القول السهل الرخيم في باء ﴿ بِسْمِ ﴾
من المعهود أن القرآن العظيم إنما حوى من البلاغة والإعجاز البياني ما عجز أمامه البلغاء، ووقف أمامه الفصحاء ذهولًا واستشرافًا لمكامن الدُّرِّ فيه، حتى أضحى ذُخرًا سخيًّا للعطاء اللغوي، وحتى أصبح مَعِينًا غنيًّا بالزاد البياني.
ومنه سرُّ الأدب في مجيء حرف الباء مقدَّمًا في قول الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه: ﴿ بِسْمِ ﴾؛ مما حدا بأهل البيان أن يتحلَّقوا حولها شرحًا ودرسًا، وبيانًا وتفسيرًا، وتجزيئًا وتفصيلًا، وإيجازًا وإطنابًا؛ لاستفراغ وُسْعِهم في اسكتناهِ كنوزها، وبذل جُهْدِهم في استنطاق جذورها.
وطاف بهم عملهم، وراح بهم بيانهم إلى جميلِ قولٍ، واعتبار بيان، أنها متضمنة لمعاني الاستعانة في قول، وإلى أنها متناولة لمعاني المصاحبة في اختيار.
وأقول: إن تلكم السياحة شرحًا وإفهامًا لهذه الباء، وهي في ابتدائها مبنًى لَبَاءٌ (ب)، وهي في انتهائها إعرابًا لَحَرْفُ جَرٍّ - لَقَمِنٌ وحده أن نقف أمامه إخباتًا واستشعارًا للخضوع لمنزل القرآن العظيم، أن جعل من حَبْكِهِ لحرف الجر الباء أنَّ قومًا يدورون ويبحثون عن علة ورودها، وآخرون يسهرون وينقبون عن سر وجودها!
ووجه اللغة فيها هو اتصالها بكونها من لغتنا العربية المجيدة؛ إما جزءًا من بنية كلمة كقولنا: كتب، وإما زائدة على بناء الكلمة لمعنًى فيها، وهو الذي نعنيه ابتداءً بقولنا: ﴿ بِسْمِ ﴾.
وحرف الباء من حيث هو حرف هجاء أعجمي لا يُفهَم بإفصاح مجردًا، ولا يفهم منفردًا بحاله إلا عند اتصاله بغيره، فها هنا - وها هنا فقط - يمنحك من دُرَرِهِ، وعندئذٍ - وعندئذٍ فقط - يهبُك من أصدافه، فتعرف من بعده معنًى مقصودًا مطلوبًا، وتدرك من ورائه مرمًى وهدفًا محبوبًا مرغوبًا.
وإنما كُسرت الباء لتكون حركتها شبيهة بعملها، كونها تجر الاسم بعدها، أو فرقًا بين ما لا يكون إلا حرفًا، وهو الباء كالتي معنا الآن، وبين ما قد يكون مآله اسمًا نحو حرف التشبيه الكاف، فإنها تكون دالة على اسم؛ نحو قولنا: محمد كالأسد، فتكون في الذهن أن الكاف دلت على اسم الأسد، فكانت بمثابته.
وتميِّزُها المشاكلة؛ إذ لما كانت الباء تخرج من بين الشفتين فسميت شفوية لأجل ذلك، ولما أن كانت تخرج من بينهما بالتصاق - فشاكلت بذلك كل ملتصق بالدلالة عليه.
ولعل سرًّا في اجتبائه دون غيره؛ إذ لما كان متمتعًا بصفات الحروف القوية من الجهر والشدة والاستفال والانفتاح والإذلاق والقلقلة، فناسب أن يذخر بسموٍّ، ولاءم أن يُرْفَعَ بعلوٍّ!
والباء لها نظم طبيعي ونسق ترتيبي؛ إذ لما كانت الباء من مبدأ الفم لفظًا، وكذا البسملة نطقًا، واتحادهما بمبدأ الفم، منحهما المناسبة بينهما في أدق مبانيها، وأرفع معانيها، فسبحان منزل القرآن؛ وقد قال فيه: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وبه فمجيء الباء أبدًا في قوله تعالى: ﴿ بِسْمِ ﴾؛ لزيادة معنًى متضمن فيها من تبرُّكٍ وتيمُّنٍ وتعريف وزيادته معه؛ بحيث يمكن القول: إنه لو زالت الباء، لزال هذا المعنى الزائد.
