كنتُ أسير في إحدى تلك الطرقات الضيقة، في المدينة الصغيرة التي أسكن بها، وإذ بي أرى شيخًا كبيرًا على إحدى المقاعد الجانبية، يبكي وينتحب، فزعتُ وأقبلتُ مشفقةً عليه، جلستُ بجانبه، ووضعتُ يدي على كتفه، فاستدار نحوي ونظر هنيهة ثم ابتسم بحزن، سألته : ما بك يا عماه، مالذي عاث في قلبك وأحزنك؟.. فسكت ثم تنهد تنهيدةً تشي عن جبالٍ عظامٍ من الآلام في صدره، ثم قال : يا ابنتي إن مابي يطول شرحه ويصعب وصفه
- سأسمعك يا عماه فقل ما بجعبتك
- أولًا، أخبريني ما اسمك؟
- أنا لجين وأنت ؟
- أنا خوف
- هل أنت هو الخوف حقًا؟ ألا والله قد زال عجبي من بؤسك يا عم
- نعم أنا هو
- أما وقد صار هذا اللقاء بيننا فحدثني بكل ما تحمله بداخلك
- نعم، سأفعل يا بنية، إنني وكجميع أحاسيس الآدميين، أولد بذرةً صغيرة، لا تتعدى شخصيتي أن تتكون من التيه عن الأهل في مكانٍ مزدحمٍ، أو من ظلامٍ دامس، لكنني كبرتُ كما يكبر كل شيء، فصار بداخلي أوجه جديدة، عرفت شيئًا يسمى" فراق" ، لم أكن أدركه من قبل، لقد زاد هذا من شخصيتي وأنضجني، كنت أكبر أكثر وأكثر كلما غادر شخصٌ، لكن الجانب الأعمق مني لم يظهر إلا منذ سنين عديدة، بدأت أصير أكثر تأثيرًا حين تعلمت مصطلحًا يسمى " التشبث" فصار كل قلبٍ يطرق بشدة خوفًا من مستقبلٍ يخلو من إحدى الأصدقاء أو الأحبة يزيدني تأثيرًا وعمقًا ويكمل من شخصيتي..
- عفوًا، أعذرني على مقاطعتك لكنني أود أن أسألك، هل أفهم من كلامك أن ذلك كان يسعدك؟
- في بداية الأمر كنتُ سعيدًا لكن شعورًا سيئًا راودني حيال هذا التطور في الآونة الأخيرة
- أنا أيضًا أشعر أن تتمة القصة ستكون مؤلمة
- لا تتسرعي يا ابنتي ودعيني أكمل لك ثم احكمي على قصتي بما شئتِ
- إنني أُنصِت، فلتكمل يا عم
- مرت الأيام، وبدأتُ أنسى تلك المصطلحات التي نَمَوتُ عليها من فراق أو تشبث أو تيه أو ظلمة، عشتُ فترة من الركود والخمول، لا أنبس ببنت شفى، لكنني استيقظتُ ذات يوم وإذ بالكثير الكثير من المصطلحات الجديدة تنبت بداخلي، وشيئًا من الاضطراب كان يراودني، إنها أمور مستحدثة لا يكون الخوف مسؤولا عنها عادة ولا يديرها، لكنني لا أعلم هل كانت بقية الأحاسيس في سباتٍ متكاسلة عن القيام بواجبها؟ كانت هناك أسئلة غريبة بداخلي لستُ أنا من يجيب عنها عادةً، فمثلًا كان إحداها سؤال لمَ أنا هنا؟ ما هذه الدنيا؟ لمَ نقوم بكل ما نقوم به؟ سنموت، سنموت.. كان صوتًا فظيعًا، كنت أرى العقل يقوم بجذب هذه الأسئلة مني، ويقول : دعها لي، أنا أعرفها جيدًا، لطالما عرفت جوابها. ، لكنني كنتُ أعجز عن إخراجها مني لأناولها العقل، وتكرر الأمر فهجمت جُملٌ أخرى من قبيل : أخشى أن يعذبني الله، أخشى النار، أخشى القبر، وكنت أرى العقل والقلب ينزعانها مني نزعًا ويرددان : ألا خوف، الله رحيم، الله يحبك، أنت على خير بإذن الله، فتهدأ ثم تعود للتتشبث بصدري مرةً أخرى، وفي يومٍ آخر، بدأت تتسلل أسئلة من قبيل : كيف نفكر، ماهي هذي الروح، وعن الخير وعن الشر وأمورٌ لا دخل لي بها، وأيضا كان يهتف العلم لها لتذهب إليه لا لي، فتذهب إليه أيامًا ثم تباغتني مرة أخرى،..
