2

ذلك وإن البسملة باعتبار ما لها من أهمية بالغة في دين الله تعالى الذي هو الإسلام مما نتج عنه تضمنها لمسائل عدة تتناسب وتلك الأهمية العظيمة، مما حدا بأهل العلم بعلاجها كل فيما يخصه.

لنجد أن أهل التوحيد والعقيدة يشرحون مما سبق بيان بعضه في أصول الإيمان والاعتقاد.

ونرى كيف تناولها أهل الفقه وأصوله في مسائلها المتعلقة بهما.

ويكرس أهل القراءات لها بابا عظيما. وهكذا كل فن من فنون العلم المتباينة تجد أهله يتناولونها على وجه يعالج مما هم قد تخصصوا فيه وأحسنوا الكلام بشأنه.

و﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ أبتدئ فعلا أصاحبه، و﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ مستعينا به ملتمسا بركته، وفي الحسبان أن ذكره تعالى كله بركة، وعلى وجه كان في الشرع مقبولا، إن بحمده فذاك ثناء، وإن باسمه تعالى فذاك تبرك وغناء، واجتلاب عطاء، وإن بهيللة فذاك توحيدي، وإن بسبحلة فذاك تنزيهي، وإن بحسبلة فذاك عليه توكلي، وبه يكون يقيني.

تنويه:

الهَيْلَلةُ هي حِكَايَةُ قَوْلِ : لآ اِلَهَ اِلّا اللّهُ.

السبحلة هي حِكَايَةُ قَوْلِ : سُبْحَانَ الله.

الْحَسْبَلَةُ هِيَ حِكَايةُ قَوْلِ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.

وهكذا يدور عبد في فلك الرعاية والإكلاء من رب كان به وبغيره من عباد الله تعالى رحمانا رحيما، وكيف بعبيد سالك طريق ربه الرحمن إلا وذكر له بالفؤاد موجب للسلامة والرعاية وقضاء حاجات، وما أكثرها، وشفاء من أدواء وما يكاد امرؤ لها محصيا عددا، ولا يكاد أحدنا محيطا بها سببا، وإذ بربه الرحمن سبحانه يكفيه، ومن حيث لا يحتسب لها من وقت أو زمان أو مكان أو من سبب، سوى أنه أصبح متقلبا في ذكر مولاه وبه أمسى مُتَحَوِّلا من حالِ ذكرٍ وتسميةٍ إلى حالٍ تبركا وتنزيها! فمن ثم يكلؤه ويرعاه ويؤويه، ومن ثم يصدح في الأكوان أن كاد رب لعبده المسكين الخاضع الذليل يغنيه!

وإن أحدنا ليشعر بأمن، ليس يبقى بعده من أمان، فقد حازه جله، أو إن شئت قلت قد فازه كله! وذلكم حين يقول ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ، وإن أحدنا ليجد من حال نفسه طمأنينة هي من بركة قوله ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ، لا يمكنه التعبير عنها مقالا، وإن كان الحال بها أشد نطقا من مقال!

وإن أحدنا ليجد من نفسه أمنا حين يقول ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾ ، وإن أحدنا ليجد من طعامه مذاقا حين يقول ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم﴾، والحمد لله، وقد يمكن أن تكون غصة فلا يستطيع حيالها، لا حول له أمامها ولا قوة.

وإن أحدنا ليشرب الشربة الهنيئة، ليجدها عذبا فراتا سائغا شرابه، وما ذاك إلا من فيض ﴿باسْمِ اللَّهِ﴾ ، حين يشرب، مستحضرا عظمة منعم بشراب، جعله الله تعالى في فِيْهِ سلسبيلا برحمته، ولم يجعله ملحا أجاجا برأفته، ومن ثم فكان قمن أن يبدأ شربته هنيئا ريها ب ﴿باسْمِ اللَّهِ﴾ ، مستحضرا ذلكم الفيض والعطاء من النعم في شربة ماء واحدة، وقد كان من يُسْرٍ طَفِيفٍ ألا يجدها من أساس، وقد كان من  سَلِسٍ سَهْل ألا يقدر على شرابها ابتداء  أيضا، وهي إذ كانت من أمام غيره هكذا، وها هو إذ يراهم من أمامه لا يقدرون لها تناولا، ولا هم بمستطيعي قربا منها، أمرا من طبيب، أو إيجابا من سقم! وهو إذ هو فرد كغيره من أفراد يسري علينا نظام كون الرب الرحيم اللطيف الغفور سبحانه.

وإن استدراكه حال نفسه بقوله ﴿باسْمِ اللَّهِ﴾ لكان من فيضه غُنْمٌ بالشرب، ولكان من أثره رَوْحٌ للظمأ، ولكان من استرواحه نيل بالإرواء، وفوز باسترخاء، يعلمه الشاربون من بعد ظمأهم! وإلا فغيره أيضا أمامه، لا يكادون يستطيعون شربة ماء واحدة، وهو إذ يراهم من قدامه رأي عينه، وهو إذ يرمقهم من أمامه نصب مقلته، لا من خبر من هنا، ولا من نبأ من هناك!

