الثقافة هي مجموع السّلوكيّات و التصوّرات التّي ينتهجُها الفرد داخل المُجتمع، فهي تشمل كافّة الطّبقات الإجتماعيّة و ليست حكرًا على فئة مُعيّنة بل وجب علينا جميعًا الإنشغال بتصحيح ثقافة المُجتمع و الحفاظ عليها من الإنحراف و الإنحلال، و لكلّ مُجتمع ثقافته الخاصّة التّي تُميّزه عن غيره و بالنّسبة لنا نحن كمسلمين فالأصل أن تكون ثقافتُنا مُستمدّة من مبادئ الإسلام و قيمه أيْ أن تكون سُلوكيّاتنا داخل المجتمع و طريقة عيشنا مُطابقة لما جاء به رسول الإسلام عليه أفضل الصّلاة و السّلام. و نحن اليوم في عصر الإنفتاح الحضاري و الثّقافي و في وضعنا الحالي المُتّصف بالضّعف و الجمود في مُختلف مجالات الحياة لم يخدِمنا هذا الإنفتاح و لم نأخذ من الثقافات الأخرى ما ينفعُنا بل حصل العكس تمامًا حيث جَلبنا لمُجتمعاتنا ثقافة التحلّل من الدّين و الإبتعاد عن أخلاقيّاته في واقع الحياة و إنغمسنا في ثقافة التحرّر من مُختلف الموانع الأخلاقيّة و فتحنا أبواب المعاصي و الشّهوات باسم الحرّيّات الشّخصيّة.

عندما انفتحت فئات من مُجتمعاتنا على الثّقافة الغربيّة مع ضُعف تكوين هذه الفئة من النّاحية الدّينيّة مع تردّي الأوضاع الدّاخليّة عندنا، أصبحت هذه الفئة مُنبهرة بالتقدّم المادي في الغرب و وقعت هذه الفئة في التّقليد الأعمى للآخر عملاً بالقاعدة في علم الإجتماع التّي تقول " إنّ الأمّة المغلوبة مولعة بتقليد الأمّة الغالبة"، و بالتّالي نَتج عن ذلك أن تكوّنت عندنا نُخب مُثقّفة تتهافت على جلب الثقافة الغربيّة لُمجمعاتنا و مُحاولة فرضها على باقي الأفراد مع طمس هوّيتهم الإسلاميّة ظنًّا منهم أنّ سبيل نُهوضنا مُرتبط بمدى تقليدنا الأعمى للغرب. و لا ننسي أيضًا أنّنا في عصر الغزو الثّقافي حيث تُحاول الأمم الغالبة فرض ثقافتها و قيمها الباطلة داخلة مُجتمعاتنا المُسلمة من أجل إبعاد الشّعوب عن مبادئ دينهم ضمانًا لتَواصل سُباتهم و تخلّفهم و ضمانًا لسيطرتهم عليهم و إخضاعهم لهم مع تحقيق مصالحهم و إستنزاف الخيرات الباطنيّة الموجودة في مُختلف دُولنا الإسلاميّة، و بداية هذا الغزو كانت منذ عهد الإستعمار و تواصلت مع الدّراسات الإستشراقيّة التّي كان هدفها إكتشاف مواطن القوّة و الضّعف عندنا و تهوين أمر الدّين و التّشكيك في أركانه الكبرى مع مُحاولة إخراجه من الحياة، و لقد أصبحت اليوم النّخب المُثقّفة عندنا تخدم مصالح أعداء مُجتمعاتنا بإدخالنا في صراع الهويّة و تغريب المُجتمع.

و من ثمّ توسّعت ثقافة الإنبهار بالغرب و قبول كلّ وارد منهم رغم ردائته و مُخالفته للأخلاق الإسلاميّة، فشملت هذه الفتنة الثّقافيّة أغلب أفراد المُجتمع الذّين أصبحوا يشعرون بالنّقص و فقدوا الأمل في التّغيير و الخروج من ظلمات الجهل و الظلم و الجمود و أصبحوا مُستسلمين للأمر الواقع فاقدين ثقتهم في دينهم و في مبادئه حتّى أصبح الأغلب منّا يعيش انحلال ثقافي حيث تحوّل حُكمنا على الأشياء قائمًا على الخلفيّة الغربيّة، و بالتّالي أصبحنا نرى في مُجتمعاتنا من يعتبر شرب الخمر و الزّنا و القُمار و الشّذوذ الجنسي أمرًا عاديًّا يدخل في نطاق الحريّات الشّخصيّة و أصبحت الفواحش أمورًا مقبولة وجب التّعايش معها و احترام مُرتكيبيها، و في المُقابل تناسينا بأنّنا ننتمي لعقيدة واضحة ترى في مثل هذه المُخالفات انحرافًا عن العهد و تمييعًا للحياة و فيها فساد للمجتمع و ما جاء الإسلام إلاّ ليُحرّرنا منها و يبنى لنا منهج حياة مُستقلّ يتميّز بثقافته الإسلاميّة الخاصّة الذّي وضع الله عزّ و جلّ لنا معاييرها و حدودها عملاً بقوله تعالى:" ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"(1).

