في الثّالث من شهر سبتمبر سنة 1945..لم تتوقّف أكياس الرّسائل عن القدوم إلى مكتب بريد مدينة "تيقاسلا" (منذ الفجر حتّى ما بعد الظّهر) و لم يتوقّف الأمر هناك و حسب، بل حتّى أنّ المركز إمتلأ بالعشرات من النّاس الذين يريدون كتابة و بعث الرّسائل إلى أحبّائهم بمناسبة إنتهاء الحرب العالميّة الثّانية ففي ذلك الوقت لم يكن النّاس القادرين على القراءة و الكتابة يمثّلون سوى 12% فقط من مجموع السكّان لذا كانت كتابة الرّسائل عملا شديد الأهميّة في منظومة تبادل الرّسائل بقدر عمل توصيلها.

في ذلك اليوم كما يذكره العمّ جلال، ساعي البريد (و العامل الأكبر سنّا الذي سيتقاعد بعد أربعة أشهر) ذو الثلاثين عاما من الخبرة بجسده السّمين و زيّه الذي يزداد ضيقا مع مرور الأيّام و لحيته البيضاء متوسّطة الطّول التي تزيد من إبتسامته المشهورة لدى كلّ سكّان البلدة ظرافة و إشراقا، تمّ ايصال ما يزيد عن 300 رسالة قام هو شخصيّا بايصال 148 منها.

فور عودته إلى مركز البريد لتناول الغداء وجد المكان غارقا في السّكون نسبيّا فتقدّم إلى إحدى الغرف ليجد بقيّة زملائه من سعاة البريد و كُتّاب ممدّدين في كراسيهم بينما طعامهم موضوع على الطّاولة دون أن يُمسّ منه شيء.

فور رؤيتهم له حيّوه بصوت عال و بدؤوا بالشّكوى له في آن واحد عمّا عانوه في هذا اليوم من آلام في الظّهر و القدمين هذا إضافة إلى المشاكل التي تعرّضوا لها مع العملاء و كان يصغي إليهم واحدا تلو الآخر مثل أيّ والد إلى أبنائه. حاول التّخفيف عنهم بصوته ذو البحّة المميّزة ثمّ انصرف إلى شطيرته المعدّة منزليّا من قبل زوجته.

مرّ بقيّة اليوم على ما يرام و تمّ إيصال جميع الطّرود و الرّسائل. كانت الشّمس قد اقتربت من الغروب حيث عاد جميع السّعاة إلى مركز البريد كي يقوموا بثقب بطاقات عملهم معلنين نهاية يوم عملهم  و من بينهم العمّ جلال لكن إثر مروره بمكتب ما وجد رسالة موضوعة هناك. 

-" يا جماعة، قال العمّ ملتفتا إلى بقيّة العاملين الذي فتحوا الباب هامّين بالخروج، لقد بقيت رسالة هنا..هل نسي أحد منكم إيصالها ؟"

-" لا يهمّ يا عمّ، أجابه أحد زملائه الشّباب، سنوصلها في الغد."

-" لكن-لكن..من المفترض أن يتمّ توصيلها اليوم."

-" لابأس يا عمّ، ردّت إحدى الكاتبات، لقد إنتهى الدّوام و سيتمّ إيصالها في الغد."

ظلّ العمّ جلال يراقب الرّسالة في صمت بينما رحل بقيّة العاملين تاركين إيّاه وحيدا هناك فالتقطها من على الطّاولة قائلا في نفسه: "هذه الرّسالة..عليها أن تكون في مكانها الصّحيح..ما الضرّ بأن تكون هذه رسالتي رقم 149 ؟ أنا متأكّد بأنّ هنالك من يحتاج كلمات هذه الرّسالة." ثمّ انطلق يسير في طرقات البلدة ليلا من أجل إيصال تلك الرّسالة.

نظر إلى ظهر الرّسالة فارتسمت على وجهه إبتسامة فلقد كان هو نفس الحيّ الذي يسكنه و نفس الشّارع أيضا لذا فهذه الرّحلة ستكون في طريق عودته إلى المنزل و لن تتطلّب أيّ جهد إضافيّ، لكنّه لم يستطع معرفة رقم البيت ، ربّما بسبب ضعف نظره، ربّما بسبب الإضاءة الضّعيفة أو ربّما بسبب الخطّ الرّديء ثمّ لمعت في ذهنه ذكرى مضحكة حيث يقوم فيها يتأنيب إبنه بسبب سوء خطّه.

"تُرى هل هو 89 أو 98 أو 99 أو 88 ؟ ،قال العمّ في نفسه، إنتظر..89 ؟! لا لا هذا رقم بيتي..بقيت ثلاث أرقام إذن..هل عليّ أن أقوم بتجربتهم واحدا واحدا و أسألهم إن كانت هذه الرّسالة موجّهة إليهم أم لا ؟ يا إلهي ماذا عليّ أن أفعل ؟"

بعد التّفكير لبعض الوقت قرّر تجربتهم من أصغر رقم إلى أكبرهم لكنّ المفاجأة كانت أنّهم جميعا قالوا أنّها ليست لهم.

