إنّ من أهمّ مفاهيم العدل هي وضع الشئ في مكانه المناسب و حُسن توظيفه، و إذا ما تمّ الإخلال بهذا المفهوم ينعدم العدل و يحلّ مكانه الظلم و الفساد و الإنحراف و تبديد الطاقات، و في المقابل يُعتبر المال من الوسائل الُمعينة للإنسان في حياته اليوميّة و أصبح اليوم من الضّرورات التّي يستكمل بها المسلم أداء رسالته في الحياة، و إذا ما ربطنا العدل بالمال يُصبح المفهوم الجديد العدالة المالية و المقصود بها حُسن التصرف في الثّروة الماليّة و إنفاقها في مواضعها المخصّصة لها و التّي فيها نفع للفرد و للمجتمع ككلّ، فالمال أمانة جعلها الله في يد الإنسان و إستخلفه فيها من أجل حُسن توظيفها و تسخير هذه النعمة في السّبل التي ترضى الله عز و جل عملا بقوله تعالى: "ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ"(1).
إنّ الثّروة الماليّة قد تعود على صاحبها أو على المجتمع بالنّفع إذا اتّبع فيها منهج العدل و أدّى ما عليه من الواجبات التّي فيها، و قد تعود على صاحبها أو على المجتمع بالضّرر و تُصبح فتنة له إذا أصبح أسيرًا لها و زاغ عن طريق العدل فيها، فتصرّف الإنسان في ما يملك من ثروات ماديّة هو الذّي من خلاله نستطيع الحكم على إيجابيّتها أو سلبيّتها. و ما نلاحظه في واقعنا اليوم هو أنّه أصبح المال في غالبه فتنة داخل المجتمع و انتشر فيه التّرف المُهلك و من ثمّ تكوّنت عندنا طبقات مُترفة هدفها تجميع المال و إكتنازه و السيطرة على موارده. و قد تتمثّل هذه الفئة المُترفة في حكومات أو رجال أعمال أو طباقات إجتماعية معيّنة، و من أجل تحقيق أهدافها في تحصيل الثّراوات الماديّة و تنميتها فإنّها ستسعي لتعبيد النّاس لصالحها و السّيطرة عليهم و ستُعارض و تُحاصر كلّ دعوة إصلاحيّة داخل المجتمع لأنّ فيها إيقاظ للأفراد و توعية لهم و فيها مُحاربة لطُغيانهم و فسادهم. و ستسعى أيضا هذه الفئة المُترفة من كسب المال بأيّة طريقة كانت سوى عن طريق السلب و الإحتيال و الغش و الظلم و التعاملات الربوية و سيعود ذلك سلبا على حياة الناس حيث ستعتاد نفوسهم على الظّلم و الفساد و سَيسعون بدورهم إلى تحقيق الرّبح المادي عن طريق نفس الوسائل المنحرفة التّي تستعملها هذه الفئة أو سيسعون لإرضائها من أجل تحقيق مصالحهم الذاتية و بالتّالي سيَتحوّل هدف أفراد المجتمع في الحياة هو تحقيق مصالحهم و عدم الإلتفات لقضايا مُجتمعهم الكبرى و عدم محاولة بذل الجهد و التّضحيات اللاّزمة من أجل تغيير واقعهم الذّي إستسلموا له.
و لا ينتهي دور هذه الطبقات المترفة هنا بل إنها ستسعى لتحقيق منافعها المادية إذا ما وصلت لمناصب عُليا داخل الدولة و ستضع يدها على المال العام و ستجعل لنفسها جزءًا منه لنفقاتها الخاصّة و جزءًا منه لقضاء مصالحها و ستجعل سبيلها إلى ذلك نشر الفساد الإداري داخل أجهزة الدّولة تغطية عن تجاوزاتهم و سيصبح المُوظّف ضعيف الإيمان و المُفرغ من المبادئ الإسلاميّة مُستسلما لذلك و راضيًا به بل قد يَصل به الأمر بأن يُصبح جُزءًا من هذا الفساد من أجل تنمية ثروته و خِدمة مصالحه تلبية لجشعه الداخلي و أنانيّته غير مبالٍ بما أصاب المجتمع من مفاسد و إنحراف و إنهيار.
