Image title

بقلم: علي طه النوباني

تقع الرواية في مائة وعشرين صفحة من القطع المتوسط. وتدور أحداثها حول رجل يدعى يوسف الذهبي يسكن في مدينة متاخمة للصحراء تسمى وادي الذهب، ويعمل ضابطا في القوات المسلحة. يرى في منامه فتاة جميلة تدعى ماريانا فيعشقها، ويأخذ في البحث عنها في الحقيقة الموضوعية المحيطة به. يرسم لها صورة على ورقة ويعرضها على الشرطة والأحوال المدنية وحتى على عرافة المدينة؛ فيتهمه مديره بالجنون، ويطلب منه أن يستقيل فيفعل، ويأخذ بالبحث عن ماريانا في رحلة شاقة مليئة بالكوابيس والغرائب عبر مدن عديدة (مدينة وادي الرمال، مدينة البحر، المدينة الكبيرة)، وفي كل مدينة يقيم في فندق فيعرف من عامل الفندق ( عبد العال، عبد الحميد، جاسم) أنَّ ماريانا كانت قد أقامت في الفندق نفسه قبل مجيئه؛ فعشقها الشباب وضحّوا بحياتهم من أجلها ثمّ اختفت. وكان أهالي تلك المدن بعد موت شبابهم يقيمون صلاة يدعون فيها من أجل ضحاياهم، ويدعون بالموت والدمار لماريانا.. ولكنَّ الموت والدمار يحلُّ بهم، فـتغرق السيول مدينة وادي الرمال، ويبتلع البحر مدينة البحر، وتحترق المدينة الكبيرة.

 وبعد ذلك، يقيم يوسف زمنا طويلا في جبل العرافين طالبا منهم أن يرشدوه إلى ماريانا؛ فيطلب منه العرافون أن ينتظر إلى أن يَـمُـرَّ مُهر قُـرب الجبل فيتبعه، ويحدث ذلك بالفعل، يتبع المهر إلى أن يصل إلى المدينة المتوسطة، فيقيم في أحد فنادقها، ويحصل على عمل فيه، ويكتشف بعد ذلك أن ماريانا متزوجة من شخص يُدعى (توفيق الأثير) منذ أكثر من عشر سنوات، ولكنه زواج عُـذري، حيث كانت قد اشترطت عليه هذا الشرط إلى أن يخلصها من أعدائها الذين يحفرون تحت أقدامها.. وعندما تَعْلمُ ماريانا بظهور يوسف الذهبي في المدينة تختفي، ويأخذ كل من يوسف وتوفيق الأثير في البحث عنها، ويكون المشهد الأخير من الرواية عندما يجتمع عدد كبير من الناس عند جبل الزيتون هاتفين باسم ماريانا المقيمة على هذا الجبل، ويتعلق الأطفال حولها على أغصان الزيتون، ثم تأتي زوبعة وينعقد الغبار في الفضاء، وتنتهي الرواية بتعبير يوسف الذهبي عن شعوره بالحزن العميق من أجل ماريانا ومن أجل الأطفال الذين يذبلون.

تُـقـدَّمُ لنا الروايةُ كامِلَة من خلال الراوي المشارك يوسف الذهبي؛ مُصَوِّرًا لنا كوابيسه وأحلامه والأحداث الغريبة التي رافقت رحلته، حيث كانت ماريانا في كل مدينة تُـبقي له رسالة ما كي يتبعها إلى مدينة أخرى، كما أنّها تَمثـلت له غزالة وأرشدته إلى طريق المدينة الكبيرة، وتمثلت له مُهرًا أرشده إلى طريق المدينة المتوسطة.