وإنَّ جَعْلَها للاستعانة يُشعِر بأن ضعفًا ملازمًا للإنسان حال عزمه على قيامه بفعل ما، وقد اضطره ضعفه أن يستعين، وقد وجد في قرارة نفسه أن يستكين إلى ربه الرحمن سبحانه وحده، وهذه من ألطاف العبودية لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه، وهي أيضًا من دلالات الخشوع، وهي نبأ من شارات الخضوع لمولانا الله تعالى.
والباء فيها احتكام إلى صفاء قلب، فليس يكون عامرًا إلا بذكر مولاه، وليس يكون إلا راجيًا عفوه، ومبتغيًا عونه وهداه سبحانه، وأنه من ثَمَّ لا يستعين إلا بربه الحق المبين سبحانه، فقدَّم بين يديه الباء عند قوله: ﴿ بِسْمِ ﴾، مما دلَّ على ما لحرف الباء بهذا المعنى من زيادة مدخل في الفعل، حتى وكأنه - أي: الفعل - لا يتأتى ولا يوجد دون اسم الله تعالى، وحتى وكأنه ليس يدلي بهذه المعاني الفضفاضة في الفضاء البياني الواسع المديد إلا مستمدًّا ذلكم الفيض من ملابسة حرف الجر الباء مع اسم الله تعالى ربنا الرحمن؛ ليعطيَنا تفاعلًا خيرًا، ويمنحنا عطاء وجودًا وكرمًا، وهو من لطف المعاني التي منحها الله تعالى للحروف، ومنها حرف الباء حال اتصاله بقولنا: ﴿ بِسْمِ ﴾.
ولئن كان من معانيها استعانةٌ به تعالى وحده، فإنه أيضًا معنًى مفضٍ بكل وسع إلى إسقاط أحدنا حولًا له أو قوة، وهو مستشعر تمامًا فقره أمام سلطانه تعالى وقيوميته، حتى وجد من صدق لجوئه أنْ تبرأَ من كل حَولٍ سوى حَولِ ربه، وإلا أنه قد أناخ رحاله أمام باب قوته تعالى منطرحًا ألَّا قوة له إلا به سبحانه، وسائر ذلك من لطف قوله: ﴿ بِسْمِ ﴾.
وليس يعجب أحدنا عند إفراده تعالى بالاستعانة به وحده؛ فكم من مأزق وُضعنا فيه، ولما لم نجد سواه حين استعانتنا به وحده، ليخرجنا منه بسلام آمنين مطمئنين.
وليس يعجب أحدنا حين يرى خُيلاء من نفسه الأمارة، وأنه بإمكانه الخروج عن معاني الاستعانة بالله تعالى ربنا الرحمن وحده، ولو طرفة عين، إلا لكي يجد نفسه وكأنه كان مرتكنًا إلى جُرُفٍ هارٍ، فانهار به ومعه معًا.
وثمة معنًى لطيف آخر أنبأنا عنه حرف الباء؛ إذ يعد استعمالها في معنى المعاني القلبية أكثر من كونها أداة للأفعال، وهو ما يناسب كونها للتبرك باسم الله تعالى تأدبًا معه، وتعظيمًا له سبحانه.
إذ لما كان ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم قائمًا على وجه التبرك، وبحرف الباء، ومنه فكان ملائمًا أن يرد عليهم في ذلك بقولنا: ﴿ بِسْمِ ﴾.
وحرف الباء دالٌّ على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى حين تلبَّس العبد بذلكم الفعل، وحيثما أقول فعلًا، فإن بيانه كل فعل قد عقد أحدنا عزمه على القيام به، ومنه فهذه حيثية امتلاء قلبٍ بالإخبات لربه واعتماره به؛ وعليه فهي شارة طمأنينة فؤادٍ لذكرِ مولاه تعالى؛ إذ جعل قلبه مملوءًا من أسماء الله تعالى وتوحيده، ومن ثَمَّ فلا يجد في ذات نفسه افتقارًا إلى أحد سواه سبحانه.
ولما أن كان التبرك والتيمن باسمه تعالى كمعنًى ظاهر مركوز في فِطَرِ الحُنفاء، فدلَّ على لزوم حرف الباء قيامًا لدواعي الافتقار، ودليلًا على معاني الالتجاء إليه سبحانه وتعالى وحده.
والباء في قوله تعالى: ﴿ بِسْمِ ﴾ دالة على إيجاز المباني تحصيلًا لكثير من المعاني، ولقد كان منها ذلكم الاصطفاء بكشف الضر كله، واجتلاب النفع كله من لدنه تعالى، ولقد كان من بركة ذلك قولنا: ﴿ بِسْمِ ﴾، وذلكم بجعل اسمه تعالى مقدمًا على سائر أفعالنا وجميع أقوالنا، ومتلبسًا بحرف الجر الباء؛ ليمنحه صفاءً ونقاءً فوق زينته وقَسَامَتِهِ وبَهْجَتِهِ، وليضفيَ عليه وضاءة وبهاء في حُلَّتِهِ ومَلاحَته ونَضْرته.
