نظرية علاقة اللغة بالتفكير وجدت اهتماما كبيرا من قبل الباحثين اللسانيين والسلوكيين والفلاسفة والاطباء النفسانيين نظرا للتطبيقات العملية التي اثبتتها بعض الابحاث الجادة في مجال اللغة وعلاقتها بالتفكير او تحديدا علاقتها بتشكيل التفكير,, نظرية سابير-ورف كانت ولا تزال محل جدل كبير, فالنظرية تشير الى ان اللغة بما تحتوي من مفردات و من نماذج ورموز ليس فقط تسهل عملية توجيه التفكير بل وتتحكم في طريقة التفكير. في هذا المبحث الموجز اود من خلاله استعراض بعض كتابات واقوال مشاهير العلماء بالاضافة الى اعطاء بعض الامثلة على تأثير اللغة على طريقة تفكيرنا وكيف اننا في الواقع نتصرف وفق املاءاتها وفي المقابل تسليط الضوء على المدرسة المشككة في قدرة اللغة على التاثير ثم نختم بـ حتمية تبدل انماط معيشتنا مستقبلا وتساؤل للتفكير والتأمل..
يقول ميشال مارلو في بحثه عن اثر اللغة على التفكير 2004 والذي هو المرجع الاساسي لنا هنا, يقول انه لم يعثر على مخطوطة كتابية تشير الى ان افلاطون قد ناقش بالتفصيل اثر اللغة على التفكير, لكن القارىء يستطيع ان يدرك من خلال قراءة نقاشات وكتابات افلاطون انه كان يعطي اهمية كبيرة للكلمة وان الكلمة كانت محل قلقه الرئيسي ولذلك كان يهمه ان يتحقق من علاقتها بالحقائق والواقع, وكان كثيرا ما يصور كيف ان الناس تمشى تائهة في تفكيرها عندما يستخدمون كلمات دون تحليل مناسب للافكار التي يفترض ان يعبروا عنها..ولذلك فافلاطون كما يعتقد ميشال كان في حواراته يصف سقراط بالمفكر الذي يتحدى طلابه باستمرار لجعلهم يحللون الكلمات بدل من فهمها المألوف.
في عام 1788 كتب نواه ويبستر مؤلف المعجم الانجليزي الشهير بحثا اكد فيه "ان فهم الحقيقة البعيدة المنال وصحة التفكير يكمن في فهم دلالة المفردة" ويجادل ويبستر على اهمية ذلك لان الشعوب لمجرد استخدامها للمفردات كما هي سيقودها لارتكاب الاخطاء التي بدورها تقودهم للوهم..وقد لاحظ كيف ان اللغة تقيد تفكير الغير متعلمين والشعوب الغير متحضرة وانها تعيقهم أي لغتهم من التمكن من فهم المصطلحات الدينية وخلافها..يوضح ذلك حيث يقول ان لغة الشعب الاثيوبي تحوي كلمة واحدة لكل من "الطبيعة" و"الشخص" ولذلك لم يستطيعوا فهم الجدل حول طبيعتي السيد المسيح. ولا يعتبر هذا مفاجئا فالامم التي تعيش في عزلة ثقافية في الغالب يتسم حياة افرادها بالبدائية في التفكير, وبذلك لن يكون بوسعهم تعاطي التساؤلات الغيبية ولا فهم المصطلحات التي تحمل افكارا مجردة وبالتالي لابد وان يكون فهمهم مقيد ومحدود.. ولذلك يعتقد وبستر انه حتى من تنصر فانه ضل طيلة حياته لايفهم الفرق بين طبيعتي المسيح ..Christ’s two natures)
ويرى المطلع على فلسفة هامبلدت حول اللغة وذلك من خلال تأثره بفلسفة عمانيول كانت عن العقل, فكانت 1781 في نقده للعقل الخالص فسر ان العقل البشري ليس مجرد "لاتحة فارغة" والذي بموجبه يصنع العالم الموضوعي انطباعاته ولكنه عضو نشط يقوم بتنظيم العالم وفق تصنيفات معينة..وقد شرح روبرت روبنز في اطروحته "موجز تاريخ اللسانيات" كيف استطاع هامبلدت تطبيق هذه المفاهيم على اللغة..
فنظرية كانت عن الادراك, تفيد ان الادراك يحوي احاسيس انتجت بواسطة العالم الخارجي الذي خضع للتصنيفات والحدسيات التي فرضها عليها العقل, ويتجلى ذلك بوضوح في ما يتعلق بالفضاء والزمن والسببية.وهذه كانت نظرية الكون الفلسفية التي تبناها هامبولدت بشكل لغوي نسبي من خلال افتراضه ان اللغة الداخلية مسؤولة عن تنظيم وتصنيف المعلومات بناء على الخبرات, ولذلك فان المتكلم للغة مختلفة يعيش جزئيا في عوالم مختلفة ولديه انظمة مختلفة للتفكير..
ادوارد سابير الذي يعتبر اب اللسانيين الامريكيين في كتابه المعنون بـ اللغة, مقدمة لدراسة الخطاب, يتصور ان اللغة وقعت في فخ المحتوى الثقافي ويؤمن بان الدراسة العلمية للغة لايمكن فصلها عن علم الانسان " الانثربولوجي" ولا عن علم النفس..وان اللغة في الاساس كانت وسيلة تؤدي اغراض بسيطة لاترتقي الى المفاهيم المجردة وان هذه المفاهيم ارتقت وتوسعت مدلولاتها في الواقع كتفسيرات منتقاة للمحتوى الاصلي.. ويضيف ان العالم الحقيقي مبني بدرجة كبيرة في اللاشعور على عادات اللغة المتاحة داخل ذهنيات التجمعات البشرية. ولذلك يؤكد انه لا توجد لغتين متساويتين يمكن لها ان تعبر عن حقائق اجتماعية بالتساوي..فالعالم الذي يعيش فيه مختلف المجتمعات هو في الواقع عوالم متنوعة..فنحن نرى ونسمع وبالتالي نمر بتجارب متنوعة وفريدة لان عاداتنا اللغوية في داخل مجتمعنا تفرض علينا اختيارات محددة من التفسيرات. .
لي وورف احد تلاميذ سابير وصاحب فكرة "مبدأ النسبية اللغوية" التي اثارت الكثير من الجدل في الاوساط العلمية, يعتقد "ان خلفية النظام اللغوي لاي لغة ليس مجرد وسيلة لاعادة انتاج الافكار ولكن الصحيح انه هو الذي يشكل الافكار و البرنامج الموجه لنشاط الفرد الذهني لكل ما يتعلق بتحليل الانطباعات وطرح التصورات والافكار اليومية, وان صياغة وبناء الافكار العقلانية لاتعتبر اجراءات مستقلة, بل هي جزء من النظام اللغوي,ويضيف, "ولان اللغة بفضل تمايز رموزها وتركيباتها الصرفية والصوتية فان الثقافة السائدة لاي مجتمع هي انعكاس مباشرا للخصائص التي تتمتع وتتميز بها اللغة في ذلك المحيط. وقد اثار جدلا كبير قوله ان لغة الاسكيمو تحتوي على 400 اسما للثلج, غير انه لم يثبت حقيقة زعمه هذا, لكن المؤكد ان هناك لغات تحتوي على اسماء كثيرة لبعض الاشياء التي تجد اهتماما شعبيا وتاريخيا مثل الابل في لغتنا العربية والكثير من الاسماء والصفات لمختلف الاشياء, وهو يعتقد ان وفرة تلك المفردات تعطي مؤشرا موضوعيا لتأثير اللغة واستحواذها على طريقة تفكير تلك الشعوب ..
فمثلا قد نجد ان لغة معينة قد تسهل تمرير بعض المفردات او التشبيهات المحفزة على الابداع والتامل بينما تخفق لغة اخرى في انجاز تواصل فكري ايجابي. وبناء عليه فان التصور المنطقي لهيمنة جانب معين في ثقافة معينة قد يكون له ما يبرره لغوبا ".
ويضيف ان تطلعات ونظرة الفرد للحياة في الكثير من اوجهها قد تقرر سلفا من خلال البناء اللغوي الذي تعلمه في مرحلة الطفولة.
يروي انه اثنا الاعوام 1930 -1940 واجه علماء الفيزياء اشكاليات مع اللغة, وقال انه لااول مرة يشعرون بعجزهم عن التعبير عن نظرياتهم الجديدة الخاصة بـ الية "الكوانتم" باللغة الالمانية او الانجليزية وصرح الفيزيائي الالماني ويرنر هيزبيرق في اعقاب ذلك, "ان محدودية لغتنا وقفت عائقا امامنا". ويضيف, "ان اللغة لاتستطيع ان تشرح لنا الا ما نستطيع تخيله في اذهاننا وعندما نأتي "للذرة" او "الكوانتم" فاننا نعجز عن بناء صور ذهنية لها"..ويتفق مع ذلك العالم الفيزيائي البريطاني جيمس جينز الذي يعتقد ان عادات الذهن المرتبطة باللغة تتدخل في تحييد تطور العلوم البشرية..وفي كتابه 1943 اقتبس بيتراند راسل تصريحه الذي يفيد ان القواعد واللغة العادية تعيق التصور الحقيقي للغيبيات..