يتشكل الفضاء الروائي من خمس مدن هي: مدينة وادي الذهب، مدينة وادي الرمال، مدينة البحر، المدينة الكبيرة، والمدينة المتوسطة، بالإضافة إلى جبلين هما: جبل العرافين، وجبل الزيتون. ولعدم وجود مدن حقيقية بهذه الأسماء، ولما يكتنف أحداث الرواية من غرائبية وكابوسيَّة؛ فإن القارئ للوهلة الأولى يعتقد أنه أمام رواية خيالية ولا يلبث أن يكشف عن الكثير من الإحالات التي تربط عالم هذه الرواية بالواقع.

عندما يذهب يوسف الذهبي إلى عرافة مدينة وادي الذهب، يدفع لها نقودا ( عشرة قروش فضية، وعشرة دنانير زرقاء، ثم يدفع عشرين دينارا)[1] ، وعندما يسكن في مقهى مدينة وادي الرمال يذكر أن عامل الفندق اسمه (عبد العال) وهو من أبناء واحده من الدول الشقيقة [2]، وعندما يقيم في فندق مدينة البحر، يتحدث عامل الفندق (عبد الحميد) باللهجة المصرية " الله أيه ده أنا بشر" [3] ، ويذكر عبد الحميد أنه كان سيعبر إلى بلاد النفط ولكنه أحب الإقامة في مدينة البحر ولم يتركها.[4]

وعندما يذهب إلى المدينة الكبيرة؛ يدخلها من جانبها الغربي المليء بالعمارات الجميلة؛ فيحدث نفسه:" لا بد أنَّ هذه الأبواب مغلقة على حِسان وحور"[5]، ولكنَّ عِشقه لماريانا يَردَعُه عن النظر من خلال الشبابيك، ثم يشاهد النساء لابسات الجينز ينطلقن مَشيًا أو بالسيارات الفارهة، كما يرى رجالا أكثر نعومة من النساء؛ وقد قصّوا شُعورهم على هيئة حِلاقة المارينز .[6]

ثم يلتقي بعامل الفندق في المدينة الكبيرة، ويتوقع بأنه مصري لكنَّه يتفاجأ بأنَّ اسمه جاسم حسن[7] ، والمعروف لدينا أنَّ هذا الاسم يَشيع في العراق، فيستغرب أن يعمل جاسم عامل فندق ويتساءل " وصل إليك الدور يا جاسم".. فيجيب جاسم " ومن منا لم يصل إليه الدور".[8]

وتحت عنوان مدينة البحر، يقول يوسف الذهبي: " ليس في بلادي غير مدينة واحدة للبحر.. وليس فيها إلا هذا البحر الذي يبدو على خارطته بقعة صغيرة...".[9]

والواضح أنَّ وُصولَ الدور إلى جاسم إنما هو إشارة إلى نتائج حرب الخليج، وبروز القِطع النقدية بالتفصيل والألوان، وتحديد وجود مدينة واحدة للبحر، والإشارة إلى عبور المصريين للخليج للعمل، وغير ذلك، إنما هو ترميز إلى فضاء واقعي موازٍ يشمل الأردن والعراق ومصر.

ويمتد الفضاء الروائي ليشمل معشوقة يوسف الذهبي، ومعشوقة الناس جميعًا: ماريانا، فبالإضافة إلى أنّها حلم يتجسد في كل مكان كما تقول عرافة مدينة وادي الذهب؛[10]  فإن يوسف الذهبي عندما يصحو من واحد من أحلامه الكثيرة الواردة في الرواية؛ يجد أنَّ يده كانت موضوعة فوق بقعة مُعشبة من الأرض.[11]

وها هو يوسف الذهبي يذكر لتوفيق أنَّ أسماء حبيبته كُـثر[12]، كما يذكر توفيق سبب اشتراط ماريانا لأن يكون زواجها منه عذريا:" أجابت بأنَّ هذا الامرَ مَرهونٌ بي؛ فمتى صرت قادرا على حمايتها من أعدائها المتربصين بها، الذين يحفرون تحت أقدامها للإيقاع بها، وعند ذلك سنتم الزواج"[13]، ثمّ يُـؤكد يوسف أنّ ماريانا ليست لأي منهم؛ إنها لملايين الناس، ويذكر التضحيات الكثيرة التي تمَّ تقديمها من أجلها [14].

