عندما ندرس تاريخ الحضارات فإنّنا سنجد أنّ الحضارة الإسلامية قدّمت الكثير للبشرية في مختلف المجالات و ساهمت بشكل مباشر في تغيير الفكر الإنساني و النهوض به بل كان لها الفضل في تعليم الإنسان الأروبي معنى الحضارة و منها إكتسب المعارف و إستنار فكره و تعلّم العلوم في مختلف مجالات الحياة حتّي نهضت أروبا و بدأت في عملية البناء الحضاري، و لا ننسي أيضا فضل الحضارة الإسلاميّة على العرب أنفسهم حيث أحدَثت فيهم نَقلة داخليّة غَيّرت الإنسان العربي و جعلته يسعى لتطوير نفسه و تزكيتها و جعلته يسعي لإكتشاف باطن الأرض و ما فيه من خيرات عن طريق إتقان العلوم الحياتية من أجل تحقيق الخلافة في الأرض و جعلت كلّ مجتمع مُسلم بمختلف أجناسه و إنتمائاته من فُرس و عرب و أتراك يقودون العالم و ينشرون فيه روح العدل و المساواة و الإنسانيّة.
فكُلّ دارس صادق للتاريخ سيقف مُنبهرًا أمام ما قدّمته الحضارة الإسلاميّة للعالم و التّغيير الذي أحدثته و سيُعلن إحترامه لها مُعترفًا بفضلها، و كلّ مسلم يَدرس تاريخ حضارته سيَشعر بالعزّ و الفخر و المجد لأنّه ينتمي لحضارة الإسلام و يُمثّل إمتدادًا لها بل سيسعي إلى رواية إنجازات الماضي و بُطولاته لغيره من النّاس مُستشعرًا بالعظمة و المكانة الكبرى بأصول حضارته.
و لكنْ إذا عُدنا إلى واقعنا فنحن نَشهد تواصل الإنتكاسة التّي أصابت الأمّة المسلمة منذ قرون فنحن نعيش حالة من التخلّف و الفوضي و الإنحطاط و الجُمود سوى على المستوى السياسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي أو العلمي فقد أصبحنا نعيش على هامش الحياة فلا دور لنا فيها سوى الإستهلاك و التبعيّة و ليس لنا أيّ تأثير في الأحداث العالمية اليوم حتّي في القضايا التّي تخصّنا فنحن لا نُقرّر مصيرنا بأيدينا من شدّة ضُعفنا و هواننا، و من المشاكل اليوم أنْ نبقي نَتغنّي بأمجاد الماضي بدون محاولة لإعادة هذه الأمجاد و بدون محاولة إعادة بناء حضارتنا من جديد فنحن أصبحنا لا نُحسن إلاّ الكلام و الوقوف على الأطلال بدون عمل و لا تغيير في واقع الحياة.
و لنا أن نطرح هنا هذا السّؤال ما سبب هذه الإنتكاسة التي نعيشها منذ قرون و لماذا رغم مُختلف المحاولات الإصلاحيّة لم ننجح في الخروج من تخلّفنا و ضعفنا؟!
و للإجابة عن هذا السؤال فإنّنا سنعود إلى السُنّة النبويّة التي يجب أن تكون حيّة بيننا كأنّنا نَتلقّي أحاديث رسول الله عليه الصلاة و السلام لتَوّنا حتّى نَجعلها منهجًا عمليًّا في حياتنا و نتفكّر في ما يُخبرنا به رسول الله صلى الله عليه و سلم في ما يَلقاه عن ربّه سُبحانه و تعالى.
عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ لَمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَسَمَ فِي النَّاسِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَكَأَنَّهُمْ وَجَدُوا إِذْ لَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ النَّاسَ فَخَطَبَهُمْ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمْ اللَّهُ بِي وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي.." (1).
في هذا الحديث يُشير لنا رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام أنّ نهضة المجتمع بالمدينة حدثت بإنتشار الإسلام فيهم و بإتّباع تعاليمه فهذا هو الأصل المفقود داخل مجتمعاتنا التّي تناست هذه الحقيقة و قطعت صلتها العمليّة بدينها و تنكّرت لقيمه و إحتفظت فقط بالتّسمية و الألقاب، فنحن نطمح جميعا إلى تغيير واقعنا و تحسين أوضاعنا و لكن مجال بحثنا إلى اليوم قد ضلّ الطريق و لذلك لا غرابة أنْ نَجد مُختلف الإصلاحات مَهما كان مصدرها و شعاراتها تبوء بالفشل، فلو أردنا بالفعل تحقيق نهضة جديدة في أوطاننا فنحن بحاجة كأفراد مجتمع بأن نعود إلى ديننا من جديد و أن يقيم كل واحد فينا أخلاقيّاته و مبادئه في حياته اليومية و أنْ نُحي روح التديّن داخل مجتمعاتنا من جديد، فالإسلام دين يُحي الضّمائر و يَجعلها تثور في وجه الفساد و الظلم و الإستبداد و ترفض الإستسلام للضعف و الركود و التخلف، و عندما إنعدمت هذه الروح عندنا أصبحنا و مازلنا إلى اليوم أمة يستحقرها و يستضعفها الغير و صدق سيدنا عمر بن الخطاب الذي فقه هذه الحقيقة فقال:" إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله . " (2).