وفي هذا الاتجاه يؤكد كاشنر وبريزلن "ان اللغة تلعب دورا خاصا في توجيه دفة الحوار لصالح الاقوى او ذلك الذي يغلب فيه النسق الفحولي كما يسميه الدكتور عبدالله الغذامي, وفي ذات الوقت تستبعد الطرف الاخر او على اقل تقدير تعمل على تطويعه ليقبل بشروط ميزان القوى الذي تفرضة الية الصراع من اجل البقاء. يوضح الباحثان تاثير اللغة النخبوية في تحييد قدرات الاخر واقصائه من خلال المثال التالي: " حينما يكون اجتماعا لاعضاء مؤسسة تجارية مؤلف من نساء ورجال, فان الملاحظ ان الرجال في الغاب يستخدمون تشبيهات رياضية تشرح نجاحاتهم او اخفاقاتهم, مثال ذلك: "هذه حدود مربعنا"والكرة في ملعبنا, و "واستمرت التفاوضات الى الوقت الاضافي ولكن الهدف الاخير اعاد للفريق الامل في المنافسة على اللقب". هذه التشبيهات كما يرى الباحثان تتعلق باللعب وبطريقة الاداء التي يجهلها النساء لان الغالبية منهن لايمارسن تلك الرياضات وبالتالي فان اللغة هنا قد عملت على تهميش والغاء دور النساء المشاركات في الاجتماع في ابداء الرأي وبالتالي تطبيع المرأة على الخضوع والاستسلام للقررات التي يتخذونها, ولذا فان استخدام هذه التشبيهات هو بطريقة او باخرا محاولة لابعاد المرأة من الدخول في الحوار.. وهذا ينطبق على الحوارات التي تتمركز حول القضايا العقدية الاحادية, حيث تستخدم اللغة في صياغة نظريات وافتراضات يتم تطويعها وربطها مع المقدس لكي تمنح الحصانة الشرعية للمستفيدين وفي ذات الوقت تسمح لهم بتوجيه دفة الحوار اوتقييده من خلال فرض تصوراتهم وارائهم وحتى نزواتهم على المتحاورين مما يمهد لهم الطريق بالاستحواذ على صنع وصياغة القرارات التي تكفل لهم الهيمنة وفرض الرأي الواحد وفي ذات الوقت الغاء الاخر وتحجيم قدراته في التواصل وابداء رأيه, فمن شأن هذا الالغاء ان جاز التعبير ان تختفي لدى الاشخاص القدرة الابداعية او الفكرية..
خلال اعوام s1970 السبعينات بدأ هناك توسع سريع في اللسانيات مما اتاح للعلماء ادخال تخصصات مختلفة. فاصبح هناك تخصصات في اللسانيات الاجتماعية، والروائية الخيالية, وفي اللسانيات الادبية والنفسية والعديد من التخصصات الأخرى. وهذا التطور كما يشير اليه الكثير من الباحثين يعزى الى نظرية سابير التي تشير الى "أن دراسة اللغة لا يمكن فصلها عن غيرها من المجالات".
في الجهة المقابلة نجد تشومسكي واتباع مدرسته يقللون من اهمية التعويل على اللغة في تأثيرها على التفكير ويرون ان ذلك لا يحضى بالدعم العلمي الكافي. الواقع ان التشومسكيين حسب رأي ميشال مارلوي ويعض اللسانيين الذين يتصورون ان التشومسكيين في اعتقادهم هذا ينطلقون من الارضية التي مفادها انه طالما ان هناك اجماع على عالمية القوانين المتحكمة في اللغة فانه من حيث المبدأ يجب ان نبقى على هذه العالمية. والسبب الاخر في اعتقاد فارلوي هو ان التأكيد على عالمية اللغة منسجم الى حد بعيد مع تطلعات العالميين (يقصد من لهم تطلعات الى توحيد وتقريب العالم فكريا) التي تتفق مع ثقافة وفكر المرحلة. وما يوكد ذلك هو انه بعد الحرب العالمية الثانية كانت هناك مناداة بتأكيد اهمية ان ينظر على ان "الناس سواسية في كل مكان" وان التاكيد على الاختلاف امر يجب التقليل من شأنه على اعتبار ان الاختلاف ليس الا مجرد تباين في اللون والعادات والعادات الخ. ولذلك كانت هناك نزعات منتشرة في معظم الدراسات العلمية الاجتماعية تركز على التقليل من اهمية الاختلافات البشرية.
د. سالم موسى 2006
جامعة الملك خالد