وعندما يُقبلُ يوسف على المدينة المتوسطة من بعيد، يَلمح قِبابًا باهتة ودخانًا يتصاعد في السماء، فيقولون له إنَّ المدينة المتوسطة سميت بهذا الاسم لأفضليتها على مدن الدنيا قاطبة؛ ولأنها مركز الدنيا فجميع خطوط الطول والعرض لها في قلبها صورة عنها وهي تقع على رأس مثلث يُمثل أغلب مدن الدنيا.[15]

وحيث أنه من الواضح أنَّ المدينة المتوسطة هي القدس؛ فإن ماريانا المقيمة على جبل الزيتون هي الحرم القدسي الشريف؛ فعندما يفتش يوسف منزل توفيق باحثا عن ماريانا يصفها كما يلي: " فتشت في المنزل الذي صرت أعرفه جيدا حتى عثرت على ماريانا، كانت جالسة إلى جانب سريرها الانفرادي المجلل باللون الأخضر ( لون الأنبياء)، ورائحة المرّ الكنعاني تنبعث من حجرتها، وسورة الإسراء تزين جدرانها، وساءني أن أرى الخفافيش مُعلقة على قِبابها وجدرانها الكثيرة[16].

وهكذا يتضح لنا أنَّ ماريانا هي جزء من الفضاء الروائي؛ فهي مكان مُمثل في العمل على صورة شخصيّة أسطورية؛ بل هي مكان مركزي يُخيم على الفضاء الروائي كاملا، ويبارك الأمكنة؛ أو يُرسل اللعنات عليها، فيرفض عبد الحميد العامل المصري في فندق مدينة البحر أن يرحل إلى بلاد النفط، ويتمسك بأكنافها بل يُضحي بحياته من أجلها، وتنشغل المدن بها، فيقدم الشباب حياتهم فداء لها.

وفيما عدا استرجاع عمال الفندق ( عبد العال في وادي الرمال، وعبد الحميد في مدينة البحر، وجاسم في المدينة الكبيرة) وكذلك توفيق في المدينة المتوسطة لما حدث لهم مع ماريانا قبل قدوم يوسف الذهبي إلى هذه المدن فإن الزمن الروائي يسير بشكل خطي تقريبا بمعنى أن ترتيب الأحداث في القصة يشابه ترتيبها في الخطاب.

ينفتح الخطاب على يوسف الذهبي (الراوي المشارك) في ليلة التاسع عشر من تموز، ونعرف من النص أنه قد تجاوز الثلاثين من عمره ويرى في منامه ماريانا في تلك الليلة. وطوال أحداث الرواية يُكثر الراوي المشارك يوسف الذهبي من استعمال التعابير الزمنية المطاطة التي تدل على عدم إحساسه بمرور الوقت، ويقول بعد خروجه من مدينة وادي الرمال: " لا أدري كم استمرَّ سيري في الصحراء من زمن؛ فقد كانت الأقمار تبدو وتغيب، تصغر وتكبر، وتضمحل، وما كان يعنيني من أمرها شيء"[17]. وعندما يصل إلى المدينة الكبيرة يرجمه الأطفال بالحجارة صارخين: "مجنون.. مجنون"، فيعرف من طول لحيته، وما طرأ على وجهه من تغير أنَّ زمنًا طويلا قد مرَّ عليه.[18]

ويقول للعرافين في جبلهم: "يا سيدي لا أستطيع البقاء بينكم، منذ زمان طويل وأنا بينكم، لم تعطوني إشارة واحدة تدل قلبي على ماريانا"[19]، وتنتهي أحداث الرواية في التاسع عشر من تموز؛ وكأنما يجري تدوير أحداث الرواية حول هذا التاريخ، ولدى البحث عن حادث مهم يرتبط بهذا التاريخ لم أعثر على شيء، وأحسب أن هذا الشهر (تموز) قد احتضن أحداث الرواية ليعد بالخصب والحياة والانتصار مشيرا بذلك إلى تموز إله الخصب عند العراقيين القدماء.

