(مقالة مترجمة من مجلة الفورين أفيرز)


قبل ثلاثين سنة، رأى كثير من الأوروبيين في التعددية الثقافية[2] –وهي الاحتواء الشامل لمجتمع متنوع- جوابًا لمشاكل أوروبا الاجتماعية. هذا التصور أدّى ببعض السياسين البارزين، كرئيس الوزراء ديڤيد كاميرون وأنجيلا ميركل، إلى الإفصاح علنًا عن خطر التعددية. وهذا ما دعم نجاح الأحزاب اليمينة والشعبوية المتطرفة في كل أوروبا، من حزب الحرية في هولندا إلى الجبهة الوطنية في فرنسا، وألهمت في حالات متطرفة أعمال عنف مريعة، كالعمل الانتحاري الفظيع في جولاي 2011، والذي قام به أندرس بريفيك[3] في جزيرة أوتويا في النرويج.

كيف حصل هذا التحول؟ بناءًا على نقّاد التعددية، فإن أوروبا كانت قد منحت حق الهجرة لعدد مفرط من الأجانب دون مطالبة كافية بالاندماج. عدم التطابق هذا أدّى بالتماسك الاجتماعي إلى التآكل، وبالهويات القومية إلى الانحسار، وبالثقة الشعبية إلى التدهور. وفي الجهة المقابلة، أجاب أنصار التعددية بأن المشكلة لا تكمن في ارتفاع معدل التنوع في المجتمع، بل في ارتفاع صوت العنصرية.

لكن الحقيقة هي أن التعددية أكثر تعقيدًا مما يصف الطرفان، والجدل حولها يؤول في الغالب إلى سفسطة. التعددية أصبحت ممثِّلة لمختلف المسائل الاجتماعية والسياسية: كالهجرة، والهوية، والكبوة السياسية، وانحسار الطبقة العاملة. دولٌ متعددة كانت قد اتبعت مساراتٍ متمايزة. فالمملكة المتحدة سعت إلى منح حصة متساوية في النظام السياسي لمختلف الجماعات الإثنية. أما ألمانيا فقد شجعت المهاجرين على السعي إلى حياة منعزلة بدلاً من منحهم المواطنة. وفرنسا رفضت سياسات التعددية لصالح السياسيات الاستيعابية[4]. فكانت النتائج الدقيقة أيضًا متمايزة: فهنالك العنف الشعبي في المملكة المتحدة، وأُزيحت الجماعات التركية في ألمانيا خارج التيار السائد في المجتمع، وأصبحت علاقة الجماعات الشمال أفريقية مشحونة مع السلطات الفرنسية. ولكن الحصيلة الشاملة في كل دولة هي نفسها: مجتمع هش، وأقليات نافرة، ومواطنيين مستائين.

كون التعددية أداةً سياسيةً، فإن لها مهمة غير كونها استجابة للتنوع المجتمعي، فهي أيضًا أداة لتقييد هذا التنوع. وهذا التبصّر يظهر المفارقة. فسياسات التعددية الثقافية تقبل -كأمر مفروغ منه- أن المجتمعات متنوعة، ومع ذلك، يُظن ضمنًا أن هذا التنوع ينتهي عند حافة مجتمع الأقليات. ويسعى أنصار سياسة التعددية إلى مأسسة هذا التنوع عن طريق تقسيم الشعب ووضعهم بقوالب إثنية وثقافية -كجماعة مسلمة مفردة متجانسة على سبيل المثال- وتعريف حاجتهم وحقوقهم بناءًا عليها. بمعنى آخر، هذه السياسيات ساعدت على إنشاء ذات الانقسامات التي أُريد معالجتها مسبقًا.

خرافة التنوع المجتمعي

إن حلّ كثير من خيوط جدالات التعددية المتشابكة يتطلب إدراكًا لذات المفهوم. فمصطلح "التعددية الثقافية" أصبح معرِّفًا لكلٍ من المجتمع -المتنوع على وجه الخصوص والذي ينجم عادة من الهجرة- والسياسات الضرورية لإدارة هكذا مجتمع. فيجسّد بالتالي وصفًا للمجتمع، ووصفةً للتعامل معه. الخلط بين الأمرين -تصور المشكلة مع حل مفترض- جعل جوهر الجدال معقدًا أكثر. يتطلب فضّ الختم عن هذه التعقيدات وتقييم كل حالة تقيممًا دقيقًا.

يتفق كل من النقاد والمناصرين للتعددية بصورة عامة على أن الهجرة الجماعية جعلت أوروبا أكثر تنوعًا. وإلى حد ما، تبدو هذه حقيقة بديهية. ألمانيا اليوم هي ثاني أشهر وجهة للمهاجرين بعد الولايات المتحدة. ففي عام ٢٠١٣، أكثر من عشرة ملايين ألماني، أي ما يعادل ١٢٪ من السكان، وُلدوا خارجها. والرقم في النمسا ١٦٪؛ وفي السويد ١٥٪؛ وفي المملكة المتحدة وفرنسا، قرابة ١٢٪. من وجهة نظرٍ تاريخية، الزعم بأن مجتمعات هذه الدول أصبحت ذات عناصر متعددة أكثر من أي وقت مضى ليس بدقيق كما يبدو من الوهلة الأولى. قد تبدو المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر وحدةً متجانسة من وجهة نظر هذا العصر، لكنها لم تكن تحمل ذات التصور عن نفسها في ذلك الحين.

