اظن ان القدم و الجدة مفهومان نسبيان تماما ؛ فكل جديد يحمل في رحمه من القديم شيئا أو أشياء :

انت ، و انا ، و هم ... ترى من نكون : فلان بن فلان بن فلان ؛ و هكذا حتى نصل الى آدم - عليه السلام ، ابينا جميعا - . اذن فأنت،  و أنا ، و هم، نحمل - كما يعلمنا درس الأحياء - صفات جسدية ، و نحمل - كما يعلمنا درس التاريخ - صفات خلقية ، ربما ، اتصف بها آدم عليه السلام ...

نحن اذا لسنا نحن تماما ...!

من منا اختار دينه ؟ اننا - غالبا - ما نتنصر ، او نتهود ، او نسلم بناءا على رغبة آبائنا ...

 من منا سن قوانينه الاخلاقية ؟ من منا اختار عاداته الاجتماعية ؟اننا  غالبا ما نربى على فعل هذا، و ترك ذاك ...

ثم : كم منا من يحمل فكره الخاص الخالص، المختلف ، أظن ان المبدعين قلة ، ان المختلفين قلة ، الغالب الاعم منا يفكر له ( بضم الياء ) و لا يفكر ...

هذا عن عالم الانسان فماذا عن بقية العوالم ؟

ان نظرية التطور - الثابت علميا انها أقوى من نظرية - تقول لنا : ان كل المخلوقات تطورت عن أسلاف معينة ... و حتى اذا لم نؤمن بما يقوله التطوريون، فان ما يصدق على الانسان يصدق على الحيوان - أجلكم الله - مع فارق مهم هو : ان التشابه في عالم الحيوان اظهر شكلا و سلوكا ؛  فالحيوان لكي يعيش يعتمد كثيرا على غريزته، فيكرر الخلف ما فعله السلف  : طريقة احتضان البيض ، موعد الهجرات و طريقها ، موسم التكاثر ... الخ .

اما في عالم النبات فربما يكون الامر اوضح و اوضح ، فنحن - اذا ما تجاهلنا عبث البشر في تركيبة النبات و بالتالي تغيير صفاتها - نجد ان اشكال النباتات ، و تركيبتها ، و طعم ثمارها متشابهة الى حد بعيد ...

و هكذا فالجديد دائما يحمل في رحمه شيئا من القديم ، و كلما كانت مرتبة الموجودات ادنى ،كلما كان هذا التشابه - الذي يصل احيانا الى درجة التناسخ - اظهر ...

ماذا يعني ما قلناه ان صح ما لاحظناه ؟

انه يعني ان الانسان يستطيع ان يتحرر من الحتميات لأنه ارقى المخلوقات ، نعم هو لم يختر دينه ، لم يسن قوانينه ، لم يضع عاداته ، نعم هو - خاصة اذا ما استسلم - نسخة من اهله و اقاربه و مجتمعه ، هو - اذا ما استسلم - العوبة بيد الأنظمة و المؤسسات الاجتماعية ( العائلة ، المدرسة ... الخ) ... لكنه رغم كل هذا  يستطيع ان يتحرر ، يستطيع ان يغير ، لانه- كما قلنا هو الارقى - انه ليس نباتا ، ليس حيوانا ، انه مستخلف في الارض ، و لانه كذلك ميزه الله - سبحانه و تعالى - بالعقل ...

العقل ، ان العقل اذا هو أداة التغيير ، ان استخدامه هو الطريق الى التحرر من كل القيود ...

و أستدل على رايي هذا بالقرآن الكريم الذي عاب على المشركين اتباعهم و تقليدهم لآبائهم ، و طالبهم باعمال عقولهم ، و أمرهم بالتفكر و التدبر . بل ان في القرآن آية كريمة توحي بأن الانسان يستطيع تغيير قدره ، يقول الله تعالى : 

( يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده ام الكتاب)

لقد فهم البعض من هذه الآية ان ما قدر قد يمحى اذا غير الانسان و بدل ، و الله اعلم .

لقد دارت هذه الافكار في راسي عندما رايت تصميما جميلا بسيطا ،و لكنه - كالعادة - عميق للفنان المبدع ( فريد عماره) يصور فيه العام الفائت و العام الحالي ، و كأنهما صفحتان متقابلتان في دفتر ، و هناك ريشة تحمل ألوانا من صفحة  العام الفائت ، و تصبغ بها طرف صفحة العام الحالي الجديد ... قلت :انها فكرة عميقة جميلة .. و لكني اتمنى الآن لو رسم الفنان الجميل ريشة-  او ريش أخرى- تحمل الوانامتميزة ، و ترسم اشكالا مختلفة على صفحة العام الجديد ...

اننا نريد ايها الفنان رسما جديدا مختلفا لعامنا الجديد ، نريد له الوانا مختلفة ، نريده متمردا ثائرا على سلفه ... نعم اننا مسكونون بالماضي ، متأثرون بما كان، و لكننا لن نكون ابدا عبيدا لتراث و ميراث فكري و سياسي وضعه آخرون ، لن نبقى لونا او رسما في لوحة رسمها آخرون ... فنحن يا سيدي بشر مكرمون ... 

اللهم اكرمنا في عامنا الجديد هذا و لا تهنا ...