إذًا فالسبب الرئيسي لإنتكاستنا هو البعد عن الإسلام و التنكّر لمنهجه و عدم تحكيم شريعته في الحياة، و من هذا السبب تنبثق أسباب ثانوية أخرى متفرعة عنه، ففي الحديث الذي ذكرناه أول ما وعظ به رسول الله الأنصار بأنْ ذكّرهم كيف كانوا على ضلالة فهداهم الله به، و لو أسقطنا هذا الحديث على واقعنا و حاولنا التفكّر فيه فإنّنا سنجد أنّنا على ضلالات مختلفة.
فمنّا اليوم من يعبد شهواته و يُضيّع أوقاته و أمواله و طاقته فيها و من ثمّ تمضي حياته بسرعة و هو لم يعمل شيئا و لم يقدّم لمجتمعه شيئًا نافعًا و لم يسعي للتّغيير و النّهوض لأنّه كان منغمسًا وراء سراب الشّهوات يَلهث ورائها بدون توقّف، و قد تكون هذه الشهوات مُتمثّلة في المال فيسعى لتحصيله بأيّ طريقة سوى بالحرام أو الحلال فيلجأ للغشّ و الإحتكار و التحيّل و السّرقة و قد حذّرنا رسول الله عليه الصلاة و السلام من هذه الحقيقة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ ، وَالدِّرْهَمِ ، وَالقَطِيفَةِ ، وَالخَمِيصَةِ ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ "(3).
و قد تَتمثّل هذه الشهوات في حبّ السلطة و المناصب فيلتجأ الفرد للظلم و الإستبداد و الخيانة و التحالف مع الفاسدين و مداهنتهم من أجل البقاء في منصبه و إرضاء من هم أكثر منه نفوذًا و قد يصل به الأمر عند فقدانه لمنصبه أن يقوم ببث الفوضي بين الناس و تعطيل مصالحهم و تهديد أمنهم و إستقرارهم، و لذلك نجد أن رسول الله عليه الصلاة و السلام يُعلّمُنا أنّ المناصب محلّ تكليف و أنها مسؤولية وجب إتقانها و أدائها على أكمل وجه و إلاّ فسوف تكون عاقبة صاحبها المُتهاون فيها و المُستغل لنفوذه من أجل خدمة مصالحه وخيمة، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيَّ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ، فَقَالَ مَعْقِلٌ : إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً ، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" (4).
و قد تكون هذه الشهوات مُتمثّلة في الملذّات و الغرائز الجنسية فتجد الفرد يُضيّع وقته فيها و تذبل صحتها جَرّائها و قد يخون من أحله الله له في إطار الزواج و تنحل أسرته و تضيع الأبناء و يُصبح الزنا ظاهرة منتشرة بيننا و تنتشر الدعارة و تنعدم أخلاق العفة و الحياء و ينتشر التعري و الفجور داخل المجتمع و يُصبح الإنحلال و الفساد هو الأصل، و لذلك نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قد حذّرنا من هذه الظاهرة و وجّهنا إلى مُجاهدة النفس على الطهارة و العفّة، عن الحسن عن أبي هريرة ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" العينُ تَزني والقلبُ يَزني فزِنا العينِ النظَرُ وزِنا القلبِ التمَنِّي والفَرجُ يُصَدِّقُ ما هُنالِكَ أو يُكَذِّبُه " (5).
و علاج الضلالة يكون بإتّباع ما جاء به رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام فبه تنهض النفس و تُراقب عُيوبها و تَسعي لعلاجها و به نُزكّي أنفسنا و نُحقّق العبودية الخالصة لله عز و جلّ و به نُصحح مسارنا في الحياة و نَحرص على ما ينفعنا في الدنيا و الآخرة، فلا بدّ لنا من أن نعود لديننا و تعاليمه من جديد و أن نأخذه عن علم و يقين من أجل الإلتزام به و تطبيقه في أرض الواقع.
و في نفس الحديث الأوّل الذي ذكرناه يعظ رسول الله الأنصار فيُذكّرهم أنّهم كانوا في حالة إنقسام و قطيعة و صراع ثم جاء الإسلام فألّف بين قلوبهم و جعلهم مجتمعًا واحدًا حريصًا على تأدية رسالته في الحياة تربط بين أفراده الأخوة الإسلامية القائمة على المحبة و الرحمة و التكافل.