فلنتأمل فرنسا. في سنوات الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، نصف السكان فقط كانوا يتحدثون الفرنسية، و١٢٪ منهم فقط يتحدثونها على وجهها الصحيح. كما أظهر المؤرخ يوجين ويبر، فإن تحديث وتوحيد فرنسا عقب آثار الثورة تطلب عملية جراحية طويلة من الاستعمار الذاتي في شتى النواحي الثقافية، والتعليمية، والسياسية، والاقتصادية. هذا الجهد شكل دولة فرنسا الحديثة وصنع ميلادًا لأفكار التفوق والسمو الفرنسية (والأوروبية) على الثقافات غير الأوروبية. لكنها دعمت الحس بالتفاوت ثقافيًا واجتماعيًا والذي كان ولا يزال حاضرًا بين أكثر السكان. في خطاب للمجتمع الطبي النفسي في باريس[5] عام ١٨٥٧، تسائل الاشتراكي النصراني فيليب بوتشز[6] كيف يمكن "أن تتشكل أعراق -ليس مجرد عرق واحد، بل عدّة أعراق- مغلوب على أمرها، ومتدنية، ومنحطة وقد تُصنّف بأنها أكثرانحطاطًا من غالبية الأعراق المتوحشة في داخل شعب كشعبنا؟ وبسبب تدنّيها، فهي أحيانًا بلا علاج." لم تكن تلك (الأعراق) التي سببت بعض القلق لبوتشز من شمال أفريقيا أو آسيا، بل من الأرياف الفقيرة في فرنسا.

كذلك رأى كثير من البريطانيين في العصر الڤكتوري في أنفسهم الطبقة المدنية العاملة، ورأوا "الآخر" في القروي. مقالة قصيرة في نسخة عام ١٨٦٤ من المجلة اليبرالية ذائعة الصيت في ذلك العصر، ذا ساتورداي ريڤيو[7] عن حياة الطبقة العاملة في بيثنال قرين شرقي لندن. تمثل مدينة بيثنال غرين النموذج السائد لمكانة الطبقة المتوسطة في العصر الڤيكتوري. تشرح المقالة القصة كالتالي، "كان فقراء مدينة بينثال غرين طبقة اجتماعية منفصلة، عرق لا نعلم عنه شيئًا، فحياة أهله مختلفة كليًا في مظهرها العام عنا، فهم أشخاص لا تربطنا معهم أية صلة." تشير المقالة إلى أن الحال ينطبق إلى حد كبير على "الجموع الحاشدة من المزراعين الفقراء." رغم أن الفوارق بين العبيد والأسياد كانت تعتبرأكثر "وضوحًا" من الفوارق بين الموسرين والمعسرين، إلا أن التشابه بينهما جدُّ كبير؛ وفي الواقع، كانت الفوارق متأصلة جدًا لدرجة منع حصول "أي شكلٍ من الترابط أو المصاحبة."

المجتمع البنغلاديشي اليوم يمثل ذاكرة بيثنال غرين في شرقي لندن. كثير من البريطانيين البيض يعتبرون سكانها الحاليين فقراء بيثنال غرين الجدد، فهم متميزون ثقافيًا وعرقيًا عنهم. بل إن أولئك الذين على الهامش السياسي فقط سيقارنون الاختلافات بين البريطانيين البيض وجيرانهم البنغلاديشيين مع نموذج السادة والعبيد. الفروق الاجتماعية والثقافية بين السادة الڤكتوريين أو أصحاب المصانع، من ناحية، والمزارع أو الميكانيكي، من ناحية أخرى، كانت في الواقع أكبر بكثير من الفروق اليوم بين الساكن الأبيض والساكن من أصول بنغلاديشية. رغم أن الكثيرين يرٍون الاختلاف مازال بذات الدرجة كما في الماضي، فذو الـ١٦ سنة من أصول بنغلاديشية في بيثنال غرين، والأبيض ذو ١٦ سنة قد يلبسان ذات الملابس، ويستمعان لذات الموسيقى، ويتتبعان نفس نادي كرة القدم. إن الأسواق، وملاعب الرياضة، والأنترنت تصنع مجموعة من التجارب والممارسات الثقافية المشتركة والتي تربطهم ببعضهم البعض أكثر مما كان في الماضي.

طاعون أشبه بفقدان الذاكرة التاريخي يدور حول جدالات الهجرة. فكثير من نقاد التعددية يرون الهجرة الحالية لأوروبا غير التي كانت في أوقات مضت. في كتابه تأملات حول الثورة في أوروبا[8]، أشار الصحفي كريستفور كالدويل أنه قبل الحرب العالمية الثانية، قدم المهاجرون للدول الأوروبية حصرًا من داخل أوروبا نفسها، ولهذا كان اندماجهم سهلاً. يقول كالدويل، "استخدام مصطلح مهاجرين لوصف الحركات داخل أوروبا، منطقي بدرجة أكثر بقليل من وصف النيويوركي بـ’المهاجر’ إلى كاليفورنيا." بناءًا على كالدويل، هجرة ما قبل الحرب بين الأمم الأوروبية اختلفت عن هجرة ما بعد الحرب لتصبح من خارج أوروبا، ولأن "الهجرة من دول جارة لا تستثير أكثر الأسئلة التي تدعو للقلق، مثل 'إلى أي مدى سيتناغمون معنا؟' و 'هل الاندماج هو ما يريدون؟' والسؤال الأكثر أهمية، 'لمن ولائهم الحقيقي؟'"

لهذه الأسئلة بالذات رحبت أوروبا بالمهاجرين في سنين ما قبل الحرب. وبحسب ما كتب العالم ماكس سيلڤرمان[9]، فإن تصور أن فرنسا احتوت اللاجئين من أماكن متفرقة في أوروبا بسهولة قبيل الحرب العالمية الثانية هو "وهم بأثر رجعي." وكثير منه ينطبق على المملكة المتحدة. ففي عام ١٩٠٣، شهود من اللجنة الملكية للمهاجرين الأجانب[10] صرحوا بمخاوفهم من القادمين الجدد إلى المملكة المتحدة، حيث أن هؤلاء سيميلون للعيش "بناءًا على تقاليدهم، وأعرافهم، وعاداتهم." وقد ذكر محرر الجريدة جي. إل. سيلڤر[11] بأن هنالك أيضًا مخاوف من "الوهن السقيم والمنتجات الخبيثة الأوروبية" والتي يمكن أن "تتغلغل في السوق الإنجليزية." فكان "قانون الأجانب 1905"[12] أول قانون أصدرته الدولة في شأن الهجرة، وقد صُمم خصيصًا لوقف تدفق اليهود الأوروبيين. بدون هكذا قانون، رئيس الوزراء حينها أرثر بلفورجادل أن القومية البريطانية "لن تصبح ذاتها، ولن تصبح القومية التي يجب أن نرغب بها لتكون إرثًا تتوارثه الأجيال القادمة." إنها، بلا لبس، الأصداء ذاتها للقلاقل المعاصرة.