و لعلّ من أهمّ أركان الثقافة الغربيّة هو النّزعة العلمانيّة فيها حيث يَرون أن الدّين وجب فصله عن قوانين الحياة و يبقي الإلتزام به في حدود الإختيار الشّخصي و ليس من المهمّ إظهاره داخل المُجتمع و ليس مُلزمًا تطبيقه في المعاملات اليوميّة، و إنعكس ذلك على ثقافتنا سلبًا حيث وقع إنفصال عملي بين ما نؤمن به من عقيدة و بين سُلوكيّاتنا في حياتنا اليوميّة و تمّت مُحاصرة الدّين داخل جُدران المساجد و الإكتفاء بأداء الشّعائر التعبّديّة و أصبحنا لا نرى إلتزامًا بمبادئ الإسلام في مُختلف مجالات الحياة حتّى وصل بنا الحال بأن يقول البعض منّا أنّ النيّة و الإيمان تكفي في ديننا و لسنا بحاجة للعمل به و أصبحت هذه الثقافة الرّائجة في مُجتمعاتنا اليوم. فإن كانت حقيقة الإسلام تقتضي الإيمان بلا عمل و لا إلتزامًا بشريعته فكيف سيكون له أثر في الحياة و لماذا بذل رسول الله عليه الصلاة و السلام و صحابته أقصى جهدهم من أجل إقامة دولة مُسلمة تحكم بشريعته؟ و كيف يُمكننا تغيير الواقع و التّأثير في مجرى التّاريخ إذا رضينا بالقعود و تركنا العمل بمبادئنا؟ فلو عدنا لتعاليم القرآن لوجدناها كلّها تدعوا للعمل بمُقتضى الإيمان و إقامته في الحياة، أفلم يقل لنا الله عزّ و جلّ:" لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا" (2).

و تفسيرًا لهذه الآية يقول ابن كثير:" والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : " إنه هو المحق " سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ; ولهذا قال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ; ولهذا قال بعده : ( من يعمل سوءا يجز به )"(3)، فإنّه من المعلوم أنّه من آمن بشئ التزم به و جعله سُلوكه في الحياة و أمّا أن يعمل بعكس ما آمن به فما هو إلاّ ضعف في الإيمان و إنفصال في الشّخصيّة، و كما أنّ أصل كلمة الدّين هي طريق العيش التّي إختارها الإنسان لنفسه فتجد الملحد يؤمن بالمبادئ التّي تُوافق تصوّراته في الحياة و تجد العلماني يعيش وفق المبادئ التّي آمن بها و يكون سلوكه قائم على ذلك، فلماذا نحن المُسلمين اليوم نؤمن بالإسلام و نعيش بثقافة مُناقضة له؟ إنّ ما نحتاجه اليوم في واقعنا هو ترسيخ ثقافة العمل بمُقتضى الإيمان و الإلتزام به و بأن يسعى كلّ واحد فينا في مُجاهد نفسه من أجل الإستقامة على منهج الإسلام و إقامته في الحياة و من هنا يبدأ طريق التّغيير الذّي وصفه لنا رسول الله عليه الصّلاة و السّلام، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ قَالَ قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ"(4).