وذلكم هو العهد بذكره تعالى، وتقديمه على كل ما سواه، فردًا صمدًا، ليكون اللَّجَأُ إليه وحده تعالى، ولقد كان عهدًا أن نقول: (بسم الله) تيمنًا وتبركًا، وجلبًا لنفع، ودفعًا لضرٍّ، وذلك ببركة قولنا: ﴿ بِسْمِ ﴾، وذلكم أيضًا تضامنًا مع الوحي الكريم على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، حين قال من حديث عثمان بن عفان: ((من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم تصبْهُ فجأةُ بلاءٍ حتى يُصبحَ، ومَن قالها حين يصبح ثلاث مرات، لم تُصبْه فجأةُ بلاءٍ حتى يُمسيَ))؛ [صحيح أبي داود، الألباني، الصفحة أو الرقم: 5088].
وانطراحُ عبدٍ بين يديه تعالى متذللًا مستعينًا باسم الله الذي لا يضر مع ذكر اسمه شيء؛ إذ مَن كان ذلكم شأنه أعانه، ومن لاذ ببابه حفظه وصانه، ومنه فلا مسوِّغَ لقول قائل من أن المراد بالحديث الإخبارُ بأنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق، وذلكم لأنه تعنُّتٌ في الشرح، ولأنه تلبس بعناد ينأى به فأل حسن، حين قولنا: إن البدء باسمه تعالى سبب لحلول البركات - كل البركات - تيمنًا به، وأنسًا بذكره، وشرفًا بمعيته تعالى.
ونظرة أولية إلى النص لا يُنتهَض لها قول قائل: إنه خبر، فإن النص يقول: (من قال)، ولو عُرِّيَ عنه، لكان هناك مجالٌ لمثل ذلكم تَمَحُّلٍ، فتأمل.
والأصل أن مقصد مبتدئ بقوله: ﴿ بِسْمِ ﴾ أن يكون جميع عمله، وسائر قوله مقترنًا ببركة اسم الله تعالى، وهو قصد أوليٌّ أيضًا، تُمليه حقيقة العبودية الخالصة لله تعالى ربنا الرحمن سبحانه.
ولأن القرآن ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]، ولأنه قد دلت القرائن على استعمال عرب الجاهلية الباءَ في مناسباتهم المختلفة، دلالة على يُمْنٍ وتبرك، ومنه قولهم في أعراسهم (بالرِّفاء والبنين) - فدلَّ ذلك على مدى التناغم بين نص التنزيل ومحاكاة الإرث اللغوي للاستخدام القرآني، وإعماله للألفاظ بحيث تكون تراكيبها مُبِينَةً عن إعجازه، كما أنها ناطقة ببلاغته وبيانه، وأنه أيضًا ليتناغم مع قولنا: إن القرآن إنما قد نزل بلغتهم التي هم يعرفونها؛ كيما يمكن لأحد ادعاء - ولو من طَرْفٍ خفي - أنه ليس يفهم البيان، وأنه ليس محيطًا بأغراض القرآن.
وقولي السابق من مناسبة اللغة لا غير، وإلا فأذكار رسولنا صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبات غير أقوالهم، وليس المقصود بسط ذلك ها هنا على كل حال.
والباء هي باء الملابسة، وهي باء المصاحبة، وهي باء الإلصاق أيضًا، لمعانٍ مترادفات في الدلالة على هذا المعنى؛ كما قال تعالى: ﴿ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ ﴾ [المؤمنون: 20]، واستعمالها بهذا المعنى هو أكثر معانيها ذيوعًا وانتشارًا؛ كما قال ابن هشام: "الباء المفردة حرف جر لأربعة عشر معنًى؛ أولها: الإلصاق، قيل: وهو معنًى لا يفارقها، فلهذا اقتصر عليه سيبويه"؛ [مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، (1/ 137)]، وقال سيبويه: "وباء الجر إنما هي للإلصاق والاختلاط"؛ [كتاب سيبويه (2/ 304)].
ودلَّك على عظيم لطف الباء تعدد معانيها كما سلف، ولعلمك السابق أن تعدد الاسم دال على شرف المسمَّى، ومنه فقد استشرفت فضلها من تلبُّسِها باسم ربها الرحمن سبحانه، فتأمل.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/141860/#ixzz6XT6LAR00