و تُعتبر طباع التّرف كالعدوة تنتشر بين أفراد المجتمع لتُصبح من عاداتهم و سلوكيّاتهم في تعاملاتهم اليوميّة، و من أسوأ هذه الصّفات الكسل و العطالة بحيث يُحاول أهل التّرف كسب المال عن طريق الإستغلال للآخرين و التّقاعس عن الكدح و الإنتاج و الصّناعة التّي فيها ربح و خسارة و فيها مجازفة برأس المال الذّي يملكونه لأن هدفهم الرّئيسى هو إكتناز الثّروات و في ذلك تأثير على طبائع أفراد المجتمع الذّين سيحاولوا كسب الثّروة بطريقة سريعة بعيدًا عن بذل الجهد بل فقط باتّباع أقصر السّبل المُمكنة و لن يبحث أغلب الأفراد عن تطوير مهاراتهم و خبراتهم في طُرق العمل و الإنتاج، و من أسوأ هذه الصّفات أيضًا الشحّ و حبّ الثّروة و البُخل في العطاء و الإنفاق و بذلك تتعطّل مصالح المجتمع العامّة فلا يُنفقون أموالهم إلاّ من أجل الرّبح و تنمية مكاسبهم و سينجرّ عن ذلك تعطّل العبادات الماليّة من صدقات و زكاة و سينعدم التكافل الإجتماعي داخل المجتمع و ستنتقل هذه الصّفة بين أفراد المجتمع و سيعيش كلّ لنفسه و تَطغي صفة الشُحّ و البُخل كلّ يُريد الحفاظ على ما يملك من ثروة قليلة كانت أو كبيرة و لن يُنفق منها إلاّ من أجل الزيادة في أرصدته.
و من الصّفات السيئة أيضًا للتّرف و أهله هي اللّهو و الإنغماس في تحقيق شهواتهم و لذّاتهم و من هنا يقومون بفتح أبواب الرّذائل بأنواعها فيُشبعون غرائزهم منها و يُغرقون باقي أفراد المجتمع فيها من أجل إغفالهم عن واقعهم و عدم الإهتمام بقضايا و مشاكل مجتمعاتهم الكبرى و يُواصلون جمودهم و سباتهم فلا ينتفضون عليهم، و من صفاتهم السيئة أيضا قابليّة بيع ذِممهم و دينهم و وطنهم من أجل الثّروة و من أجل الحفاظ عليها و تنميتها و قد انتقلت هذه العدوى لأفراد المجتمع الذين أصبحوا لا يهتمّون إلاّ بمصالحهم و أصبح البعض منهم يخون و يغدر و يبيع دينه بغَرض من الحياة الدنيا.
و في هذا الجوّ من التّرف الطّاغي و من الفساد المنتشر إختار باقي أفراد المجتمع الذّين حافظوا على دينهم و مبادئه و لم يَسقطوا في صفات التّرف أو مظاهره الإنعزال و الهروب بالنّفس من فتنة المال فأصبحوا يكتفون بالقليل من العيش هاربين من واقعهم مُحافظين على سلامة نفوسهم، و ما هذا إلاّ هُروب من الواقع و لن يحدث أيّ تغيير داخل المجتمع و إنّه من الحسرة أن نرى أصحاب الثّروات ممّن صلحوا لا يستغلون هذه النعمة في تحقيق العدالة المالية بل يبقون جامدين و منتقدين للواقع بدون أثر عملي و يفسحون المجال لأهل الباطل حيث نجد أهل الترف و من والاهم يُنفقون أموالهم من أجل السيطرة على منافذ القوة و التّأثير في البلاد كالإعلام مثلا و تحصيل المناصب و الترشّح لها من خلال إنفاق المال و شراء الذّمم من أجل هذه الغاية أو دعم من يخدم مصالحهم فيها و التّرويج له، فالأولى لنا كأفراد مجتمع أن نكون حرصين على تحقيق العدالة المالية عملا بسنّة رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الْمُسْلِمُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" (2).