العرق إلى القمّة

يبقى إذاًا سؤال ما إذا كانت أوروبا اليوم حقًا أكثر تعددية من القرن التاسع عشر خاضعًا للمناظرة رغم أن الأوروبيين في الحقيقة يعتقدون أن ارتفاع معدل التنوع الاجتماعي أمر لا نزاع فيه. جزء كبير من هذا يعود إلى التغيرات في الكيفية التي يعرّف بها الناس الاختلافات الاجتماعية. قبل قرن ونصف، كانت الطبقة أكثر إطار مهم لفهم التفاعلات الاجتماعية. كم هو صعب أن تتصور الآن أن كثيرًا من الناس في ذاك الوقت لم يروا في الوسوم العرقية كاختلاف في لون البشرة محددًا للتفاعلات الاجتماعية، بل في الطبقة أو الوضع الاجتماعي. أكثر مفكري القرن التاسع عشر لم يكونوا معنيين بالغرباء الذين تخطّوا حدود بلدانهم، لكنهم معنيين بأولئك الذين سكنوا الفضائات المظلمة في دواخلهم.

غير أن أهمية الطبقة في أوروبا كفئة سياسية وكوصمة للهوية الاجتماعية انحسرت خلال العقدين المنصرمين. وأصبحت الثقافة في ذات الوقت وبشكل تصاعدي المقياس المحوري الذي يعي الناس من خلاله الاختلافات الاجتماعية. هذا التغير يعكس توجهاتٍ أوسع. فالانقسام الأيدولوجي الذي شكّل السياسة إلى حدٍ كبير للمئتي عام الماضية بدأ في التقهقر، وأصبحت التمايزات القديمة بين اليمين واليسار ذو معنًا أقل. وأصبحت الجمعات العمّالية وأيدولوجيات سيطرة الدولة على الانتاج في انحدار، فخسرت الطبقات العاملة قوة اقتصادية وسياسية. في الوقت نفسه، سوق العمل أصبح في تمدد في كل ركن وزاوية من الحياة الاجتماعية. والمؤسسات التي جمعت، على نحو تقليدي، الأفراد المتفاوتين معًا، من النقابات العمالية إلى الكنيسة، بدأت تتلاشى من الحياة العامة.

وبالتالي، بدأ الأوروبيون بالنظر إلى أنفسهم وإلى انتماءاتهم الاجتماعية بطريقة مختلفة. فحددوا الوحدة الاجتماعية، على نحوٍ متزايد، ليس من الناحية السياسية بل من الناحية الإثنية، والثقافية، أو من ناحية المعتقد. وأصبحوا مشغولين بدرجة أقل بتقرير نوع المجتمع الذي يريدون تشكيله لانشغالهم بتحديد انتماء كل جماعة. هاتان المسألتان بالطبع مرتبطتان بشكل وثيق، فينبغي لأي معنى للهوية الاجتماعية أن يضعهما بعين الاعتبار. لكن رغم أن الطيف الأيدولوجي قد صغُر، وديناميكية التغيير قد تآكلت، فقد قدمت سياسة الأيدلوجيا السابقة السبيل إلى سياسة الهوية السياسية الحالية. وهي ضد الرؤية التي يرى بها الأوروبيون أوطانهم كونها على وجه الخصوص، بل الاستحالة، متنوعة، وقد صاغت سبلها للرد والمنازعة.

تحت مظلّتي

في حال وصفنا المجتمعات الأوروبية الحالية بالمتنوعة اجتماعيًا وبطريقةٍ استثنائية، فإن تعدديتها الثقافية معيبة بشكل بيّن. إذًا، ما وصفة التعددية العلاجية لهذا التنوع المجتمعي المفترض؟ خلال الثلاثة عقود الأخيرة، تبنت كثير من الأمم الأوروبية السياسات التعددية، لكنها تبنّتها بطرق متمايزة. فمقارنة تاريخية لأمتين فقط، كالمملكة المتحدة وألمانيا، وفهم القواسم المشتركة بينهما، يظهر كثيرًا من روح التعددية الثقافية.

واحدة من أكثر الخرافات السائدة في السياسيات الأوروبية هي أن الحكومات تبنت سياسيات التعددية لأن الأقليات أرادت أن تؤكد على اختلافها. رغم أن السؤال عن الاندماج الثقافي بالتأكيد قد أنهك النخبة السياسية، فهم لم يُشْغِلوا بالهم بالمهاجرين أنفسهم إلا مؤخرًا. عندما وصل رقم ضخم من المهاجرين من الشريط الكاريبي، والهند، وباكستان، إلى المملكة المتحدة في أواخر الأربعينات والخمسينات في القرن العشرين لتسدّ فراغ شحّ العمالة، خشي المسؤولون من أن هذا قد يقوّض مفهوم هوية البلاد. كما حذر تقرير حكومي عام ١٩٥٤ قائلاً، "رقم ضخم من الجماعات الملونة، كملمح ملحوظ لحياتنا الاجتماعية، سيُضعف ... مفهوم إنجلترا أو بريطانيا الذي يرتبط بكل المواطنين من السلالة البريطانية في الأمة."

أحضر المهاجرون معهم أعراف أوطانهم وتقاليدها، والتي غالبًا ما يفتخرون بها. لكنهم كانوا نادرًا ما يُشغلون بالهم على الحفاظ على هذه الاختلافات الثقافية، فلم يكونوا يعتقدون أن الثقافة مسألة سياسية. لم يكونوا مهمومين بالرغبة في أن يُعاملوا بطريقة مختلفة، لكنهم كانوا في الواقع يُعاملون بطريقة مختلفة. فالعنصرية واللامساواة تشكلان محور الاهتمام، لا الدين ولا الإثنية. في العقود اللاحقة، شكّل جيل جديد من النشطاء السود والآسيوين مجموعات مثل حركات الشباب الآسيوي[13]، ومنظمة عِرْق اليوم[14]، وبدأوا بالاحتجاج على مظالم التمييز في مقرّات العمل، والترحيل، ووحشية السياسات عن طريق تنظيم العصيان المدني والمظاهرات. هذه الجهود بلغت أوجها في سلسة من الاضطرابات التي مزقت حواضر المملكة المتحدة في نهاية ١٩٧٠ وبداية ١٩٨٠.

