًا، لا لشيء سوى لأنني أخشى أن تؤذي هذه الكلمات المتناثرة قلبي، أو أن تسرع من تقدمي نحو نهايتي، تلك التي أخشاها أكثر من أي شيء آخر... أخاف أن يموت حبي، أخاف أن لا أستطيع أن أحبك في العالم الآخر، وفي نفس الوقت أخشى أن يصيب الخريف قلبي حين تبتعد الأشجار عن أوراقها، كما يبتعد حبي عنك...سحابتي، أحتاج إلى فترة صمت لتعود إلي قوتي، ولكن قلبي لا يعرف الراحة ما دمت بعيدًا عنه...
نعم، تجاوزتك، لكن هذه الأغنية الملطخة بذكراك، عادت لتذكرني بك وكأنها مفتاح لقلبي المعلق بين الحنين والخذلان... ليتك تسمعها، ليتك تشعر بها كما أشعر، ليتها تعكس لك عمق مشاعري التي لا تزال متجذرة في كل لحظة تذكر فيها... يا سدرتي التي أشتاق لاحتمائها، ما زلتُ أفضلك على أي ظل آخر، مهما طال الزمان، ومهما ابتعدت المسافات... كل ما أريده الآن هو أن أعود إلى سجني، فقد سئمت الحرية التي لا تحمل سواي، سئمت هذا الفراغ الذي يملأني ولا يملأني.
رسائل لن تبعث من مرمر