" أيعقل أن تكون هذه الرّسالة لي ؟ لا لا..ليس هنالك أحد ليراسلنا..ربّما كان عليّ أن أتركها هناك للغد..عليّ أن أعود للمنزل الآن و سأجد حلاّ في الغد."

إثر دخوله للمنزل نزع جزمته و معطفه و عبر إلى المطبخ ليجد زوجته أمام الموقد تقوم بتحريك الحساء في القدر ببطء و رويّة ثمّ غطّتها ملتفتة إليه بإبتسامة تكافح للظّهور بين تجاعيد خلّفها الزّمان و التّعب، و رحّبت به ملتقطة المعطف بينما جلس هو قرب مائدة الطّعام صابّا لنفسه كأس ماء شربه في مرّة واحدة.

ظلّا يتحدّثان بينما كان الطّعام يوشك أن يجهز. كان حديثا روتينيّا بسيطا، لا يحمل أيّ هدف سوى نقل مشاعر ما بينهما. بعد العشاء، جلس كلّ منهما في غرفة المعيشة حيث يقرأ هو كتابا بينما تقوم هي بحياكة الصّوف و بعد عدّة دقائق صفّر إبريق الشّاي فوقفت هي متوجّهة إلى المطبخ و هناك سقطت الرّسالة من جيب المعطف المعلّق على الكرسيّ فانحنت لالتقاطها بنيّة إعادتها إلى مكانها لكنّها توقّفت فور رؤيتها للخطّ الذي كُتب به العنوان.

هرولت بسرعة إلى العمّ جلال واقفة أمامه بينما أنفاسها تتلاحق بسرعة هائلة و قد التمعت قطرات العرق على جبينها فاعتدل في جلسته محاولا فهم ما يحدث ثمّ قال:

-" ما بك يا امرأة ؟ ما الذي حدث ؟"

-" هذه..الرّسالة"، أجابته بصوت مرتعش.

-" ما بها ؟ إنّها مجرّد رسالة نسيت أن أوصلها"

-" أنت لا تفهم..إنّه-إنّه.."

-" إنّه ماذا ؟!، قاطعها بعد أن وقف شادّا على كتفيها، هيّا تكلّمي..أرجوكي.ّ

-""الخطّ..إنّه الخطّ..خطّ إبني..إنّه خطّ إبني ! أنا لا أستطيع القراءة..لكنّني..أعرفه جيّدا""

-"" ما الذي تقولينه ؟ توقّفي عن قول مثل هذا الهراء""، أجابها ذاهبا إلى النافذة لفتحها و تدخين سيجارة.

-"" أنا متأكّدة..أنا أعلم ذلك..أنا أشعر...""

-"" توقّفي !، صرخ ضاربا الحائط بقبضته، لقد مات..مات مات مات ! ألا تستطيعين أن تفهمي هذا؟! لقد رحل و لن يعود أبدا..هل عليّ أن أعيد لك ما كتبه لنا الجنرال في العام الماضي..لقد مات إبننا في أرض المعركة و لن يعود إلى الحياة من جديد..أتفهمين هذا ؟! إبني..صغيري لن يعود..لن..يعود.""

إنهارت الإمرأة ساقطة على الأرض و لم تتوقّف عن البكاء بينما كان هو يحاول جعل يديه المرتعشتين تقومان بإشعال عود الكبريت لتدخين السيجارة لكن دون جدوى تُذكر فرمى كلّ شيء على الأرض و وضع يده على الحائط محاولا تهدئة أنفاسه ثمّ ذهب إليها و ركع محتضنا إيّاها قائلا:

-"" آسف..أنا حقّا آسف..سامحيني..أنا..""

-"" أرجوك..أنا واثقة من أنّه..أرجوك فلنفتح الرّسالة..""

-"" أنا أرجوكي..لقد فقدت الأمل منذ زمن بعيد..أرجوكي لا تعيديه إليّ..إنّه..مؤلم.""

-"" ثق بي..أنا..أترجّاك..فقط..إفتحها""

وقف العمّ و التقط الرّسالة فاتحا إيّاها ثمّ بدأ يقرأ بأعين تائهة و فجأة إنهار سيل من الدّموع على وجهه و سقطت الورقة في حِجرها فقالت شادّة على سرواله:

-"" أرجوك..أنت تخيفني..ما الذي تقوله هذه الرّسالة ؟""

ظلّ صامتا للحظات ثمّ أجابها بإبتسامة إخترقت دموعه المنهمرة:

-"" إنّه حيّ ! إبني حيّ ! صغيري فعلها !""

في تلك اللّيلة لم تتوقّف الزغاريط عن الصّدور من بيت العمّ جلال، إبنه الوحيد -الذي أُعلن عن وفاته في العام الماضي نظرا لعدم العثور على جثّته- تمّ تحريره رفقة المئات من الرّهائن إثر إعلان نهاية الحرب.  

-النّهاية-

"