في هذا المرحلة، اتضح للسلطات البريطانية أنه ما لم تعطى تلك الأقليات حصّتها السياسية في النظام، فإن الاضطرابات ستستمر بتهديد الاستقرار في المناطق الحضرية. في هذا السياق ظهرت سياسات التعددية. وتصدرت الدولة استراتيجيةً جديدة في المجالين القومي والمحلي بتصوير المجتمعات الأفريقية والآسيوية داخل الاتجاه العام للعملية السياسية عن طريق تعيين مؤسسات محددة أو قادة للجماعة لتمثيل مصالحهم. في محور هذه المقاربة إعادة تعريف لمفاهيم العنصرية والمساواة. فالعنصرية الآن لا تعني ببساطة الحرمان من التساوي في الحقوق، بل تعني أيضًا الحرمان من حق أن تكون مختلفًا. والمساواة لم تعد تستلزم الحصول على الحقوق التي تتجاوز العرق، والإثنية، والثقافة، والمعتقد؛ بل تعني التأكيد على اختلاف الحقوق بسبب تلك الفروق.

فلنتأمل قضية برمنجهام، وهي ثاني أكثر مدينة مكتظة بالسكان في المملكة المتحدة. فقد اجتاحت الاضطرابات منطقة هاندروورث والتي أشعلت بشرارها تجْييش الاستياء العام من الفقر، والبطالة، ومضايقة الشرطة على وجه الخصوص. شخصان ماتا وجُرح العشرات في أعمال العنف. وعلى إثر هذا الاضطراب، حاول المجلس البلدي أن يشرك الأقليات عن طريق إنشاء تسعة مما يسمى بـ"مجموعات المظلة،"[15] وهي مؤسسات يفترض أن تحامي عن أعضائها في شؤون تتعلق بسياسات المدينة. قد قررت هذه اللجان احتياجات كل جماعة، كيف ولمن يجب أن تُصرف له الموارد، وكيف يجب أن يكون توزيع القوة السياسية. لقد أصبحوا الأصوات التي تنوب على نحو فعال عن الإقطاعيات المصنفة إثنيًا.

كان مجلس البلدية يأمل في أن يجتذب الأقليات إلى العملية الديموقراطية، لكن الجماعات واجهت صعوبة في تعيين المندوبين على المستوى الفردي وعلى مستوى الجماعة. بعضهم مثّلوا جماعات إثنية، كالحركات الكاريبية والأفريقية، بينما آخرون مثّلوا جماعات دينية كـ"قنصلية الكنائس بقيادة السود." تَنَاغمَ هذا التنوع بين الجماعات من خلال التنوع داخل الجماعة الواحدة؛ فلا يفترض أن كل من تمثّلهم اللجنة الإسلامية البنغلاديشية كانوا أتقياء بشكل متساوٍ على سبيل المثال. عيّنت خطة المجلس البلدي حتى الآن وبفعالية كل عضو في أقلية إلى جماعة منفصلة، وحددت احتياجات الجماعة ككيان، ووضعت المؤسسات المتعددة في منافسة مع بعضها البعض لأجل موارد المدينة. ويتم إقصاء أي فرد يقع خارج هذه الجماعات المحددة من عملية التعددية الثقافية بالجملة.

استقصى جوي وارمينغتون -مدير ما كان يُسمى بذالك الوقت "برمنجهام رايس اكشن بارتنرشيب"، وهي مؤسسة خيرية تعمل على تقليل اللامساواة- مشكلة سياسات برمنجهام في عام ٢٠١٥، وهي أن الناس "يميلون إلى التأكيد على الإثنية كجوهر للاستحقاق. لقد أصبح مقبولاً كممارسة جيدة أن تخصص الموارد على حدود الإثنية أو المعتقد. فبالتالي عوضًا عن التفكير في تلبية احتياجات الناس أو التوزيع المنصف للموارد، أُجبرت المؤسسات على التفكير بالتوزيع حسب الإثنية." العواقب كانت كارثية. فبعد عقدين من اضطرابات هاندروورث، في أكتوبر ٢٠٠٥، انفجر العنف في الأحياء المجاورة للوزيلز (منطقة تقع غربي مدينة برمنجهام). نذكر أنه في عام ١٩٨٥، نزل المتظاهرون الآسيويون والسود والبيض إلى الشوارع احتجاجًا على الفقر والبطالة ومضايقة الشرطة. أما في عام ٢٠٠٥، فقد كان العراك بين الآسيوين والسود. و كانت الشرارة مجرد إشاعة لم تثبت أبدًا وهي أن مجموعة من الرجال الآسيوين اغتصبوا فتاة جمايكية. أما العراك بينهم فقد استمر طوال عطلة نهاية الأسبوع.

لماذا تعاركت الجماعتان اللتان كافحتا جنبًا إلى جنب عام ١٩٨٥ ضد بعضهما البعض في ٢٠٠٥؟ الإجابة تعتمد بشكل كبير على السياسات التعددية لبرمنجهام. بناءًا على استقراء أحد أكاديمي سياسات برمنجهام، فإن "نموذج الارتباط عن طريق الجماعات الإثنية يميل إلى إحداث منافسة بين جماعتي السود والأقليات الأثنية الأخرى على الموارد. فبدلاً من جعل الاحتياجات والعمل العابر للجماعة أولوية، فقد أصبحت العادة أن تسعى مختلف الجماعات إلى زيادة حصة مصالحها."