- يا إلهي، هذا فظيعٌ حقًا! لستُ أفهم تصرفات تلك البواطن والأفكار، لمَ هي لا تعرف غيرك؟ ما أجهلها!
- اسمعي إذًا الباقي الذي سيجعلك تستغربين بحق، لبثتُ هادئًا مدة من الزمن لا تقتحمني غرائبُ وعجائبُ، ثم فجأةً تهجم عليّ كومة أخرى أسوء من التي قبلها، تدور حول ما يدعى بالجن، محملة بالكثير من الاسئلة ولكنها كانت أعقد مما تتصورين، وأغرب وأغبى وأقبح، اجتمع الأفاضل كلهم لإنقاذي، العقل والقلب والإيمان والعلم، فسكنت وأفلتتني، ومابين هذا وذاك صرتُ كما ترين يا ابنتي، لقد كنت ُ بذرة صغيرة، أفيد الآدميين، فأحذرهم من المخاطر والأهوال، التي ينبغي لهم أن يبتعدوا عنها باتزان، ولكنني بتُ الآن شبحًا، حُمِّلتُ مالا أطيق، جبالٌ راسخة على ظهري، ويح تلك الأسئلة ما تريد مني؟ لقد فتح لها العقل ذراعيه، وناداها العلم، وربت على كتفها القلب، لكنها أبت إلا أن تتشبث بي، حتى غدوتُ مكروهًا، الكل يتحدث عني بسوء، الكل يهرب مني، الكل يعتبرني كابوسه الأعظم، وما أنا الذي دعوتهم إليّ، لكنهم هم الذين رأوني بذرة صغيرة زرعها الله بهم رحمة وحكمة، فأبوا إلا أن يجعلوني شيخًا هرمًا، ما ذنبي أنا؟ ما ذنبي يا ابنتي ؟.. وانهار الشيخ باكيًا فاقتربتُ منه، وقلت: إنه ليس ذنبك يا عماه، ليس ذنبك، إنما نحنُ المذنبون، لكننا أيضًا ضعفاء يا عم، إننا نخاف ما نجهل، لا نستطيع منع أنفسنا منك، لكننا نستطيع أن نعلم بدل أن نخاف فنخفف عنك ما تجد، فقل لي، هل من أمرٍ أعينك فيه على استعادة سنك الطبيعي ووظيفتك الأصلية؟
- ويحك ما تقولين، إننا مثلكم، نحن لا نصغر، إنما نكبر حتى نموت، فلعلني بعد أن قذفتُ ما بجعبتي ،وأزحتُ بعضا من همي أن أسكن وأهدأ حتى أموت
- هل الموت يخيفكم يا عم؟
- أهبِلتِ يا بنية ؟ أنسيتي أنني الخوف بنفسه ؟بل أنا أحب الموت، فلستُ إلا بذرةً وضعت لحكمة، فتنميها تبعات الحياة، حتى تموت وقد أنهت دورها ودور غيرها، فالسعيد من حافظ علينا بالحجم الذي ينفعه ولا يضره، فلا يهلكنا ولا نهلكه، والشقي من استحقرنا فوأدنا بذورًا يافعة، ونقيضه الذي يطرح علينا مالم نُخلق لأجله فيموت ولم يستفد من أي شعورٍ غيرنا
- ما أعذب كلامك، تالله لو عرفوك الناس على حقيقتك ما كرهوك، ولكنني أحمد الله الذي جمعني معك لأتعلم منك وأسمع تلك الغموم التي تعتلي محياك، وأعدك بأن أوصل رسالتك تلك إلى الناس علهم أن يستفيقوا
- تفعلين خيرًا يا ابنتي، استودعك الله
- مع السلامة أيها الخوف
ثم مشى ومشى حتى لم أعد ألمح أثره...
بقلم : لجين محمد