فإذا أردنا النّهوض من جديد و بناء مُستقبل مُشرق فنحن بحاجة إلى تجديد العهد مع ثقافتنا الإسلاميّة التّي بها يُحدّد الواحد منّا سُلوكيّاته في الحياة و تصوّراته لها، و من أجل تحقيق ذلك نحتاج إلى وسائل فعّالة تُرسّخ داخل مُجتمعاتنا ثقافة العمل و الإلتزام بمبادئ ديننا، و من أهمّ هذه الوسائل قوّة الكلمة و البيان فنحن في عصر الإعلام الذّي له تأثير واضح في حياة النّاس حيث أصبحت الأفكار تُصاغ عن طريقه و ما إن يجلس الواحد منّا أمام التّلفاز إلاّ و تمّ إفراغه من ثقافته و أفكاره و ملئه بثقافة و أفكار جديدة و بالإعلام يتمّ تزيين الباطل و جعله في خانة الحريّات و إستحسانه و التّرويج له و في المقابل يتمّ طمس الحقّ و تشويهه و إغفاله عن الواقع مع تشويه من يدعون إليه و شيْطنتهم من أجل إبعاد النّاس عنهم و عدم السّماع لهم، فالإعلام اليوم بإختلاف أنواعه المرئيّة و المقروئة و المسموعة له قوّة تأثير على توجّهات الأفراد و سُلوكيّاتهم و قد استغلّت النّخب المثقّفة عندنا المُتؤثّرة بالثقافة الغربيّة هذه القوّة من أجل تغيير سُلوك الفرد و فصله عن دينه، و نحن اليوم بحاجة إلى جهاد إعلامي تتجنّد له القوى الماديّة و الكفاءات البشريّة من أجل صناعة مُحتوى إحترافي مُستمدّ من مبادئ الإسلام و ثقافته و يتم ّمن خلاله تبيين الحقائق و مُعالجة مشاكل المُجتمع و مُحاولة تربية الفرد المُسلم على الإلتزام بدينه و تقويم سُلوكه وفق شريعة الإسلام، و علينا كأفراد أن نقوم بتصفية ما يرد علينا من مواد إعلاميّة فليس كلّ ما يُقرأ أو يُسمع أو يُرى هو الحقّ بل لا بدّ من وعي ثقافي نستطيع من خلاله أخذ ما ينفعنا و طرح كلّ ما يناقض ديننا و يُلوّث واقع الحياة عندنا على أن يكون مرجِعنا في الحكم على ما نتلقّاه هو شريعة الإسلام و قيمها، فإنّه ليس من العيب الإنفتاح على الثقافات الأخرى و الإستفادة من تجارب الأمم النّاجحة بل نحتاج إلى إنفتاح ثقافي ذكي يرتقي بنا في أساليب الحياة و يُحقّق لنا مصالحنا و يُطوّر من مُجتمعنا مع شرط الحفاظ على هويّتنا و مبادئنا، و إنّه من الغباء الثّقافي أن نأخذ من الآخر سُمومه و ما لا يُناسب واقعنا من قُبول للشذوذ و التعرّي و ترويج للإختلاط الماجن و فتح باب المعاصي و الشّهوات على مصرعيه و في المقابل نترك الإقتباس منهم وفق منهجنا ما يُمثّل قوّة عندهم من تقدّم علمي و صناعي و إقتصادي و سياسي و من تطوّر التّنظيم الإداري و من إنضباط في العمل و إتقانًا له.

و من الوسائل أيضًا مُحاولة طبع النّفس على ثقافة القرآن في مواجهة ثقافة التّغريب عن طريق إنشاء مجالس قرآنيّة داخل بيوتنا، فعلى الأب و الأمّ الحرص على إنشاء مجلس قرآني تجتمع فيه كامل الأسرة يقومون فيه بتلاوة آيات الذّكر الحكيم بنيّة التلقّي كأنّه نزل عليهم لتوّه و من ثمّ مُحاولة فهم الآيات و الإستعانة بكتب التّفاسير التّي أصبحت مُتاحة للجميع و حتى لو أنّ الوالدين زادهم ضعيف على المستوى الدّيني فهذه فرصة لهم من أجل تغيير حياتهم و العودة لمنهج الله و من ثمّ مُحاولة تدبّر الآيات و عرض النّفس عليها و مُحاولة فهم الطّريقة التّطبيقيّة لها بغاية العمل بها، و إنّ مثل هذه المجالس الأسريّة فيها تقوية للعلاقات و حفاظًا على كيان الأسرة و حماية لها و فيه ترسيخ لثقافة القرآن لدى الأبناء و تربيتهم عليه، و لنا أيضًا إقامة مجالس قرآنيّة في مُختلف الأماكن من مساجد و غيرها من الملتقيات بغاية تدارس آياته و تعلّمها و نشر ثقافته مع تقريب مفاهيمه العمليّة لكافّة شرائح المُجتمع فنحن بحاجة لفهم القرآن و تدبّره الموصل للعمل به و من الخسران أن يُصبح القرآن الغاية منه حفظه بدون فقه و لا علم و لا عمل بأركانه، و به يُصبح المجتمع أكثر تماسكًا و تنبثق منه ثقافة الأخوّة الإسلاميّة و به يُعاد صياغة الأفكار و ترسيخ الثقافة الإسلاميّة من جديد.

الهوامش:

(1): سورة الجاثية، الآية 18.

(2): سورة الالنساء، الآية 123-124.

(3): تفسير ابن كثير، تفسير سورة النساء، تفسير قوله تعالى " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب "، الجزء الثاني، الصّفحة رقم: 418.

(4): شرح النووي على مسلم، كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، الجزء الثاني، الحديث رقم: 38، الصّفحة رقم: 206.