فالإسلام لا يرضي بهذه السلبيّة و لا يرضي لأتباعه أن يكونوا غائبين عن واقع الحياة بل يدفعهم و يمدّهم بالقوى الرّوحية اللاّزمة من أجل المُواجهة الإيجابيّة لمشاكلنا و لهذا يقول لنا الله عز و جل :" لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (3)، فالأصل بأن يَكون الإيمان قوّة حركيّة في الحياة مُرتبطة بالعمل لا بالتمنّي و التّراخي و الهُروب من مسؤوليّة التّغيير و مُحاربة الظلم و الإنحراف و الفساد و ما سبب وصولنا لهذا الواقع إلاّ تقاعُسنا عن توجيه طاقاتنا في الحياة من أجل العمل و الإصلاح و الإنعزال و فسح المجال للمُفسدين و لأهل الباطل من التّمكين داخل مجتمعاتنا و بثّ سُمُومهم و أفكارهم الضّالة و السّماح لهم من غرسها في نُفوسنا ، فعلى المسلمين اليوم أن يَعُوا دورهم في الحياة و أن يتحمّلوا واجبات رِسالتهم التّي كُلّفوا بها عملاً بقوله تعالى :" الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ"(4).
فما نحتاجه اليوم من أجل تحقيق العدالة الماليّة في مجتمعاتنا هو إخلاص العمل و بذل أقصى الجهد من أجل إنفاق الثّروات الماليّة في مواضعها الصّحيحة، و لدينا في ذلك أبواب كثيرة فكلّ مسلم له قدرة ماديّة و كلّ صاحب سُلطة له مسؤوليّة إدارة المال العام مُطالب بالإقبال على مجالات الحياة بكلّ قوّة مُحاولاً تغيير الواقع و النّهوض بمجتمعه، فمن العدالة المالية إنفاق الثروات المالية في مشاريع الإنتاج و الصناعة و دعم الكفاءات العلمية عندنا و توفير لهم رأس المال من أجل الإنطلاقة و صناعة ما نحتاجه بأيدينا، و من العدالة المالية إنفاق المال في إنشاء المدارس و المستشفيات و تحسين البنية التحتيّة للطّرقات و تحسين المرافق العمومية المُتاحة و إعادة تهيئتها ، و من العدالة المالية أداء الصّدقات و دعم المحتاجين و توفير لهم موارد رزق دائمة تحمى كرامتهم و تقيهم الفاقة و المسألة، و من العدالة المالية جمع أموال الزكاة و أدائها و من ثم إنفاقها على أهلها المؤهلين لها، و من العدالة المالية الإنفاق على الدعوة الإسلامية المُوجهة إلى إصلاح المجتمع و النهوض به سوى عن طريق إنشاء قنوات إعلامية مؤثرة ذات جودة عالية و إحترافية في العمل أو عن طريق تكوين الدعاة و إنشاء المدارس القرآنية، و من العدالة المالية دعم أهل الحق الحاملين لرسالة الإسلام للوصول إلى المناصب العليا في مجتمعاتنا بغاية إقامة الحقّ و العدل فيها، و صدق رسول الله عليه أفضل الصلاة و السلام في الحديث الذي يقول فيه:" إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا؛ فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ؛ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ؛ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ؛ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ (تَعَالَى) عِلْمًا؛ وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا؛ فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ؛ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ؛ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا؛ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ؛ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ؛ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ؛ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا؛ وَلَا عِلْمًا؛ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ؛ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ"(5).
الهوامش:
(1): سورة الحديد، الآية 7.
(2): مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، كتاب الآداب، باب الرفق والحياء وحسن الخلق، الجزء الثامن، الحديث رقم: 5087، الصفحة رقم: 3180.
(3): سورة الحديد، الآية 25.
(4): سورة إبراهيم، الآية 1.
(5): فيض القدير، حرف الثاء، الجزء الثالث، الحديث رقم: 3450، الصّفحة رقم: 299.