( 2)

ووقفة تأملية أخرى، حسن تفكرها، وجمل تدبرها، لنقف على هذا المستوى السامق في الأداء القرآني المجيد، وهو إذ يأطر النفوس أطرا على الطاعة لبيانه الفريد، وهو إذ يأخذ القلوب أخذا إلى سبل الهدى والطاعة والانقياد، وهو إذ يحملها إلى طرق الخير والنبل والرشاد، لما اتسمت به عبارته، ولما تميزت به كلمته.

وذلكم هو أسلوب الوصل بين الجمل الأربعة، وما أشاعه من , قَسَامَة وبيان وبَهَاء ، وما أحاط النص به من جمال ووَضَاءَة  ورُوَاء، حتى كان من ثماره انجذاب القلوب إلى مراميه، ويكأنها وقد تضلعت من معانيه، فكادت به أن تهتدي لجرسه، وشرعت الجوارح أن تقشعر لسماعه، وأوشكت الألسنة أن تلهث بذكره، وترنمه كل حين! وذلكم لما اكتسى به من مَلاحَة وحُلَّة، وذلكم لما تلبس به من بهجة وزينة.

فإنك ترى حبك الجمل الأربعة ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ قد جاء متزينا بحرف العطف الواو، مما يجعلها لا كأجزاء متناثرة، ولاكأفراد متبعثرة، وكأنها قد تنزلت مرتبطة بعضها ببعض برباط متين متقن، لتبدو كأنها وحدة موضوعية واحدة متماسكة أيما تماسك، ومؤتلفة أيما تآلف، ليبرزها في صورة كلٍ ملتئم القوام، متناسق البنيان، وذلكم هو مقتضى ما لكتابنا القرآن من بيان. ومنه فقد أبان عن بُعده وفصاحته، وقد كشف لنا عن حكمته وحُجّته ، وموجب بلاغته وإبانته، ليبلغ أثره البالغ في النفوس، فتشمر عن سواعد الانقياد عن رضا واختيار، لاعن جبر وإلزام. وفارق بينها عظيم!

وهو ما يفيده أحدنا أن يؤثر في سامعيه بألطف العبارات وأبهاها وأوضحها ، وهو ما يتبعه أحدنا حين يوجه أمره إلى مستقبليه بأجمل الكلمات وأبدعها وأروعها. 

وليس كان ممكنا مجيئ النظم بغير الوصل، وبغير حرف العطف الواو!

وليحاول أحدنا قراءته فصلا هكذا(ارْكَعُوا اسْجُدُوا اعْبُدُوا رَبَّكُمْ افْعَلُوا الْخَيْرَ) ، أو يحاول أن يقرأها وصلا وبغير حرف العطف الواو لتكون هكذا(ارْكَعُوا ثم اسْجُدُوا ثم اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ثم افْعَلُوا الْخَيْرَ) ليرى مدى الركاكة في الأسلوب، والتدني في الأداء، وهو ما تنزه عنه كلام الله تعالى وتَأَبَّاه ، وهو ما تَرَفُّع عنه القرآن العظيم وتَعَلَّاه، إذ قد بلغ من شأنه ما أبهر الفصحاء عن سموه، وإذ قد  تسامق من شأوه ما أعجز البلغاء عن علوه !

ذلك ولأنه بضدها تتميز الأشياء؛ يجيئ النظم في مواطن أخر من كتاب الله تعالى المجيد بأسلوب قطع بليغ أيما بلاغة. بحيث يمكن القول أيضا إنه لا يصلح في هذا المكان غير الفصل، كما لم يصلح في آيتنا محل البيان إلا الوصل. وسبحان منزل هذا هنا ومنزل ذاك هناك!

ففي أوائل الكتاب المجيد من بدايات سورة البقرة قال الله تعالى ربنا الرحمن سبحانه﴿ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة:2]بأسلوب قطع منح السياق حلاوة ووهبه جمالا. وليحاول أحدنا أيضا كتابته هكذا وصلا(ذلك الكتاب ولاريب فيه وهدى للمتقين)! ليقف على قدر كبير من السماذجة في الأداء، وما ينتج عنها من خَلَل في الإيفاء، بما هو متواتر عن كتابه تعالى من نظم سديد، وبما هو معهود عنه من تصرف لغوي فريد  , وليقف أيضا على مدى الركاكة في النظم وما ينتجه من خَطَل. وهو ما تنزه عنه كتاب ربنا الرحمن سبحانه. وهذا هو كلامه تعالى بين أيدينا في القرآن الكريم هادرة بلاغته، متقنة عبارته، سليمة إبانته! ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴾ [الشعراء:195]. وليس يكون مبينا إلا بهذا النظم الذي بين أيدينا عن رسول الله ﷺ عن جبريل عليه السلام عن رب العزة والجلال ﴿ سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الزمر:4].