وباسْمِ اللَّهِ يكتب أحدنا، وقد كان يمكن ألا يكتب! لولا أنه يقول﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾! وقد كان يمكن ألا ينساب قلم، أو يوفق لمعنى مفيد، ليكون في سجلات الحسنات، وسنة حسنة، يكون لأحدنا أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا، رحمة من الله تعالى ربنا الرحمن ورضوانا! أو أن يكتب قولا يكون به سنة سيئة، وعليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، عدلا من الله تعالى ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف:49].

وباسْمِ اللَّهِ يقرأ أحدنا، ويستحضر مَلَكَاً آمرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ربه ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1]. وقد تعلمنا منه تقديما بالبدء ب ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾! وقد أيقنَّا كيف أن الله تعالى اختار لعبده أمرا كان أول ما أمره به أن قال له ذلكم قولا سَنِيَّاً مُضيَّا، لولاه بركةً وعطاءً ومنحةً، ما كان الله تعالى قد أرانا كيف كان بدءا به أمرا لرسوله ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، بل ومن قبله الملك الكريم جبريل عليه السلام، أن بلغه البسملة ابتداء لتحصيل بركتها، وتعليمه علمها، وكأني بربي الرحمن سبحانه قد ألقى في روع جبريل الملك الرسول القوي الروح الأمين أن يكون تبعا لرسولنا محمد   صلى الله عليه وسلم، متبركا بها، وكذا إخوانه الرهط الملائكة الكرام، عليهم أفضل وأزكى السلام! فذاك درس من وراء درس، واللبيب بالإشارة يفهم!

بل إني قلت: ولست أراني مجافيا لما راح إليه الذهن، ولما استفاضت به الخواطر، إن ربي الرحمن سبحانه كان قد ألقى في روع رسوله صلى الله عليه وسلم من بعدُ أيضا، أن نجاح دعوته ما كان ليكون لولا بركة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1].

وباسْمِ اللَّهِ يقرأ أحدنا، وقد كان يمكن لأحدنا ألا يقرأ، وقد كان يمكن أن يقرأ ولا يفهم ! وقد يمكن أن يقرأ ولا يوفق إلى عمل صالح بمقتضى علم علمه، ومن موجب درس درسه، ليكون فاعل ذلك من مثل ما قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [ الجمعة:5]!

و باسْمِ اللَّهِ تعالى أموت وأحيا، حين نوم أحدنا، وقد كان يمكن ألا ينام، فتصيبه لأواء أرق يقض مضاجعه، فلايكاد يهنأ بنوم، أو بطرفة عين منه، والله المستعان! ولما أن قدم بين يدي ربه فَقْراً  وإذعانا له بقوله ﴿ باسْمِ اللَّهِ ﴾، إذ هو الغني، وإن من موجب لطفه أن يهدأ أحدنا بنوم، لا يشعر بنعمته سوى من فقده!

وباسْمِ اللَّهِ - سبحانه - أرجوه عفوا ونجاة من كل شر، ومن كل ما من شأنه أن يسبب أذى، وباسْمِ اللَّهِ تعالى أعلو وأخفض جناح الإنابة لرب كان ولا زال رحمانا رحيما، هرولة يفيض على أحدنا من جوده وكرمه، حين يكون ذكره ودعاؤه وثناؤه على اللسان عذبا فراتا رطبا، وفي الفؤاد تقديرا لا تأخيرا بذكر وتسمية تنزيها وتعظيما وتوقيرا ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ۞ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الزخرف :84 - 85].

فسبحان من خلق وأبدع وسير ووفق عبدا أن يقول ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، كل حياته، وسائر أمره، وهو إذ يستحضر من عند ذات نفسه، بعد إذ وفقه مولاه قوله تعالى الحق المبين، وهو أصدق القائلين﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:162]. 

وإن أحدنا ليحاط بحفظ مولاه حين يقول ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾، وهو إذ يكاد يعيشها حلاوة في عيشه، وهو إذ يكاد يرومها قصدا في رغده، وما كل ذاك إلا من سر ما تعبق به البسملة من أسرار، وما ذاك إلا من شأن ما تجود به البسملة من أخبار،    عرفنا عنها كثيرا غَفِيرا واسِعا وَارِفا وفِيرا، وأدركنا منها فَيْضا جَمّا أَثِيثا غَدَقا غَزِيرا، بيد أننا لا نزال بحاجة إلى استفراغ وسعنا للوقوف على هذه البركات وتلك المنح والمعاني السامقات، من وراء بسملة، هي من أعز ما حبا الله تعالى به عباده، عطاء منه غير مجذوذ.