(الحزب، تجمعٌ لأفراد لهم مصالح مشتركة من وجهة النظر الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وأنه من أجل استلام السلطة ينشط ويتحرك في إطار برنامج عام).
وإذا أراد أي تنظيم كسب شعبية الناس وتأييدهم له، عليه أن يقدم مصالحهم على مصالحه أولاً. فالأحزاب صاحبة أهداف كبيرة وبعيدة المدى تخص بناء الدولة والنهوض بالأمة ومكافحة التخلف والمرض والجهل، والتصدي للدور الإنساني قبل أي دور آخر له علاقة بالمصالح الذاتية القاصرة ضيقة الرؤية والأفق.
هناك توقّع نمطي عن دور الأحزاب في بناء الدولة، ففي هذه الدول توجد أزمة عدم ثقة بين الأحزاب وشرائح مجتمعية واسعة، والسبب في حقيقة الأمر يعود الى عدم قدرة هذه الأحزاب على تجسيد شعاراتها واقعيا، كذلك يوجد بون شاسع بينها وبين طموحات المجتمع، فالأحزاب هنا أكثر ما تطمح بتحقيقه وتسعى إليه هو الوصول الى السلطة والاستئثار بامتيازاتها من أموال وسلطة ونفوذ وأمثاله.
إن المجتمعات التي تتبنّى الديمقراطية الاقتصادية بما يجعلها في غنىً عن الأحزاب، تحتفظ في نفس الوقت بهذه الأحزاب بوصفها تنظيمات من أجل الكفاح الاجتماعي المُتواصل، وذلك لغاية رفع مستوى الوعي السياسي وتحقيق الخيارات الاجتماعية).
لا يمكن أن يُكتب النجاح للحزب السياسي، طالما كان بعيدا في أهدافه وسلوكياته عن أهداف الشرائح الشعبية الكبيرة، وخاصة تلك التي عانت من الحرمان والعوز، لأن العمل لصالح الحزب وقيادته وأعضائه فقط، تجعل منه حزبا دكتاتوريا بعيدا عن هموم الناس، أما كيف يتحول الحزب من مهمته الوطنية المتعارف عليها، الى حزب ضيق الأفق يعمل في خدمة نفسه ومنافعه، فذلك يرتبط أولا بقيادته التي تسعى الى استثمار الفرص لصالحها ومسخ أعضائها وإضعافهم، وجعلهم من دون إرادة، ومستجيبين لكل ما يصدر عن قيادة الحزب، من دون إتاحة فرصة حرية الرأي او التعبير لهم، لذلك غالبا ما تكون مثل هذه الأحزاب بعيدة عن منصة النجاح.
الأحزاب في البلدان النامية، تفقد نفوذها الاجتماعي وطبيعتها الشعبية تلقائياً، إذا كانت مُمثِلةً بصورة مباشرة للحكومات والنظم السياسية والاجتماعية القائمة في البلاد، فانّ مثل هذه الأحزاب تفتقد للجاذبة السياسية والشعبية.
نجاح الأحزاب في العمل السياسي يرتبط بطبيعة علاقة الحزب بالجماهير أو بعموم المجتمع، فإذا نجح في إقامة علاقة متوازنة تقوم على الثقة والدعم المتبادل، هذا سوف يصب في صالح الحزب قطعا، وفي صالح الجمهور أيضا.
فهل الأحزاب قادرة على أن تكون سنداً وقوةً للجماهير الشعبية ؟
نجد أن الأحزاب السياسية نشأت بدايةً في بريطانيا والولايات المتحدة ثم انتشرت بدايةً من القرن التاسع عشر؛ وبدأ ظهورها فى أوربا وكان لها نوعين: أحزاب ذات أصل داخلي وكانت تتكون من عنصرين أساسيين: أنها نشأت بفعل الناخبين وداخل البرلمانات، بينما النوع الثاني من الأحزاب وهى الأحزاب ذات الأصل الخارجي وكانت نتيجة المساندة القوية من عدة هيئات مثل الكنيسة والنقابات العمالية وغيرهما وكانت بمثابة حركات مقاومة للاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية وتحولت لأحزاب بمجرد انتهاء الاستعمار، بينما انتقال فكرة الأحزاب لدول العالم الثالث كانت من أجل مقاومة الاستعمار وتحرير البلاد مثل حزب الوفد المصرى.
يعتبر عام 1907 هو عام نشأة الأحزاب في مصر وذلك بالرغم من نشأة الحزب الوطني في 1893 أى بعد الثورة العرابية وذلك لاتخاذه طابعًا سريًا في صالون لطيف باشا سليم، أحد الضباط العرابيين، ولكن أكدت الدراسات أنه لم يتخذ الطابع الحزبي المتعارف عليه من حيث الهيكل والبرنامج إلا في عام 1907 وبذلك اُعتبِر هذا العام بمثابة ميلاد الحياة الحزبية في مصر وذلك بسبب نشأة الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل وحزب الأمة بقيادة أحمد لطفي السيد ممثلًا لطبقة كبار الملاك، وعلى الرغم من اختلاف توجهات كلا الحزبين إلا أنهما اشتركا في الهدف وهو مقاومة الاستعمار والمطالبة بجلاء الإحتلال البريطاني عن مصر لذلك حصلا على تأييد الأفراد حتى أصبحوا أكبر حزبين من حيث الشعبية.