بعبارة أخرى، فإن سياسات المجلس البلدي لم تعزز الشعور بالهويات الخاصة فحسب، بل قادتهم إلى الخوف والاستياء من الجماعات الأخرى كونهم منافسين على القوة والنفوذ. فمن هنا يجب أن نعزز الهوية الفردية كهوية متميزة عن الهويات الجمعية، فكون الفرد بنغلاديشي في برمنجهام يعني أيضًا أنه ليس بإيرلندي، ولا سيخي، ولا أفريقي كاريبي. والعواقب تمثل في تولّد ما وصفه الاقتصادي أمارتيا سن[16] بـ"الأحادية الجمعية"[17] وهي سياسية تُقاد بأسطورة أن المجتمع يتكون من ثقافاتٍ متمايزة ومنتظمة تتراقص حول بعضها البعض. رسّخت النتائج في برمنجهام الانقسامات بين المجتمعين الأسود والآسيوي لدرجة أن هذه الانقسامات برزت على شكل عنف شعبي.


منعزل وغير متساوٍ

رغم أن طريقة ألمانيا للتعددية مختلفة عن المملكة المتحدة، إلا أن النقاط المبدئية هي نفسها. واجهت ألمانيا -مثل دول أخرى في أوروبا الغربية- عجزًا كبيرًا في اليد العاملة أعقاب الحرب العالمية الثانية، واستعارت العمّال الأجانب بشكل فعّال. وعكس المملكة المتحدة، فإن هؤلاء العمّال لم يأتوا من مستعمرات سابقة، بل من دول حول البحر الأبيض المتوسط: من اليونان أولاً، وإيطاليا، وأسبانيا، ثم من تركيا. ولم يأتوا كمهاجرين -رغم أنهم مازلوا أقل من أن يعتبروا مواطنين محتملين- بل كضيوف عاملين[18] يُتوقع عودتهم إلى وطنهم الأصلي بعد أن يكتفي الاقتصاد الألماني من خدمتهم. لكن مع مضي الوقت، تحول هؤلاء الضيوف، والتي يشكل الأتراك غالبيتهم، من ضرورة مؤقته إلى واقع دائم. هذا يعود في جزئيًا إلى اعتماد ألمانيا المستمر على العمال الأجانب، وجزئيًا إلى أن المهاجرين، وأبنائهم بدرجةً أعلى، أصبحوا يرون في ألمانيا وطنًا لهم. ولكن الدولة الألمانية استمرت في معاملتهم كغرباء ورفضت منحهم المواطنة.

كانت المواطنة الألمانية حتى وقت ليس ببعيد مبنية على مبدأ (حق الدم)[19] بحيث لا تتحصل المواطنة إلا في حال كان أحد الأبوين مواطنًا. هذا المبدأ لم يقصي الجيل الأول من المهاجرين من المواطنة فحسب، بل أيضًا أبنائهم المولودين في ألمانيا. في عام ١٩٩٩، قانون الجنسية الجديد جعل تحصيل المواطنة أسهل على المهاجرين. ٨٠٠,٠٠٠ فقط تمكنوا من الحصول على المواطنة في ألمانيا من أصل ثلاثة ملايين شخص من أصول تركية.

بدلاً من الترحيب بالمهاجرين على مبدأ المساواة، تعامل السياسيون الألمان مع ما يسمى بـ"المشلكة التركية" من خلال سياسة التعددية. منذ ثمانينات القرن الماضي، شجعت الحكومة المهاجرين الأتراك على الاحتفاظ بثقافتهم ولغتهم ونمط حياتهم. هذه السياسة لم تمثل احترام للتنوع بقدر ما هي وسيلة جيدة لتجنب مسألة كيف نصنع ثقافة مشتركة وشاملة. وعاقبتها الرئيسية كانت ظهور مجتمعات موازية.

الجيل الأول من المهاجرين كان علماني بشكل عام، والمتدينون نادرًا ما يكونون متعصبين في معتقداتهم وممارساتهم. أما اليوم فنجد أن ثلث البالغين من الأتراك في ألمانيا يحضرون للصلاة في المسجد بانتظام وبمعدل أعلى من المجتمعات التركية الأخرى في أوروبا الغربية، بل وأكثر من كثير من بعض المناطق في تركيا. وعلى نحو مماثل، فإن الجيل الأول من النساء التركيات تقريبًا لم يسبق لهن أن ارتدين الحجاب؛ والآن كثير من بناتهن يلبسن الحجاب. كثير من الأتراك لايكلف نفسه عناء تعلم اللغة الألمانية لأنه بلا أي دافع يدفع إلى المشاركة في المجتمع الوطني.

في ذات الوقت الذي تشجع فيه سياسات التعددية في ألمانيا الأتراك على التقرب من المجتمع الألماني بلا حذر، أدى ذلك بالألمانيين إلى النظر للثقافة التركية بمزيدٍ من العداء. فقد أصبحت هنالك أفكار منتشرة تحدد معنى أن تكون ألمانيًا، ويعود هذا جزئيًا إلى معارضة القيم والمعتقدات لجماعة المهاجرين المقصاة. أجرت مؤسسة آيفوب[20] الفرنسية استطلاعًا عام ٢٠١١ أظهر أن ٤٠٪ من الألمان يعتبرون حضور مجتمعات مسلمة "تهديدًا" لهويتهم القومية. وأشار استطلاع آخر أجرته جامعة بيلفيلد[21] في عام ٢٠٠٥، أن ثلاثة من كل أربعة ألمان يعتقدون أن الثقافة الإسلامية غير ملائمة للعالم الغربي. وبدأ صعود الجماعات المناهضة للمسلمين، مثل أوروبيين وطنيين ضد أسلمة الغرب[22]، وكانت المظاهرات المناهضة للهجرة التي عُقدت في مدن حول البلد في ينايرالماضي هي الأكبر في الذاكرة الحديثة. كثير من السياسيين الألمان، بمن فيهم أنجيلا ميركل، أخذوا موقفًا حازمًا ضد هذه الحركات. لكن الضرر كان قد وقع سلفًا.

سياسات الباطن

الحكومة في كلٍ من المملكة المتحدة وألمانيا فشلت في استيعاب التعقيدات والتضاد في الهوية. الهويات الشخصية مستمدة من العلاقات -ليست مجرد الارتباطات الشخصية، بل الارتباطات الاجتماعية كذلك- وهي في تغير مستمر.

خذ الهوية الإسلامية كمثال، فكثيرًا ما يتداول الحديث هذه الأيام عن ما يسمى بالمجتمع الإسلامي، عن آراءه، وحاجته، وطموحاته. لكن هذا التصور جديد بالكلية. حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي، قليل من المهاجرين المسلمين رأوا في أنفسهم منتمين إلى كيان يسمى الإسلام. هذا ليس لأنهم كانوا قليلي العدد. ففي فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، كمثال، كان هنالك في الثمانينات مجتمعات كبيرة ومعترف بها قانونيًا من المهاجرين من جنوب آسيا، وشمال أفريقيا، وتركيا.

الجيل الأول من المهاجرين من شمال أفريقيا كان علمانيًا بشكل عام، كذلك كان الجيل الأول من المهاجرين الأتراك في ألمانيا. في المقابل، كانت الموجة الأولى من المهاجرين الجنوب آسيويين في المملكة المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية أكثر تدينًا. رغم ذلك لم يعرِّفوا أنفسهم كمسلمين في المقام الأول، بل كبنجابيين أو بنغلاديشيين أو سيلهيتيين. ورغم كونهم اتقياء، إلا أنهم لم يأخذوا معتقدهم بشكل جدّي. فالكثير من الرجال كانوا يشربون الكحول. وقليل من النساء يرتدين الحجاب، بصرف النظرعن البرقع أو النقاب. والأكثرية تحضر المسجد في المناسبات. لم يكن الإسلام في منظورهم فلسفة شاملة لكل مناحي الحياة. فمعتقدهم يحدد علاقتهم بالرب، ولم يكن هوية مقدّسة في الحياة العامة.

كان الجيل الثاني من البريطانيين من خلفيات إسلامية أقل احتمالاً حتى من أن يعرِّف نفسه عن طريق ديانته. والشيء نفسه لمن كان ولداه هندوسيين أو سيخيين. كانت المؤسسات الدينية بالكاد تُرى داخل مجتمعات الأقلية. وكانت المؤسسات التي تجمع المهاجرين معًا علمانية بشكل رئيسي وذات طابع سياسي في الغالب؛ ففي المملكة المتحدة، كمثال، جماعات كهذه شملت حركات الشباب الآسيوي، والتي حاربت العنصرية، واتحاد العمال الهنود[23]، والذي ركز على حقوق العمال.

أصبح السؤال المتعلق بالاختلافات الثقافية مهمًا في أواخر الثمانينات الميلادية فقط، تحول بأعجوبة ذاك الجيل المندمج المتغرّب أكثر بكثير من سابقه إلى متمسك بتميّزه المزعوم. أسباب هذا التحول معقدة. فهي مبنيّة جزئيًا على شبكة معقدة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في نصف القرن المنصرم، مثل انهيار اليسار وصعود الهوية السياسية. وهي أيضًا مبنيةً جزئيًا على التطورات الدولية، مثل الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ وحرب البوسنة في بدايات التسعينات، فكلا العاملين لعبا دورًا مهمًا في تزايد الاحساس المستعر ضد الهوية الإسلامية في أوروبا. وأخيرًا هي مبنية جزئيًا على سياسات التعددية الأوروبية.

هويات الجماعة ليست تصنيفات طبيعية؛ فهي تنبثق من التفاعل الاجتماعي. هكذا حظيت التصنيفات الثقافية بإقرار رسمي، وجائت التفرقة على الهوية، والتي تبدو راسخة، لفئات محددة. ففي حال تمرير الموارد المالية والقوة السياسية خلال المؤسسات القائمة على الأساس الأثني، فإن الحكومات تقدم دعمًا أصيلاً لهويات أثنية معينة، وتتجاهل البقية.

تسعى سياسات التعددية إلى بناء جسرٍ بين الدولة ومجتمعات الأقلية من خلال النظر إلى المؤسسات والقادة في المجتمع ليتصرفوا كوسطاء. السياسيون عادةً ما يحسبون أن ولاء الأقليات الحقيقي هو لمعتقداتهم أو لجماعتهم الأثنية، فلا تجد معاملة للمسلمين والأقليات الأخرى على كونهم مواطنين. وهذا ما أدى بالحكومات إلى تمرير مسؤلياتهم السياسية إلى قادة الأقليات.

وعلى صعيد آخر، فإن هؤلاء القادة نادرًا ما يمثّلون مجتمعاتهم. ولا يجدر بهذا أن يكون مفاجئة، فلا وجود لقائد أو قادة قادرون على تمثيل مجتمع أبيض واحد مثلاً. فبعض الأوروبيين البيض محافظون، وكثير منهم ليبراليون، وبعضهم لايزال شيوعيًا أوفاشيًا جديدًا. وأكثر البيض لا يرون مصالحهم ممثلة بمصالح "البيض" على وجه الخصوص. فلعل للنصراني الأبيض مصالح مشتركة أكثر مع النصراني الأسود من الأبيض الملحد؛ ولعل للأبيض الاشتراكي منطق مثل الاشتراكي البنغلاديشي لا الأبيض المحافظ؛ وهكذا دواليك. المسلمون والسيخ والأفريقيون الكاريبيون ليسوا بمعزل عن هذه القاعدة؛ وهنا بالتحديد يكمن الخطأ الجوهري للتعددية الثقافية.

اندمج الآن!

سياسات فرنسا الاستيعابية تعد بشكل عام القطب المضاد للتعددية الثقافية، والتي يفخر السياسيون الفرنسيون برفضها. على عكس باقي دول أوروبا، فإن فرنسا تصرّ على أنها تعامل كل فرد على أساس المواطنة لا كونه عضوًا في جماعة عرقية، أو إثنية، أو ثقافية. لكن فرنسا في الواقع منقسمة اجتماعيًا كألمانيا أو المملكة المتحدة، وبطريقة مماثلة لافتة للنظر.