ويقودنا هذا الاستخلاص المتصل بالأسطورة إلى ما ورد في الرواية من تناصات عديدة سواء مع القران الكريم أو الكتاب المقدس أو الميثولوجيا. ويأتي بعض هذه التناصات رئيسًا يخدم البناء الكلّي للرواية، وبعضها فرعيّا يَخدم معنىً جزئيًا.

يَصِفُ يوسف الذهبي صلاة أهل مدينة البحر كما يلي:" إنها أغرب صلاة رأيتها في حياتي" لم أر المصلين بطبيعة الحال ولكنا تمكنا بعد عناء طويل من رؤية بعض الناس، فقد بدأت الصلاة بمكاء وصفير وتصدية، ثم صرخ رئيس البلدية: "هاتوا تمثال الغادرة"[20]، وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى:" وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ "[21]، والآية كما هو معروف تصف سلوكا جاهليا.

وفي أحد أحلام يوسف الذهبي التي يرى فيها ماريانا؛ يُشَبِّهُ صمتها بسنين يوسف العجاف[22] مشيرًا بذلك إلى قصة تأويل الأحلام في سورة يوسف في القرآن الكريم، وهو تناص ثانوي لا يضيف إلى البناء الكلي للنص حيث أنَّ وصف صمت ماريانا يرد في مواقع عديدة من الرواية؛ وإنما يأتي هنا من باب التشبيه ليفيد معنى الصمت المطبق، وليمهد لتناص آخر يكاد يكون الأهم في الرواية حيث أن يوسف الذهبي في حلم آخر يرى ماريانا فيحدثها ولكنها لا تجيبه:" لماذا لا تتكلمين؟ أشاحت بوجهها عني .. فاستندت لأرى خيطا من الدمع السخي ينحدر من عينيها.. ثمَّ راحت ترسم بإصبعها شيئًا على مخدتي.. رَسَمَتْ كلمات قرأتُها:" إني صائمة! عمَّ تصومين يا ملاك الحب؟ تناولت قلمي، وناولتها إياه.. فكتبت: من أنت؟ إنني حزينُ هذه الدنيا.. أنا الذي طاردت طيفا كل هذه السنين، شربت الجنون ورمال الصحراء وملح البحار بحثا عنك.. ثم تكتب:" إنني لا أكاد أعرف عنك شيئا، وكل حركاتك مبهمة، إنك تسعى إلى نفسك يا حبيبي"[23].

وفي صوم ماريانا عن الكلام وكتابتها ما تريد ليوسف إشارة إلى قصة مريم العذراء الواردة في القرآن الكريم:" فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا "[24].

وتبدو هذه الإشارة مركزية في تشكيل البناء الروائي؛ فماريانا بتول عذراء ولا تكاد تعرف عن يوسف شيئا، وترى حركاته المعبرة عن الحب الغرائزي مبهمة وغامضة، فهي ليست أنثى حقيقية تستقبل الجنس، وإذا قام يوسف بالبحث عنها فهو إنما يبحث عن تحقيق ذاته بها، وهذا يذكرنا بما حدَّث به يوسف نفسه في مطلع الرواية حول عطل حياته من وجود هدف ورفضه أن يكون الزواج والأولاد والحياة الاجتماعية العادية هدفًا لحياته[25]. ولكل هذا قالت عرافة وادي الرمال أنه لابد لمن يريد رؤية ماريانا من التطهير[26]، وكل ما يطلبه عشاق ماريانا المتحلقون حولها هو التعبُّد في محرابها، ونظرتها وابتسامتها الرائعتان[27].

لقد رفضت ماريانا المخاصرة مع يوسف لأكثر من مرة في تعبير عن عذريتها:" عندما سمعت هذا السؤال، هَجَمَتْ عَليَّ وطوقتني بذراعيها، فاستسلمت ساعة للوجد.. وعانقتها.. ولما ضغطت على ظهرها بذراعي انفلتت، وجرت إلى الماء ضاحكة"[28]، وكذلك: " كأن ماريانا ذابت وجدا وحنينا.. وقد عبثت شفتاي بشفتيها دهرًا قـبَّـلتُها كأني أقبل أنبياءها الذين عطروا ترابها ببخورهم المندى.. فأحسست روائحهم.. لكنها انكمشت عندما خاصرتها"[29].

كما يرد تناص آخر مع القرآن الكريم عندما يقع العقاب بالمدينة الكبيرة، حيث يأتي صوت جاسم إلى يوسف الذهبي مُحذرًا إياه قائلا:" يوسف.. إنه العقاب لا تنظر وراءك"[30]. وهو بذلك يشير إلى قوله تعالى:" قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ "[31]، وهو بذلك يشبه أهل المدينة الكبيرة بسكان سدوم التي جاءها العقاب الرباني بسبب الكفر والفجور.

وترد في الرواية إحالة إلى نشيد الأنشاد؛ حيث يقول يوسف لماريانا في أحد أحلامه:" شفتاك أنهار من العسل واللبن"، وفي ذلك إشارة إلى ما ورد في الإصحاح الرابع من نشيد الأنشاد:" شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُ تَقْطُرَانِ شَهْدًا. تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ، وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لُبْنَانَ ".[32]

كما يحيلنا النص مرات عديدة إلى الأسطورة؛ فسكان مدينة وادي الرمال يستعملون الحمير لنقل الرمال التي تغزوا بيوتهم كل يوم إلى الصحراء ص 32، وما أشبههم في ذلك بسيزيف ففي كل يوم تحمل الريح الرمال إلى بيوتهم فيحملونها على الحمير إلى الصحراء، والنص بذلك يعيد إنتاج الأسطورة ليعبر عن الشقاء والبؤس والعبثية.

وفي أحد أحلام يوسف الذهبي يرى ماريانا ويشبهها بأفروديت إلهة الحب[33]. وفي مكان آخر يتساءل الناس أين ذهب شباب المدينة الكبيرة؛ فيقترح بعضهم أن ماريانا أخذتهم إلى الأرض العميقة حيث لا رجوع من عالم الطهارة إلى عالم الأدران والأرجاس اللعينة[34]، وفي ذلك إشارة إلى العالم السفلي الشائع ذكره في الميثولوجيا القديمة حيث يذهب إليه الأموات ويبقون فيه إلى الابد.

وفيما عدا يوسف الذهبي فإنَّ الرواية لا تعرفنا بالشخوص إلا بقدر ما تتقاطع حياتهم مع ماريانا، ويمثل يوسف الذهبي الإدراك المبكر لقيمة ماريانا وأنَّ التضحية من أجلها لا بدَّ أن تكون بالاستعداد والحساب، وليس بالعشوائية والموت المجاني: "قالوا لي: بعض العشاق ماتوا، وهذه غاية التضحية، غير أن موتهم كان بلا مقابل.. لقد دُفعوا إلى الموت إما بعواطفهم أو بفعل فاعل"[35].

كما يمثل يوسف الذهبي الإيمان المطلق بضرورة عودة ماريانا، ولكن متى: "لم تهرب ماريانا.. ماريانا لا تهرب أبدًا.. ولكن يا توفيق.. هل تظن أنك قادر على حمايتها، عندما عَرَفتْ ماريانا هذه الحقيقة اختفتْ، ربَّما أَعدتها أنت، وربما أنا، وربما لن نتمكن من ذلك أبدا، ولكنها حتما ستعود قد يعيدها شخص آخر عاشق مثلنا"[36].