ولم يكن الحزب الوطني وحزب الأمة هما الممثلان فقط للحياة الحزبية في مصر بل ظهر مجموعة آخرى من الأحزاب المختلفة في توجهاتها لكنها لم تحظَ بنفس درجة الشعبية والتأييد، ومن هذه الأحزاب: حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية لمؤسسه الشيخ علي يوسف وقد عمل الحزب على تأييد وخدمة القصر، حزب النبلاء لمؤسسه حسن حلمي زادة الذي عمل على دعم الارستقراطيين الأتراك مما جعله في صدام دائم مع الحزب الوطني، الحزب الوطني الحر الذي تغير اسمه فيما بعد لحزب الأحرار بقيادة محمد وحيد وكان ذلك الحزب مواليًا للإنجليز، الحزب المصري بقيادة لويس أخنوخ وقد غالى ذلك الحزب في المناداة بالعلمانية وفصل الدين عن السياسة وطالب بالمساواة في الحقوق بين جميع المصريين دون تمييز على أساس الدين أو الجنس ولكنه لم يحظ بتأييد أو دعم بسبب مواقفه المعتدلة تجاه الاحتلال وقبوله بفكرة وجود تمثيل أجنبي بمصر، الحزب الدستوري بقيادة إدريس راغب وكذلك الحزب الجمهوري بقيادة محمد غانم.
بالنظر إلى تطور حالة الحياة الحزبية في مصر نجد أنها بدأت في مطلع القرن العشرين من خلال ميلاد الحزب الوطني لمواجهة الاحتلال البريطاني، إلا أن البعض يرى أن الميلاد الحقيقي للتجربة الحزبية جاء بنشأة حزب الوفد عقب ثورة 1919 للتعبير عن مطالب الثورة، ولكن حدث تعثر للحياة الحزبية في مصر بقيام ثورة 1952 وذلك من خلال إصدار قرار بإلغاء جميع الأحزاب السياسية نتيجة لفشلها في حل القضايا الوطنية، ولكن بحلول عام 1976 عادت الأحزاب مرة آخرى ولكن يرى البعض أنها كانت عودة شكلية لإضفاء شكل التعددية على النظام الحاكم واستمر الوضع هكذا حتى قامت ثورة يناير في 2011 والتي تلاها ظاهرة “الانفجار الحزبي” المتمثلة في صدور عدد كبير من الأحزاب المختلفة في خلفيتها الفكرية والايديولوجية.
ولكن بعد ثورة 30 يونيو نجد تغيرًا واضحًا للحياة الحزبية في مصر متمثلًا في اختفاء الأحزاب الكبرى سواء القائمة على أساس ديني مثل الحرية والعدالة وبذلك احتكر حزب النور تمثيل الاسلام السياسي في النظام الحزبي.
نرى النقد الموجه لظهور الأحزاب فى دول العالم الثالث نظرًا لأنها لم تتوافق مع فكرة ظهور الأحزاب فى المجتمعات الأوربية التي ارتبطت بفكرة البرلمانات والنظم الانتخابية بينما في دول العالم الثالث ارتبطت بفكرة مقاومة الاستعمار والسعي لتحرير البلاد مما أدى لظهور ظاهرة الحزب الواحد فى معظم هذه البلدان. فيرى البعض أن الثورات تؤدي لزيادة فاعلية الأحزاب، لأن في حالة نجاح الثورات يمكن استبدال الحزب الحاكم بإحدى الأحزاب الفاعلة القوية، ولكن أيضاً يمكن نقد هذا الاتجاه بسبب امكانية نشوء عدد كبير من الأحزاب بعد الثورات مثلما حدث فى مصر وتونس ولكن على أرض الواقع لم يكن لهم فاعلية كبيرة حيث أنهم لم يستطيعوا تحقيق أهدافهم ولم يكن لهم حتى ظهور واضح على أرض الواقع.
ومن الملاحظ أنعلى عدم وجود حزب سياسي معين مُشكَل من قِبل الرئيس عبد الفتاح السيسي حتى لا يكرر فشل تجربة الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني، وبذلك لا يوجد علاقة بين الرئيس وضعف الأحزاب المتواجدة فهو لم يدعمها أو يعاديها.