أصبحت الأسئلة التي تحيط بالسياسات الاجتماعية الفرنسية، وبانقسامات البلد الاجتماعية، تحت المجهر بباريس في يناير الماضي عندما أطلق مسلحون مسلمون النار، ما أسفر عن قتل ١٢ شخصًا في مكاتب مجلة تشارلي إيبدو وأربعة يهود في سوبرماركت للمنتجات اليهودية. لقد حمّل السياسيون الفرنسيون سياسات التعددية مسؤولية تهئية البيئة المناسبة لتغذية الجهاديين المحليين في المملكة المتحدة. والآن عليهم الإجابة على: لماذا نشأ هؤلاء الإرهابيون أيضًا في فرنسا التي استوعبتهم؟

يُزعم في الغالب أن هنالك قرابة ٥ ملايين مسلم في فرنسا، على اعتبار أنهم أكبر جماعة مسلمة في أوروبا الغربية. هؤلاء الفرنسيون ذو الأصول الشمال أفريقية، والذين وُضِعوا في سلّة واحدة، في الواقع، لم يشكّلوا مجتمعًا واحدًا قط، والذي مازال ليس بذلك المجتمع المتدين. فقد كان المهاجرون من شمال أفريقيا علمانيين بشكل عام، بل في الواقع أنهم غالبًا معادين للدين. في تقرير نشره مركز بيو للبحوث[24] أظهر أن ٤٢٪ من مسلمي فرنسا يّعرفون أنفسهم كمواطنين فرنسيين في المقام الأول، هذا المعدل أكثر من ألمانيا، وأسبانيا، أو المملكة المتحدة. وأصبح عدد الذين انجذبوا للإسلام في تصاعد في السنوات الأخيرة. لكن حتى هذا اليوم، بناءًا على دراسة أجراها مركز آيفوب عام ٢٠١١، فإن هنالك ٤٠٪ عرّفوا أنفسهم كمسلمين مقيمين للشعائر الإسلامية، و ٢٥٪ فقط يحضرون لصلاة الجمعة.

يُوصف غالبًا الفرنسيون من أصولٍ شمال أفريقية بالمهاجرين. وفي الواقع أن أكثريتهم من الجيل الثاني من المواطنيين الفرنسيين الذين ولدوا في فرنسا، وهم فرنسيون كأي مصوّتٍ للجبهة الوطنية. لكن استخدام مصطلحات "المسلم" و "المهاجر" كوصمات للمواطنين الفرنسيين من أصولٍ شمال أفريقية ليس مصادفة. بل هو جزء من عملية تحشد فيها الدولة أمثال هؤلاءالمواطنين بطريقة تُشعرهم بأنهم ليسوا جزءًا حقيقًا من الأمة الفرنسية.

في فرنسا -ومثله في المملكة المتحدة- واجه الجيل الأول من المهاجرين بعد الحرب العالمية الثانية مقدارًا لا بأس به من العنصرية، ثم أتى الجيل الثاني بمقدار قبول أقل بكثير للتمييز الاجتماعي، والبطالة، ووحشية الشرطة. فلقد نظموا مظاهرات، اتسمت غالبًا بالعنف، من خلال مؤسسات علمانية. الاضطراب الذي مرّ على المدن الفرنسية في خريف ٢٠٠٥ أظهر التشظي في المجتمع الفرنسي بوضوح، تمامًا كما كانت المدن البريطانية في وقت مضى.

خلال السبعينات وبداية الثمانينات الميلادية، أخذت السلطات الفرنسية موقفًا متراخيًا من التعددية الثقافية، والتي تتسامح بشكل عام الاختلافات الثقافية والدينية في وقتٍ كان هنالك القليل ممن يعبرون عن هوياتهم بمصطلحات ثقافية أو دينية في مجتمعات الأقلية. الرئيس الفرنسي فرانكوس ماتيراند[25] سكّ شعار حق الاختلاف[26]. لكن مع وضوح التوتر في المجتمعات الشمال أفريقية أكثر، ومع صعود الجبهة الوطنية كقوة سياسية، هجرت باريس هذا الشعار إلى موقف أشد تصلّبًا. كانت الاضطرابات في عام ٢٠٠٥، وعدم الرضا الذي عبروا عنه، مُقدمًا كرد على العنصرية بدرجة أقل من كونه صعودًا للتهديد الإسلامي في فرنسا. رفضت السلطات الفرنسية مبدأ مقاربة المملكة المتحدة للتعددية. لكن في الممارسة، فقد عاملوا المهاجرين الشمال أفريقيين ونسلهم بذات طريقة "التعددية" كجماعة واحدة، مسلمة بشكل رئيسي. القلق حول الإسلام أصبح يعكس قلق أكبر حول كارثة القيم والهوية في فرنسا حاليًا.

وجد استطلاع أجراه مركز البحوث السياسية[27] وآبسوس الفرنسية[28] عام ٢٠١٣ في مركز الدراسات السياسية في باريس[29] أن ٥٠٪ من الشعب الفرنسي يعتقد أن "الهبوط" الاقتصادي والثقافي لبلدهم كان محتومًا. وأقل من الثلث ظنوا أن الديموقراطية الفرنسية تعمل بشكل جيد، و٦٢٪ اعتبروا "أكثر" السياسيين "فاسدين." في تقرير للبولسترز[30]، وُصِفت فرنسا بالمتشظية التي انقسمت بحدود عشائرية معزولة عن التيار السياسي السائد، وفاقدة الثقة للقادة الوطنيين، وحاقدة على المسلمين. خلص البحث إلى أن الشعور الذي يقود المجتمع الفرنسي هو "الخوف."

كانت سياسات التعددية في المملكة المتحدة وعيًا فوريًا على مجتمع متشظي وذو مصدر واحد. والسياسات الاستيعابية في فرنسا انتهت بشكل متناقض إلى ذات النتيجة. حاول السياسيون في مواجهتهم لعدم الثقة والانعزال الشعبي إلى التأكيد على هوية فرنسية جامعة. لكنهم غير قادرين على تحديد الأفكار والقيم التي تشكّل البلد، فهاهم يفعلون ذلك بشكل رئيسي عن طريق وضع العداوات باتجاه الرموز الغريبة عليهم، كمنع البرقع في عام ٢٠١٠ على سبيل المثال. بدلاً من قبول الشمال أفريقيين كمواطنين بأتم معنى للمواطنة، فإن السياسات الفرنسية تميل إلى تجاهل العنصرية والتمييز الذي يواجهونه. الكثير في فرنسا يعتبر المواطنين ذي الأصول الشمال أفريقية عربًا أو مسلمين لا فرنسيين. رغم أن الجيل الثاني منهم غالبًا في حالة اغتراب عن ثقافة أبويهم أو عاداتهم -ومن التيار السائد للإسلام- كما لو أنهم من مجتمع فرنسي فضفاض. هم ليسوا عالقين بين ثقافتين كما يزعم البعض غالبًا، بل هم بلا ثقافة. والعاقبة لبعضهم كانت التحول إلى الإسلاموية، وقليل منهم عبّروا عن غضبهم اللحظي عن طريق العنف الجهادي.