و أمّا نحن اليوم فإنّنا نعيش حالة من التمزّق و القطيعة فكلّ يبحث عن مصلحته بأنانية و أصبحنا لا نهتمّ بشؤون بعضنا البعض و لا نَنصر بعضنا البعض بل أصبح البعض منّا يتحالف مع أعدائنا و يُطبّع معهم من أجل مصالح زائلة كما يحصل اليوم في قضية فلسطين و التّسابق من أجل التّطبيع العلني مع الكيان الصهيوني الظّالم الذي هو خيانة عظمى و تنكّرا لروح الأخوّة الإسلامية.
فمن المُهمّ اليوم تحقيق السّلم الإجتماعي بيننا و توحيد الجهود من أجل بناء مُجتمعاتنا فالتّناحر و الإنقسام هي بوادر الهلاك و التشتّت و الضعف التّي تجعلنا عُرضَة للإستغلال و السّيطرة علينا من قبل القوى العالمية و لن نفلح حتى نكون كالجسد الواحد و نهتم ببعضنا البعض و نكون خير سند لبعضنا البعض، فالذي نحتاجه اليوم هو نبذ الخلافات و القطيعة مع الخصومات و التشارك في العمل و البناء من أجل غاية واحدة تحقيق نهضة مجتمعاتنا و الرقي بها.
فمانراه اليوم من تباعد و صراع بين المجتمعات المسلمة هو نتيجة لبعدنا عن منهج الله و إتّباعنا لشعارات كاذبة و مزيّفة لم تزد الوضع إلا سوءا فمتى نتعقل و نصلح ما أفسدناه بأيدينا و أن نجعل وحدتنا في ديننا؟!
و في ختام نفس الحديث يُذكّر رسول الله الأنصار كيف تحوّلوا إلى قوة إقتصادية أخرجتهم من الفقر و العالة إلى الغنى و الإكتفاء الذاتي و يعود ذلك بأنّ الإسلام يدفع أهله للعلم و الإنتاج و العمل و الصناعة و يعتبرهم قيم ثابتة في ديننا و هي من الواجبات التي يجب علينا تحقيقها داخل كل مجتمع و لا يمكننا اليوم كمجتمعات جاهلة و مُستهلكة أنْ تكون لنا قِيمة بين الأمم أو تكون لنا حريّتنا الإقتصادية فنحن نعيش في تبعية لغيرنا و نستهلك ما يُقدّموه لنا من منتوجات في مختلف المجالات.
فكلّ فرد فينا مطالب بإتقان المجال الذّي يعمل فيه أو الذي يدرسه بغاية الإبداع و الإبتكار حتّي يستطيع تغطية حاجيات مجتمعه في هذا المجال مع دعم رؤوس الأموال عندنا الكفاءات العلميّة و تحمّل مسؤوليّتهم في إحداث مشاريع إنتاجية و صناعيّة مع دعم البحث العلمي في الداخل عندنا.
و في الختام علينا أن نعي جميعًا أنّنا نحن المسؤولون على وضعنا الذي وصلنا إليه و إذا أردنا إصلاح ما أفسدناه بأيدينا فعلينا العودة للإسلام من جديد و إحياء تعاليمه بيننا كأفراد مجتمع داخل أُسَرنا و في تعاملاتنا اليومية، و إذا إخترنا البقاء على ما نحن عليه اليوم و الإستسلام للواقع فلن يكون هنالك تغيير و سنبقي في تخلف و جهل و ضعف، و قد أثبتت التجارب السابقة و المتواصلة إلى اليوم و منقطعة الصلة مع ديننا فشلها وعجزها عن التغيير، فلنتصالح كمسلمين مع ديننا و لنعد إلى منهج الإسلام الذي تركنا العمل به فهو سبيل نجاحنا.
الهوامش:
(1): فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب المغازي ، باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان، الجزء السابع، الحديث رقم: 4075، الصفحة رقم : 644.
(2): المستدرك على الصحيحين، كتاب الإيمان، قصة خروج عمر إلى الشام وقوله إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلن نبتغي العزة بغيره، الجزء الأول، الحديث رقم: 214، الصفحة رقم: 237.
(3): فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يتقى من فتنة المال، الجزء 11، الحديث رقم: 6071، الصفحة رقم 285.
(4): شرح النووي على مسلم، كتاب الإيمان، باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، الجزء 2، الحديث رقم: 142، الصفحة رقم: 324.
(5): مسند الإمام أحمد، باقي مسند المكثرين، مسند أبي هريرة رضي الله عنه، الجزء الثاني، الحديث رقم: 8156، الصفحة رقم: 329.