الأدب البشع ومعاناة والآم الآخرين
كثيرا ما يستلهم الروائي حكاياته من واقع الناس، وجميعنا يتأثر بالعالم الخارجي من حولنا، ولكل واحد منا تجارب فردية فريدة تؤثر على شخصياتنا، وعلى نحو مماثل، يتأثر المؤلف بماضيه عندما يكتب، كما أن الجنس والعرق والوضع الاجتماعي والاقتصادي لها أيضًا تأثير كبير على كتاباته.
كما ان الظروف الحياتية للمؤلف لا تنعكس فقط حياته الخاصة، في أعماله الأدبية، بل أيضًا الفترة الزمنية التي عاش فيها، والقارئ لأعمال الكاتب الإنجليزي الشهير وليام شكسبير، سيلاحظ ذلك في مسرحياته وقصائده.
كمال داوود روائي جزائري تحصل مؤخرا على الجنسية الفرنسية، وبصفته كروائي لن يحيد عن هذا المنهج أي التأثر بالمحيط والاحداث من حوله، في راويته الأخير حوريات الصادرة عن دار غاليمار الفرنسية والتي فاز بها على جائزة غونكور، والتي تحكي قصة شابة جزائرية اسمها فجر نجت بأعجوبة من الموت بعد أن ذبحها ارهابيون من الوريد الى الوريد، خلال مجزرة من تلك المجازر التي اتسمت بها عشرية التسعينات الجزائرية، أو ما عرف بالمأساة الوطنية، ولكن التأثر إلى أي حد؟
واضح ان الروائي كمال داوود تأثر بتلك الأحداث، وترجم تأثره ذلك لرواية حوريات، ولكن هذا التأثر لا يعكس جزء من الواقع بل الواقع كله، فيظهر أن الرواية ليست فقط سرد لجزء من العشرية السوداء او المأساة الوطنية، بل سرد دقيق لقصة حقيقية لإنسانة عاشت بالفعل وتعرضت لما سرده كمال داوود، وهذا ما أفصحت عنه السيدة سعادة عربان، التي رفعت شكوى امام محكمة وهران صائفة 2024.
وبعيدا عن التجاذب السياسي والتوظيف السياسي من الطرف الفرنسي، فقد ردت دار غاليمار على خبر الشكوى أن "الرواية مستوحاة من أحداث مأسوية وقعت في الجزائر خلال العشرية السوداء، إلا أن حبكتها وشخصياتها وبطلتها خيالية بحتة"، إلا أن الواقع والحقيقة شيء آخر، لقد تم اختراق والاستيلاء على حياة انسانة وثقت في طبيبة معالجة، حيث تكون الثقة الركن الأساسي في العلاج.
سعادة عربان، شخصية رمزية لمعركة من أجل الكرامة الإنسانية، تظل اليوم رمزا مؤثرا للمقاومة في مواجهة البربرية الفكرية، قصتها التي انتزعت بوحشية من حرم السرية الطبية، تكشف عن الواقع الفاضح للأدب الذي يتغذى على أسرار الذين يثقون، والذين يحملون ندوب وجروح بداخلهم.
القضية تتلخص في أن الروائي داس على الأخلاق واتبع نهج الميكيافيلية التي لا تؤمن بالقيم والأخلاق بل بتحقيق الغايات، وهكذا أصبح كمال داود حفار قبر الأخلاق، فحوّل الملف الطبي، وهو معبد مقدس للثقة والشفاء، إلى مادة خام مبتذلة لعمله "حوريات"، وهو فعل يتجاوز مجرد انتهاك الخصوصية ليصل إلى ذروة العار الأدبي، هذا النهب العاطفي، هذا التنقيب الجامح في أعماق الحميمية، يكشف عن الجانب المظلم للإبداع الفني حيث يبدو أن كل الوسائل متاحة ومباحة للوصول الى الغاية.
لا يمكن اعتبار السيدة سعادة عربان مجرد ضحية، تبحث عن حقها المسلوب، بل إنها تجسد المرأة الصامدة بكل روعتها، انها صامدة، لأنها ترفض أن يتم تداول معاناتها على مذبح الشهرة الأدبية، ويتردد صدى نهجه تجاه كل استغلال تجاري لمعاناة الناس.
سعادة عربان لم تخطأ عندما لجأت الى العدالة لإظهار الحقيقة واسترجاع حقها وكرامتها، بل أن هذا الفعل على بساطته يمكن ان يعبر عن قوة الصدمة التي تتحول الى منارة للغضب الممزوج بالقوة الدافعة الى نضال يتجاوز شخصية السيدة عربان.
تحمل السيدة عربان راية المحاربة من أجل الكرامة، التي انتهكت خصوصيتها بوحشية سريرية، في داخلها ندوب الخيانة المزدوجة، خيانة السرية الطبية وخيانة الثقة الإنسانية، ومع ذلك، فإنها تسمح لضوء ساطع أن يشرق من هذا الجرح المفتوح، ضوء الحقيقة التي لم يعد بإمكانها أن تظل صامتة اتجاه ابرازها.
في هذه المعركة الأبدية بين الفن والأخلاق، بين حرية التعبير واحترام الإنسانية، تصبح سعادة أربان المنارة التي تقود نحو تفكير عميق حول حدود الإبداع الفني، إن انتفاضة السيدة عربان سعادة تمثل فعل مقاوم وصرخة تتردد في ضمائر الذين ما زالوا يؤمنون بقدسية الانسان وخصوصيته.
إلى جانب الفضيحة الأدبية، قصة امرأة ترفض أن يكون ألمها مادة سردية بسيطة، وأن تُذاب دموعها في حبر رواية، وأن تصبح جراحها الأكثر حميمية مشهدًا لمجتمع متعطش للإثارة، تذكرنا سعادة عربين، بقوة ساحقة، أن وراء كل ملف طبي قصة مقدسة، وحديقة سرية لا ينبغي تدنيسها بالقلم، مهما كانت مكانتها.
في هذه المعركة من أجل الكرامة، لم تعد وحيدة. إن نضالها يصبح نضال كل الضمائر المستيقظة، وكل أولئك الذين يرفضون السماح للأدب أن يصبح جلادًا للإنسانية التي يدعي خدمتها، ربما كتبت سعادة عربان، من خلال مقاومتها العنيدة، أجمل القصص: قصة امرأة تحوّل جرحها إلى نصر، وإذلالها إلى قوة، ومعاناتها إلى عدالة.