د. علي بانافع
أتقدم بالشكر والتقدير والثناء لمنتدى المؤرخين العرب على استضافة قامة وهامة وطنية علمية كبيرة، والذي أمتعنا وأنعشنا -الليلة- بمحاضرة علمية حضارية شيقة؛ ومن العيار الثقيل بعنوان: "العلم والحضارة عند ابن خلدون"، ألقاها الأستاذ الدكتور عدنان محمد الحارثي الشريف، وقدمت له الدكتوره سماح سعيد باحويرث بمقدمة ضافية وأدارت المحاضرة باقتدار، وقد بدأنا أستاذنا الدكتور عدنان بقوله: "لا حاجة بنا إلى تعريف ابن خلدون فهو أشهر من أن يُعرّف، إنه يُعدّ من أعظم العلماء والمفكرين في العالم، وقد جاءت شهرته من كونه أول من درس المجتمع البشري بطريقة واقعية، فيكون بذلك قد سبق أُوغست كونت ودور كهايم في تأسيس عِلم العمران البشري أو علم الاجتماع"، واستطاع أستاذنا الدكتور عدنان الحارثي أن يُبين لنا أهمية الطفرة الخلدونية التي قام بها ابن خلدون في تاريخ العلم والحضارة عامة، وهو أنه -أي ابن خلدون- قام بأول محاولة جدية للنزول بالفلسفة من عليائها والدخول بها في معترك الحياة الواقعية اليومية، حيث خرج بها عن الطريقة الوعظية التي كانت مُسيطرة على الأذهان طيلة القرون الوسطى، وكان قصده -أي ابن خلدون- أن يبحث في طبيعة الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية لكي يكتشف القوانين التي تُسيطر عليها سواء كانت تلك القوانين ذميمة أو حميدة، وقد أكد الدكتور عدنان على أنه شاعت دراسات لا قيمة لها تدعو إلى تسفيه حجم جهود ابن خلدون؛ وإسهامه في صياغة فلسفة جديدة للعلم والحضارة بوجه عام والإسلامي بوجه خاص، إلى جانب جهوده في وضع أُسس فلسفة علم التاريخ وعلم الاجتماع، وهذه الدراسات الخاضعة للمناهج الغربية -إما تحت ضغوط أو تقليد أعمى- وهي في الحقيقة لا تعدو كونها إسقاطات مادية وعلمانية وقومية لا دينية، لأن أصحابها لا يتصورون أن الإبداع يمكن أن يقع من داخل الخندق العربي والثوابت الإسلامية.
ثم جاءت مداخلة أستاذنا الدكتور عبد الله سعيد الغامدي عن ميكياڤيلي الإيطالي -والذي عاش بعد ابن خلدون بقرن واحد تقريباً- وطرح فرضية هل اطلع ميكياڤيلي على مقدمة ابن خلدون واقتبس منها آرائه؟! أم أنه توصل إليها نتيجة دراساته الخاصة وخبرته الشخصية؟! وأجاب عليها بقوله: "مهما يكن الحال فهناك فرقاً كبيراً بين الرجلين، ولكي ندرك هذا الفرق يجب علينا أن نعرف أن ميكياڤيلي أراد -في الغالب- أن يُقدم نصائح عملية للأمير بغية الانتفاع بها في سياسة رعاياه، وكتابه "الأمير" الذي انتهجه الطغاة دستوراً لهم، إنه لم يقصد أن يُؤسس علماً له أُصوله وقواعده كما فعل سلفه العربي ابن خلدون، أما ابن خلدون فقد أسس تحليلاً وتحقيقاً للعلم والحضارة على وجه العموم وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع على وجه الخصوص، وبذلك يصح أن نقول أن ابن خلدون كان مفكراً وعالماً وفيلسوفاً في آن واحد، أما ميكيافيلي فأقصى ما يمكن أن يُوصف به أنه كان خبيراً اجتماعياً إن جاز التعبير".
وما ألقاه أستاذنا الدكتور عدنان الحارثي فيه رد قوي على هذه الدعوات والدراسات والإسقاطات، وقد أكد -الدكتور عدنان- في آخر محاضرته: "أنه من العسير على كثير من الناس فهم كلام ابن خلدون؛ لأنه كان من أفصح العلماء وأعقلهم وأوسعهم علماً، فقد يتوهم كثير من الناس أن الرجل متحامل على العرب، وهو ليس كذلك بل هو عربي أصيل من ذرية وائل بن حجر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم".