كلمة فكلمة تنساق الجُمل ... تتراكم ... تُرسم لوحة فلوحة و تصبح رواقا لذكريات أيام و سنين ... تتجول أنت في رواق الذكريات بين الفينة و الأخرى ... تغيب عن خاطرك مواقف و تظهر أخرى دون إستئذان ... الوجع لا يكتسب اللباقة ... لم يعلم أن لقلوبنا حرمة و عليه أن لا ينتهكها ... حتى الذكريات الجميلة تؤلمنا حين نستفيق منها و نعلم أنها مجرد ذكرى عابرة ... كلنا نخفي قصة ما ، إعترافا ، فرحة أو ربما حزنا ... كلنا نحيا ساعات طوال في دهاليز أنفسنا ... نغوص في دواخلنا بحثا عن ذواتنا ... نعيش انقلابا جذريا لأعماقنا فنتحول إثر ذلك إلى كائنات أكثر قسوة ، أكثر حكمة و أكثر عقلانية ... فأضع حدا لكل تناقضاتي ... أستسلم لليأس ... أودع الحلم ... أصافح الإنهزام ... أستسلم للموت ... أناديه من غرفتي لكنه لا يجيبني ... حتى الموت تجاهلني مع أن الوقت قد حان لأغادر ... فقد صيرتني الهموم عجوزا مسنة رغم صغر سني ... فنحن لا نكبر بقدر السنين التي نعيشها ... نحن نكبر بقدر الإنكسارات التي تمر علينا ... بقدر التجارب التي نعيشها ، بقدر الحروب التي نخوضها ... بٱختصار نحن نكبر بقدر الأزمات ، بقدر الخيبات ، بقدر الألم ... فيحدث أن تجد في سيدة الأربعين سذاجة الطفولة و نقاء الملائكة لأنها لم تمر بأي أزمة جوهرية لتجعل قلبها يتلائم مع سنها لكن في المقابل ، يمكن أن تجد فتاة العشرين على مشارف الشيخوخة ... قلبها يكبرها بكثير ، لديها قلب عجوز حكيمة تستطيع فهم تعقيدات الحياة ... تملك رؤية جلية للأمور الخفية ... تقرأ بسهولة ما بين السطور ... تبقى ثابتة في وجه أعاصير الحياة ... فشكرا لكل الانكسارات و الأزمات التي ساهمت في تكويننا و جعلتنا قادرين على رؤية النور بشكل أوضح ...

لا أعلم إن كنت أكتب شعرا أو فلسفة ... لا أعلم إن كنت وجدت مخرجا جديدا عن طريق الكتابة أم أنا أبحث من خلالها عن ذاتي فما الكتابة إلا تعبير عما يختلج نفسي من مشاعر و أحاسيس بل هي محاولة لإخراج الأنا الباطنة ... أكتب لأن الكتابة تعفيني من حرج الإفصاح إلى أذن لا تصغي ... أكتب كي أتعرف على ذاتي ... كي أنصت إلى أفكاري ... كي أقاوم رداءة العالم ... تبدأ جلستي مع نفسي حين أغلق باب غرفتي ... أمامي ورقة بيضاء متعطشة لتسمع بوح الصمت ... بعثرت كلماتي فوقها و أعدت ترتيبها ... أرى الفرح و الحزن يتراقصان على أنغام أفكاري ... قرأتها واحدة تلو الأخرى و في النهاية بعثرت الأوراق هنا و هناك ... بين الهنا و الهناك واو عطف قاسية لا ترحم...

كلنا قوة ... و كلنا ضعف ... نتفائل فنتغنى بروح الحياة و روح السلام النفسي ... ننكسر ... نضطرب ... نكره أنفسنا ... ما حدود ذواتنا ؟ من نحن ؟ كلماتنا هي صورة لأنفسنا بل هي انعكاس لضعفنا و قوتنا ... يدايا ترتعشان من خوفي أن أكتب شيئا لا يعجب من سيقرأه لاحقا ... ربما هذا ما جعلني أحتفظ بكتاباتي المتراكمة لنفسي ... أمسكت قلمي و طفقت أكتب : يحدث أن تجد نفسك وحيدا في غرفتك محاطا باللاشيء حينها فقط لن تجد خيارا آخر غير إستسلامك لمصيرك و بصوت متهدج و شجاعة غير مألوفة تسأل من أنا ؟ و لا تظفر بجواب يشفي غليلك و فجأة يتناهى إلى مسمعك حمحمة خفيفة يعقبها قول : أنا أنت ... تتجمد في مكانك و لا تبدي أي حراك ... إسترسل الصوت في الحديث و تابع : أنا هو نفسك ... أنا ضميرك ... أنا ذاتك ... أنا الذي دائما ما تبلغني أخبارك و أسعى جاهدا أن أشاركك همومك و أحزانك و أتقاسم معك حيرتك لكن في المقابل لم ألق منك إلا الجحود و نكران الجميل ... كنت سباقا في قطع صلة الرحم بيننا ... أراك حزينا فلا أستطيع أن أواسيك ، أراك فرحا فلا أقدر أن أهنئك لكن رغم ما بدر منك لم أطق فراقك ... فكبريائي معك دائما ما يكون خارج التغطية ... لم أجد أنسب من هذا الإطار لأشكو إليك منك علك تحس بوحشة لا مبالاتك و ظلمة جحودك ... نحن واحد ... اهتم بنفسك قليلا ... اهتم بي ...

ما إن ينهي كلامه حتى تشعر بقشعريرة تنتاب جسدك ... تقف بعد عناء و مشقة و تتجه صوب الصوت المنبعث ، تحرك يداك في الفضاء لتتحسس هذا الذي يدعي أنه أنت ! لم تلمس شيئا و لم تجد أحدا .. . تسرع إلى باب الغرفة ... تفتحه عسى أن يكشف لك النور هوية الصوت ... و ما إن انفتح الباب حتى تسلل هواء بارد إلى الغرفة و تسلل ضوء باهت ناحية الصوت و حدث ما كنت تخشاه ... لم يكن أحد غيرك بالغرفة ... خرجت من الغرفة بعد أن أحكمت إغلاق الباب و طبعا لم أنس أن أرتدي رداء القوة و الصلابة كالمعتاد ... إذن لو حدث و فارقنا الحياة أخبروهم : أن تلك هي المرة الأولى و الأخيرة التي انهزمنا فيها و نال منا الموت ... أخبروهم أننا كنا أقوياء ... أخبروهم أن دوي ضحكاتنا هائل وصل من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ... أخبروهم أننا كنا صادقين حد الشفافية و آمنا بالأمل حتى الأبدية و خجلنا من الرحمة الإلاهية ... أخبروهم أننا كنا مخلصين لكل شيء ... لكل شخص ... لقد كنا مخلصين حتى للأماكن ... أخبروهم أنه لا يوجد شخص أحبنا أو أحببناه إلا و ألبسناه في قلوبنا تاج التفرد و أجلسناه على عرش الثقة ... و تذكروا أن تخبروهم أننا كنا مفعمين بالحياة و الخيال و الأحلام ... عشنا بفلسفتنا الخاصة و رؤيتنا الشخصية لكل شيء ... لهذا فقط أخبروهم أننا كنا هنا يوما و عشنا دون ذرة ندم واحدة تقريبا ...