السياسات الاستيعابية الفرنسية، في ذات الوقت، فاقمت من شعور العزلة بمجتمعات الطبقة العاملة التقليدية. استخدم الجغرافي الاجتماعي كريستوفر قويلوي[31] مصطلح "فرنسا المهمّشة"[32] ليصف هؤلاء "المدفوعين للخارج عن طريق التحسين وتصفية الصناعات في المناطق الحضرية" والذين "يعيشون بعيدًا عن المراكز الاقتصادية ومراكز صانعة القرار، وفي حالة من عدم الاندماج الاجتماعي،" فهم بالتالي "يشعرون بالتهميش." ظهور فرنسا المهمشة أساسًا كان نتيجة للتطورات الاقتصادية والسياسية. لكن ككثير من المجتمعات الشمال أفريقية في البلاد، فقد أصبحوا يرون تهميشهم من خلال عدسة الهوية الثقافية والإثنية. بناءًا على استطلاع آيبسوس ومركز البحوث السياسية، فإن ٧ من كل ١٠ أشخاص يعتقدون أن هنالك "الكثير من الأجانب في فرنسا،" و٧٤٪ يعتبرون الإسلام غير متوافق مع المجتمع الفرنسي. إن تقديم الإسلام كتهديد للقيم الفرنسية لم يقوي الدور السياسي للثقافة فحسب، بل شحذ خيبة الأمل الشعبية مع السياسة السائدة.

في الماضي، كان عدم الرضا -سواءًا من الشمال أفريقيين أو من العمال البيض سيؤدي إلى تدخل حكومي مباشر. لكن اليوم كلا المجموعتين أصبحتا تعبرّان عن مظالمهما من خلال الهوية السياسية. العنصريون الشعبويون والإسلاميون الرادكاليون يعبرون بطريقتهم الخاصة لنوع مشابه من الانفصال الاجتماعي في عصر الهويات السياسية.

طريق آخر

إن التعددية الثقافية والاستيعابية سياستان مختلفتان تستجيبان لذات المشكلة: تشظي المجتمع. وكلاهما حتى الآن جعلا الأمور أكثرسوءًا. إن الوقت قد حان للمضي إلى ما وراء الجدال العقيم بين هاتين المقاربتين. وهذا يتطلب استيعاب ثلاثة أنواع من الفروقات.

أولاً، يجب على أوروبا الفصل بين التنوع الثقافي كتجربة معاشة من التعددية كعملية سياسية. يجب أن نرحب بتجربة العيش في مجتمع متنوع بسبب الهجرات الجماعية. لكن يجب مقاومة أي محاولة لمأسسة هذا التنوع عن طريق الاعتراف بالاختلافات الثقافية.

ثانيًا، يجب على أوروبا التفريق بين عمى الألوان والعمى تجاه العنصرية. الاستيعابيون لجؤوا إلى معاملة الجميع كمواطنين أكفاء، وهذا أمر قيّم، بدلاً من معاملتهم كحاملي تواريخ ثقافية أو عرقية. لكن هذا يجب ألا يعني تغاضي الحكومة عن التمييز العنصري ضد جماعات معينة. المواطنة تصبح بلا معنى في حال عُوملت طبقات مختلفة من المواطنين بطرق متمايزة، سواءًا بسبب السياسات التعددية أو العنصرية.

أخيرًا، يجب على أوروبا التفريق بين الشعوب والقيم. متبنّي التعددية يجادلون أن التنوع المجتمعي يدمر احتمالية القيم المشركتة. وبشكل مشابه، يقترح الاستيعابيون أن هذه القيم ممكنة فقط في مجتمع متجانس ثقافيًا، وإلى حد ما إثنيًا. كلا الفريقين يعتقدان أن مجتمعات الأقلية عبارة عن مجموعات متجانسة، ومنجذبة لتشكيل معين من الصفات، والمعتقدات، والعقائد، والقيم الثقافية، بدلاً من كونهم جزء من الناخبين في الديموقراطية الحديثة.

يجب ألا يكون الجدال الحقيقي بين التعددية والاستيعابية، بل بين ميزتين من الأول، وميزتين من الأخير. فالسياسية المثالية ستتزاوج باحتضان التعددية للتنوع الواقع -بدلاً من ميولها إلى مأسسة الاختلافات- وقرار الاستيعابية بمعاملة الجميع كمواطنين، بدلاً من ميولها إلى هيكلة الهوية الوطنية من خلال وصم جماعات محددة بالطارئة على الأمة. في الممارسة، الدول الأوروبية فعلت العكس. لقد قاموا بأحدى اثنتين: سياسات تعددية تضع المجتمعات في قوالب صغيرة أو سياسيات استيعابية تُبعد الأقليات من التيارالسائد.

يجب على أوروبا أن تعيد استكشاف الحس التقدمي للقيم العليا، الشيء الذي هجره ليبراليو القارة بشكل كبير، ولو كان بطريقة مختلفة. فمن جهة، هنالك قسم من اليسار مازال يجمع بين النسبية والتعددية، ويجادل أصحابه أن أساس فكرة القيم العليا هي -بأحد المعاني- عنصرية. في الجهة الأخرى، هؤلاء المُمثّلون بالاستيعابيين الفرنسيين كالفيلسوف بيرنارد هنري لاڤي[33]، والذي يصرّ على نقل قيم التنوير التقليدي، لكن بصرعة عشائرية تفترض صراع الحضارات.

كان الاتجاه السائد على طول أوروبا هو وجوب إدارة الهجرة والاندماج من خلال