أرتبط ظهور الأحزاب بالتجارب الانتخابية في العديد من الدول، وهذه التجارب بدأت مع سيادة فكرة الاقتراع العام بدلًا من فكرة وراثة المقاعد أو مقاعد النبلاء، ولذلك ظهرت الكتل التصويتية للدعاية للمرشحين ولم تختفِ تلك الكتل بمجرد انتهاء الانتخابات ولكنها استمرت بعد ذلك لتشكل أحزابًا سياسية عملت على مراقبة أداء السلطة التنفيذية.
لم تكتفِ منظمات الشباب والجمعيات الفكرية والهيئات الدينية والنقابات بكونها جماعات مصالح تخدم أعضائها بل سعت لتصبح أحزابًا سياسية مثل الجمعيات المسيحية في أوربا فهي أساس نشأة الأحزاب المسيحية وكذلك يرجع أصل أحزاب الفلاحين في الدول الاسكندنافية إلى الجمعيات الفلاحية.
أسفرت أزمات التنمية في بعض الأحيان عن نشأة مجموعة من الأحزاب السياسية مثل الأحزاب السياسية التي نشأت في فرنسا أثناء فترة الحكم الملكي في أواخر القرن ال18. مع قيام ثورة 1952 حدث تعثر للحياة الحزبية في مصر وذلك من خلال إصدار مجلس قيادة الثورة قرارًا بإلغاء جميع الأحزاب السياسية في 16 يناير 1953 نتيجة لفشلها في حل القضايا الوطنية ودخولها في الصراعات السياسية وبالتالي أصبحت سببًا في الفساد السياسي عوضًا عن القيام بدروها في العملية السياسية الديمقراطية والقيام بالتغيير الذي يطمح إليه الشعب.
ولكن مع هزيمة 1967 انهارت فكرة الاشتراكية، ولكن حدثت العديد من المحاولات لإعادة إحيائها مرة آخرى خاصةً بعد وفاة جمال عبد الناصر وتولي السادات الحكم ولكن فشلت تلك المحاولات بسبب رغبة السادات في تبني نهج جديد مخالف لنهج عبد الناصر لذلك نجح السادات في إقصاء مؤيدي الإشتراكية، ومع تحقيق النصر في حرب أكتوبر 1973 أعلن الرئيس السادات عن قيام ثلاثة أحزاب لليمين والوسط واليسار مع قيادته لحزب الوسط الذي تحول فيما بعد للحزب الوطني.
واستمر الوضع هكذا حتى عام 1976 وصدور قانون إنشاء الأحزاب مما أدى لتحويل النظام السياسي المصري نحو التعددية الحزبية وبذلك وصل عدد الأحزاب إلى ستة أحزاب وهي حزب مصر العربي الاشتراكي، حزب الأمة، حزب التجمع، حزب الأحرار الاشتراكيين، حزب الوفد الجديد، حزب العمل الاشتراكي.
ومن بعد ذلك جاءت فترة الرئيس الأسبق مبارك والتي اتسمت خلالها الحياة الحزبية بالاستقرار فزاد عدد الأحزاب ليصل إلى 24 حزبًا، وقد أُجرِى استفتاء في مارس 2007 لتعديل المادة (5) من الدستور لتنص على قيام النظام السياسي المصري على أسس التعددية السياسية والحزبية مع حظر قيام أو تأسيس أى حزب أو تنظيم سياسي على أساس ديني، وكذلك سمح للمواطنين بحرية تشكيل الأحزاب السياسية وفقًا لما ينظمه القانون، وكذلك تم تعديل المادة (76) من الدستور لتسمح بقدر أكبر من الحرية للسماح للأحزاب بالترشح لمنصب رئيس الجمهورية وذلك من خلال شرط وهو مضي خمس سنوات على تأسيسها قبل فتح باب الترشح للانتخابات، وعلى الرغم من هذه الاصلاحات القانونية والدستورية إلا أن أغلب تلك الأحزاب كانت أحزابًا هامشية بسبب وجود الحزب الوطني الذي كان دائمًا يسعى للهيمنة على الحياة السياسية.
الأحزاب السياسية بعد ثورة 23 يوليو لم تكن نتيجة حراك سياسي حقيقي ولم يفرزها الشارع المصري ولكن أغلبها تشكل وفقًا لقرارات سيادية. سيطرة الحزب الوطني على الحياة السياسية والحزبية في مصر من خلال سيطرته على مقاليد الحكم من جهة وكذلك سيطرته على قيام الأحزاب من جهة ثانية من خلال لجنة شئون الأحزاب، وبالتالي يصبح الحزب الوطني هو المتحكم في اختيار منافسيه من الأحزاب الآخرى.
التجربة الديمقراطية الحقيقية لا تكون بعدد الأحزاب بقدر فاعلية تلك الأحزاب وقدرتها على المنافسة الحقيقية وهو ما فشلت فيه الأحزاب المصرية حيث استطاع الحزب الوطني الهيمنة على كافة الاستحقاقات الانتخابية وبالتالي أصبحت باقي الأحزاب شكلية أو كرتونية لإضفاء الطابع الديمقراطي على النظام السياسي المصري.