وقد تمتع يوسف برؤيا بعيدة تذكرنا بزرقاء اليمامة عندما كان مقيما في مدينة وادي الذهب حيث نبَّه السُلطة إلى أهمية ماريانا: مديرُه في الجيش، ومديرُ الشرطة، والأحوالُ المدنية، ولكنهم تنكروا له، وفي نهاية الرواية أدركوا صدق رؤيته عندما التقوا به في جبل الزيتون:" من أنا؟ أنت يوسف الذهبي العاشق. ومن أنتم؟ المجانين"[37].

وبعدُ، فقد شَعَرَ يوسف الذهبي بمرارة الوحدة واليأس؛ فهو لا يرى أحدا يستعد للكفاح من أجل ماريانا؛ بل يرفض الناس أن ينطقوا باسمها؛ لأنَّهُ يذكرهم بالتضحيات والموت:" وها أنذا بينكم لا أرى الجياد المطهمة، ولا طيور الأمل عادت تحلق في سمائي.. إنني معكم وحيد .. وحيد جدا"[38].

ويوحي النص بالروح العربية لماريانا؛ فقد تمثلت ليوسف الذهبي غزالة في طريقه إلى المدينة الكبيرة، ثم مهرا في طريقه إلى المدينة المتوسطة، وكلاهما صورتان مهمتان في الموروث الشعبي العربي.

وإذا ما عرفنا أن يوسف الذهبي قد دفع للدليل السياحي خمسين دينارا في رحلته إلى مدينة وادي الرمال، ثم بعد ذلك خَبِر الصحراء وسار وحيدًا في رحلته إلى مدينة البحر، فإنَّ ماريانا بعد ذلك لم تتخل عنهُ وأرشدته إلى طريق المدينة الكبيرة، ثم المدينة المتوسطة.

لكلِّ ما سبق؛ فإن النص يُفسّرُ ما آل إليه حال ماريانا وكافة المدن في الرواية بأسباب دينية خالصة، مُشبِّها إياهم تارة بأهل سدوم، وبالجاهلية الأولى تارة أخرى، ويُعوِّلُ النصُّ على محاربة أولئك الذين يحفرون تحت أقدام ماريانا مؤكدا أنه يشاهد الأطفال المتعلقين بأغصان الزيتون وهم يذبلون.

هذه قراءة أولى للرواية، ربَّما تضيء شيئا من جوانبها، وقد اقتضت مني صراحة الرمز وكثرةُ التناص، وغرابة الشكل هذا القفز إلى المستوى الدَّلالي، وإنني لعلى ثقة بأن إعادة القراءة المرة تلو المرة ستضيء ولا شك على جوانب أخرى من هذه الرواية.


[1] رواية "رجل وحيد جدًا" لمؤلفها يحيى عبابنة، الصادرة عام 2000 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 24

[2] الرواية ص30

[3] الرواية ص 45

[4] الرواية ص 47

[5] الرواية ص64

[6] الرواية ص64

[7] الرواية ص70

[8] الرواية ص 70

[9] الرواية ص 44

[10] الرواية ص23

[11] الروايةص43

[12] الروايةص101

[13] الروايةص108

[14] الرواية ص113

[15] الرواية ص95

[16] الرواية ص 107

[17] الرواية ص 43

[18] الرواية ص65

[19] الرواية ص 90

[20] الرواية ص 57

[21] سورة الأنفال آية 35

[22] الرواية ص 52

[23] الرواية ص 81-82

[24] الآية 26 من سورة مريم

[25] الرواية ص 12

[26] الرواية ص 39

[27] الرواية ص 77

[28] الرواية ص 54

[29] الرواية ص 108

[30] الرواية ص 86

[31] الآية 81 سورة هود

[32] سفر نشيد الأنشاد 4:11

[33] الرواية ص42

[34] الرواية ص78

[35] الرواية ص 114

[36] الرواية ص 114

[37] الرواية ص 119

[38] الرواية ص61