د. علي بانافع
في الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) خرجنا قبل الظهر متوجهين إلى مشعر منى للمبيت فيها، ونحن نصدح ونردد "لبيك اللهم لبيك، لبَّيْك لا شريك لك لبَّيْك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، وبعد أن وصلنا إلى مفترق طرق يمتد أحدهما طويلاً إلى الأمام حيث العودة إلى العزيزية، والآخر نازلٌ إلى الخلف حيث مشعر منى، وإذا بي أفقد من شدة الزحام كل من كان بصحبتي وعددهم ثمانية إخوة وحجاج أفاضل، ومن عادتي أن لا أرتبك ولا أفقد توازني في مثل هذه الحالات، واحتفظ برباطة جأشي وكأن شيئاً لم يكن بالمرة، إذ من المؤكد أن لله تعالى في افتراقي عن صُحبتي ورفاقي هاهنا حكمة، وكل الطرق تؤدي إلى المناسك والعلامات الإرشادية في كل مكان تقريباً، ومع أنني ورفاقي -قبل الحج المبارك- قد أعددنا خطة بسيطة، إلا أن مشاهدة المناسك وتطبيقها واقعاً شيء والتخطيط لها شيء آخر تماماً، حيث الملايين من الحجاج ومن جميع قارات العالم من حولك، لا فرق بين أسود ولا أبيض ولا أخضر ولا أصفر ولا أحمر إلا بالتقوى، فوجدتني وكأنني لم أُخطط ولم احج قط من قبل!!
المهم قررت سلوك الطريق النازل وإذا بي في مشعر منى وجامع الخيف بمناراته الأربع الشامخة، فيما على ما يبدو بأن بقية الإخوة قد مضوا قدماً إلى مخيمات المبيت حيث مقرنا، وبقيت هناك إلى اليوم التاسع من ذي الحجة حيث الوقوف بعرفات بعد شروق الشمس، وقد غفوت ليلاً بعيداً عن المخيم على الأرض مقابل رصيف مركز للدفاع المدني، وكنت استحضر وكلما نظرت إلى حالي والتراب يعلو ملابس الإحرام وأنا بعيد عن بيتي وأهلي وعن فراشي الوثير افترش الارض والتحف السماء، تذكرت قول شيخ كريّم رحمه الله رن في أذني -كأنه يقوله اللحظة- حين قاله لي قبل أيام من أول رحلة حج في حياتي هذه الكلمات وبالحرف: "الحج -يا بُني- هو أن تتمرغ وتتبهذل في سبيل الله، فلا يبقى من كِبرك ولا خُيلائك ولا غَطرستك ولا أَنفتك الزائفة شيء قط، وستتعلم كيفية الانكسار والتذلل بين يدي الله سبحانه وتعالى بكل خطوة ومنسك وشعيرة بمعنى الكلمة".
المهم أن طيلة اليوم كانت الاتصالات لا تتوقف من قبل الإخوة الذين فقدتهم وافترقنا للاطمئنان عَلَيَّ جزاهم الله خير الجزاء، إلا أن اللقاء بهم كان مستحيلاً في يوم عرفة وليلة المزدلفة ثم صباح العيد بمشعر منى حيث رمي الجمار وبعدها الحلق أو التقصير، فعشت حالة من التأمل -لم أمر بها يوماً في حياتي- وأنا أُمعن النظر بكل هذه الوجوه مُختلفة الألوان، وبكل هذه الأُلسن متعددة اللغات واللهجات، وكل هذه الأُمم التي تَلبس لباساً واحداً أبيض اللون، لا فرق بين غني ولا فقير، وقد ترى بأم عينيك -مراراً وتكراراً- باكستانيون، أفارقة، بنغال، هنود، جاوه، يُضَيِّفُون بعضهم بعضا هذا بشاي وبسكويت وذاك ببرتقال وآخر بتمر وموز ... الخ.
نصيحة أخوية من مُحب إلى كل من يرغب الحج أو كُتب له الحج مستقبلاً، ولم يَكُنْ كبيراً في السن، ولم يكن مصاحباً لأم أو أب عاجزين أو طاعنين في السن -هو ملزم بصحبة أحدهما- بأن لا تتقيد بموضوعة المخيمات المخصصة لكل حملة، واتركها لكبار السن والعجزة وأصحاب الأمراض المزمنة شافاهم الله تعالى جميعاً وعافاهم، وحاول أن لا تلتزم لا بالحملة ولا بالصُحبة كذلك، وكن حُراً طَليقاً من غير مخيمات، واحرص على المشي والسير على قدميك طِيلة الرحلة التي تبدأ في اليوم الثامن من ذي الحجة بدلاً من ركوب الحافلة أياً كان نوعها، لأنك ستتشرف بكل المناسك في أماكنها المرسومة بخلاف المخيمات التي ستكون مقيداً فيها مع موكب طويل عريض وقافلة من الحجاج كبيرة، وبالتالي فأنت لن تُصلي في مسجد نمرة، ولا في مسجد الخيف ولن تتمكن من الصعود على جبل الرحمة بعرفات، بل ستظل بعيداً عن كل هذه الأماكن الطاهرة -وحجتك صحيحة- بسبب الحافلات التي ستحشر حشراً عند منتصف الطريق، ولن تسير بك إلا لماماً وسط الزحام وبشق الأنفس. عن أحداث اليوم التاسع من ذي الحجة ويوم عرفة حديث مقبل إن شاء الله ..